الشيخ المبدع الفنان المتألق أحمد بن الحسين الزيتوني الصحراوي -1-
جريدة الشمال – عبد المجيد السملالي ( أحمد بن الحسين الزيتوني الصحراوي )
الإثنين 11 شتنبر 2017 – 14:51:11
إن الحديث عن الشيخ أحمد الزيتوني هو حديث ذو شجون، يصعب على الباحث الاحاطة بجميع مؤهلات الرجل الفنية الكبيرة أو عرض عطاءاته الغزيرة في موسيقى الآلة المغربية، فقد اجتمع في هذا الفنان المبدع ما تفرق في غيره، فهو شعلة ذكاء، ذو ذهن وقاد، رجل مطلع على دقائق المواضيع الفنية، ويمتاز بسعة اطلاعه على الموروث التراث الفني المغربي والعربي، كما يحتفظ ـ رغم تقدمه في السن ـ بارك الله في عمره، بذاكرة قوية تختزن الكثير من المحفوظات الشعرية والذكريات الفنية التي عاشها في المغرب وخارجه، ناهيك عن الهمة العالية في بلوغ غاياته وإنجاز أعماله الفنية، والعمل الدؤوب المتواصل على تحسين أداء الصنعة الأصيلة، والاجتهاد المتواصل في إبداع التواشي وترميم وتلحين الصنائع والميازين المفقودة.
ولد الفنان المبدع أحمد بن الحسين الزيتوني الصحراوي بمدينة طنجة، في نهاية العشرينات من القرن 20م، وذلك سنة 1348هـ/1929م. وكانت المدينة يومئذ ترزح تحت النفوذ الدولي، وتعج بمختلف الجاليات الأوربية التي اختار بعض أفرادها العيش وسط المدينة القديمة. نشأ المترجم له وسط أسرة متواضعة محاطا برعاية أسرته الصغيرة، وكعامة أبناء جيله نال قسطا من التعليم في الكتاب القرآني، ومنذ صغره أبدى ميله إلى الموسيقى، وبدأ رحلته مع الفن والطرب في مقتبل عمره، فكان يهوى صنع الآلات الموسيقية من العلب المعدنية التي كانت تتاح له أو تنتهي إليها يده، وفي شبابه شرع في عزف الكنبري، ثم صار عازفا محترفا سنة 1947م.
في بداية ممارسته الفنية اهتم أحمد الزيتوني بجميع الألوان الموسيقية المعروفة في محيطه: الأغنية المغربية العصرية، والطرب الجبلي، والموسيقى الشرقية، وبعد ذلك حَوَّلَ اهتمامه نحو موسيقى الآلة المغربية التي كان لها منتديات الكثيرة بطنجة، المتمثلة في مجموعة كبيرة من المقاهي التي كانت بمثابة أندية فنية يلتقي فيها المولعون باالموسيقى، وكانت بامتياز مجمع كبار هواة طرب الألة، وشغف في هذه المرحلة بهذا التراث الفني الأصيل، وحرص كل الحرص على حضور مجالس طرب الألة أينما وجدت.
وفي شبابه (نهاية الأربعينات من القرن الماضي) كان الفنان أحمد الزيتوني يتردد على بيت الشريف مولاي أحمد بن عبدالسلام الوزاني (ت 1965م) (دار الضمانة) بحي دار البارود، وكان هذا البيت من أهم البيوتات الطنجية التي كان يلتئم في رحابها أسبوعيا هواة طرب الألة، وتعقد فيها مجالس فنية تعزف فيها ميازين تامة من هذا الطرب الأصيل، ولم يكن يتخلف عن الحضور في هذا الملتقى الأسبوعي منشدو وهواة الصنعة الأندلسية أمثال: سيدي مَحمد العمراني ومحمد الفيلالي المكناسي، وصديقه الفنان العازف البارع على آلة الألطو أحمد الرايس (ولد ميمونة) رحمة الله عليهم جميعا.
ولما اشتد ولعه بطرب الألة وهام في أودية نوباتها، عكف على حفظ الكثير من الصنائع بجميع رواياتها المختلفة المتداولة في دائرة الهواة، ثم سعى إلى البحث عن الصنائع النادرة أو التي كان يعتقد أنها ضائعة.
ومن أجل الشيوخ الذين أفاد منهم أحمد الزيتوني في طرب الألة، وتتلمذ لهم وانتفع بعلمهم في هذا المضمار:
1.المعلم محمد المودن الشفشاوني : كان له محل لبيع الحلويات بالقرب من عقبة سيدي محمد بن ريسول من حومة أمراح، وقد تلقى عنه ميزان بطايحي عراق العجم كاملا، وكان شيخه سي محمد المودن يعتبر من الحفظة المجيدين لصنائع الألة ومن العازفين الماهرين على آلة الكمان الألطو، وقد لازمه في الفترة الممتدة من سنة 1947 إلى سنة 1950، وكان هذا أستاذًا مقتدرا في تلقين الصنعة الأندلسية، وعنه أخذ نخبة من شباب طنجة أمثال: سيدي حمزة، وسيدي عبد اللطيف نجلي الفنان الشريف مولاي أحمد الوزاني.
2.الحسين التواتي (دار الضمانة) : تلقى عنه بعض المعارف الفنية ، كما أخذ عنه عددا لا يستهان به من صنائع الآلة.
3.أحمد الدّْرَاعي : ولما كان حب المترجم له شديدا لطرب الألة، وهيامه بكل طارف وتليد فيه، شرع الفنان أحمد الزيتوني في البحث عن كل ما ينقصه من صنائع التي لم تصلها يده، ولم يطرقها سمعه. وفي سنة 1949م، تستنى له الظفر بصنعة ( قنطرة) من بطايحي الماية (يا عشيا مهلا على مجالس الفرجات)، وقد أفاده بها وتلقاها مباشرة من السيد أحمد الدّْرَاعي، أحد أبناء حي المصلى بطنجة، وكان وقتئذ معدودا من هواة طرب الألة المعتبرين، ومن العازفين المهرة على العود الرباعي، فدفع له الفنان أحمد الزيتوني في مقابل تلك الصنعة عشر بسيطات من العملة الإسبانية المتداولة يومئذ في مدينة طنجة الدولية.
ومن أبرز شيوخه في هذا المضمار الفني أيضا، واستفاد من خبرتهم الفنية العالية، ومن معرفتهم الدقيقة بنوبات طرب الألة، وبعض أولائك يعدون من رواد الطرب الأصيل ومن كبار الفنانين الأكفاء المشهود لهم بالريادة والتألق على الصعيد الوطني أمثال:
1. الفنان محمد بن العربي التمسماني : لازمه مدة طويلة في مدينة طنجة، وكان دائم الاتصال به للإفادة من معارفه الفنية والظفر من خلاله ببعض الصنائع المحلية النادرة التي تلقاها عن شيوخ الصنعة بمدينة تطوان التي كان قد استقر بها شيخه المذكور بعيد استقلال المغرب،وعُهِدَ إليه منذ تلك الحقبة برئاسة المعهد الموسيقى.
2. عميد موسيقى الألة الفنان مولاي أحمد الوكيلي : لم يكن أحمد الزيتوني تفته فرصة حضور مولاي أحمد الوكيلي إلى طنجة لتجديد الصلة بأهله وبأصدقائه الفنانين الذين أسسوا معه في نهاية الثلاثينات جمعية فنية تعنى بطرب الألة أطلقوا عليها: (جمعية إخوان الفن). وكان المترجم له يغتنم هذه المناسبة للاجتماع به ومذاكرته في الجوانب الفنية المتصلة بطرب الألة، كما كان يسعى جاهدا إلى الاغتراف من معين فهمه الدقيق للتراث الموسيقي المغربي المتمثل في طرب الألة، ولم يكن يتأتى له ذلك إلا من خلال جلسات مطولة معه.
3. الفنان المبدع العربي السيار : اتصل الزيتوني به وأبدى حماسا في الأخذ عنه والتلمذة له، وحرص أيما حرص في البداية على تلقى بعض صنائع الألة فقط، ثم تلقن عنه ميزانا كاملا هو: ميزان قدام عراق العجم.
وكعامة أبناء مدينته الشغوفين بالفن والطرب، استهوت الزيتوني كافة الأنماط الموسيقي المغربية والمشرقية، وسعى رفقة بعض أصدقائه إلى المشاركة في الأنشطة الفنية التي كانت تحييها جمعية الوعي القومي التي كانت يومذاك تابعة للشبيبة الاستقلالية بالمدينة، ومجمل عروضها المقدمة كانت تتمثل في الأغاني المغربية والشرقية أو التمثيل المسرحي.
وإيمانا من نخبة الشباب بطنجة، وكان الفنان أحمد الزيتوني أحدهم، بضرورة الحفاظ على الموروث الفني الموسيقي، وبأهمية تلقين الشباب أصول الموسيقى العربية، قامت تلك النخبة بتأسيس جمعية فنية أطلقوا عليها اسم:جمعية هواة الموسيقى العربية سنة 1957م، أسندت رئاستها إلى مولاي إدريس شريف دوزان، ولما أنشئَ جوق موسيقي تابع لتلك الجمعية عُهد إلى أحمد الزيتوني بالإشراف عليه وتدريب أعضائه.
وقد شارك هذا الجوق في ملتقيات فنية داخل المدينة وخارجها، ففي سنة 1959 دعي جوق جمعية هواة الموسيقى العربية للمشاركة في ملتقى المعمورة للموسيقى.
كما أسس الفنان أحمد الزيتوني مع ثلة من رفاقه جوقا موسيقيا كان تابعا لجمعية الهلال، وكان يسهر على تدريب أفراده ويَجدُّ في تمرينهم على مجموعة من القطع الموسيقية بإذاعة طنجة، لكن مع الأسف هذه التجربة لم تدم طويلا، ولم يكتب لهذا المشروع الفني النجاح والاستمرار.
ولكفاءته الفنية وجودة عزفه وجَّهَ إليه في بداية الستينات، رئيس جوق الإذاعة لطرب الألة مولاي أحمد الوكيلي دعوة الالتحاق بجوق الإذاعة، فلم يتردد في الانضمام إلى ذاك الجوق العتيد وشدَّ الرحلة إلى الرباط وكله أمل في الاستفادة من خبرة شيخه في أداة الصنعة الأصيلة، ومما يأسف له أن إقامته بالرباط لم تدم إلا بضعة أيام، تسنى له خلالها فقط التمرن مع الجوق المذكور على ميزان بسيط الإصبهان المديحي، ثم ولَّى وجهته نحو مسقط رأسه نظراً لظروف عائلية قاهرة كانت تحتم عليه العودة والاستقرار بجانب أسرته.
انخرط أحمد الزيتوني في سلك الوظيفة العمومية، فعمل في صفوف القوات المساعدة فترة من الزمن، ثم استعفى من وظيفته سنة 1969م، ورغب في التفرغ للعمل الفني الذي كان يهواه، والتحق أستاذا بالمعهد الموسيقي بطنجة وعهد إليه بتدريس الكمان والكمان.
وخلال عقود من الزمن التي قضاها في هذا المعهد تتلمذ له مجوعة كبيرة من الموسيقيين، وتعلم على يديه أمهر العازفين الحاليين بطنجة، وأشهر رموز موسيقى الألة بالمدينة أمثال: جمال الدين بن علال، محمد العربي السرغيني،عمر المتيوي، نبيل العرفاوي، عبدالسلام الخلوفي، عبد السلام العمراني بوخبزة، عبد المجيد المودن، رشيد التسولي….
وفي سنة 1981م وبمبادرة من الأستاذ محمد الرايسي مدير المعهد الموسيقى بطنجة، وتنفيذا لتوجيهات وزارة الشؤون الثقافية أنذاك، تقرر إنشاء جوق المعهد الموسيقي، ولم يختر لرئاسته سوى الفنان المقتدر أحمد الزيتوني نظراً لما يتميز من كفاءة وخبرة في الصنعة الأندلسية.
ورغم بلوغه سن التقاعد واصل الفنان أحمد الزيتوني تلقين الصنعة الأندلسية الأصيلة إلى كل من طرق بابه، وأبدى رغبة في تحصيل مبادئ طرب الألة أو الإلمام الكبير بأصول هذا الفن الأصيل، فلم يكن يبخل على قاصديه من هواة طرب الألة بما لديه من المعلومات، كما كان يبذل إليهم ما انتهت إليه اجتهاداته في تحسين أداء هذا الطرب، ولم يكن بمستطاع أولئك الهواة الظفر بتلك الفوائد الفنية، والصنائع الغالية إلا بواسطة هذا الفنان الأصيل..