الشيخ عبد الباري الزّمزمي رائد الوسطيّة وفقه النوازل إلى دار الخُلد
جريدة الشمال – عزيز كنوني ( ‹‹ المُفتي والفقيه عبد الباري الزّمزمي›› )
الخميس 18 فبراير 2015 – 15:51:51
الشيخ سيدي عبد الباري الزمزمي، عالم بارز من علماء المغرب والمشرق، اشتهر بغزارة علمه وطهارة مسلكه، وعفة لسانه وقوة بيانه وتمسكه بالكتاب والسنة في تفكيره وتقريره، وبجرأته النادرة وصراحته المثيرة في تناول مختلف القضايا التي يدعى لإعطاء رأي الشرع فيها، من مستجدات المجتمع المعاشة يوميا والمستعصي إدراكها على العامة، سالكا في ذلك طريق البحث والنظر والاستدلال والاجتهاد، وفق مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة، وداعيا إلى نبذ البدع والهرطقات وكل أشكال التشدد والغلو، والتجاوز والتعصب .
كما أنه اشتهر بين العلماء المسلمين بتمسكه بالوسطية والدعوة لها في خطبه وكتاباته ودروسه ومناظراته. وتميز أيضا، رحمه الله، بدعوته إلى وحدة العلماء والحركات الإسلامية من أجل منح العمل الدعوي قوة أكبر ومصداقية أوسع، على مستوى العالم، ومواجهة مختلف التيارات المعادية للإسلام الحق، داخل العالم الإسلامي وخارجه.
ومن حسناته أيضا، أنه كان سباقا إلى فقه النوازل، حيث أسس الجمعية المغربية للدراسات في فقه النوازل وهو فقه يتعامل مع القضايا والمستجدات من أمور الحياة التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية ويسعون، من باب الوازع الديني ، إلى معرفة رأي الشرع فيها، فكان رحمه الله، يجتهد في البحث عن الإجابات التي يعتقد أن فيها قضاء لحاجات السائلين، انطلاقا من الكتاب والسنة، ويختم ، دائما ، على نهج العلماء التقاة، بعبارة “والله أعلم”. وقد تسببت له بعض إجاباته الصريحة والجريئة، في الكثير من المتاعب مع دعاة الغلو والتزمت والخمول، ومع أصحاب النيات السيئة والغايات الشيطانية الذين لم يراعي بعضهم جلال الموت وقدسيته، فشيعوه بإشارات تعبر عن أزمة قيم في الأخلاق المغربية وعند بعض مروجي الحقد والتفاهة في صحف نزلت في آخر ساعة ( ! ) لنشر العبث والكراهية والتفرقة…….
بينما رسول الإسلام ينهى عن ذكر موتى المسلمين بسوء “إذا مات صاحبكم، فادعوه، لا تقعوا فيه”، وفي حديث آخر، “لا تذكروا هلكاكم إلا بخير” …..ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يرحل هذا العالم الجليل عن دنيا الفناء بعد مرض لم يمهله طويلا، وعند شعوره بدنو أجله، وهو في مصحة خاصة بالدار البيضاء، طلب أن يغادر إلى بيته بطنجة، حيث أسلم الروح لباريها لحظات بعد وصوله إلى بيته، مخلفا حزنا كبيرا وألما عميقا في نفوس أهله وتلامذته ومحبيه وهم كثر في طنجة وفي المغرب والمشرق، حيث كان يحظى بتقدير كبار العلماء في العالم العربي والإسلامي.

وفد نعاه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي في بيان وصف عالمنا الراحل، كرم الله مثواه، بــ “رائد الوسطية” و “الداعية الإسلامي المتمكن من فقه الواقع “، كما ذكر بأن سيدي عبد البار الزمزمي سليل بيت علم وعلماء، ويعد من أبرز مؤسسي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وبأنه مؤسس ورئيس “لجمعية المغربية للدراسات في فقه النوازل” وأنه أحد أبرز علماء الدعوة الإسلامية التي كرس حياته لنشرها، كما اجتهد في السعي إلى وحدة العلماء والحركات الإسلامية بالعالم العربي والإسلامي. وأن له في هذا الباب مبادرات ضمنها كتابه بعنوان “آفاق الصحوة الإسلامية بالمغرب”.
وقد أحدثت وفاته حزنا عميقا داخل أسرته الصغيرة وبين مختلف فئات المجتمع الطنجي ، بعلمائه وأهاليه وأعيانه وفي صفوف تلامذته ومعارفه العديدين بطنجة وبمختلف جهات المغرب إذ كان الفقيد العزيز يحظى بمحبة واحترام وتقدير الجميع، لدوره البارز في مجال الدعوة ، والإقبال الكبير الذي كانت تشهده دروسه ومحاضراته وخطبه المنبرية التي منع منها أربع مرات، لأنها كانت تعتبر “مزعجة” بما كانت تحمل من تنديد بالظلم والفساد ومن دعوة إلى الإصلاح والهدى والرشاد. وحتى حين نجح في الفوز بمقعد بالبرلمان، عن حزب “النهضة والفضيلة” كان موضوع “مضايقات” من كل الجهات التي يضيق صدر أصحابها عن قول الحق و التنديد بالظلم والفساد.
ولم تكن تلك الظروف لتثنيه عن التواصل مع الناس، خاصة عبر وسائل الإعلام محليا وعربيا، حيث كان يدعى لإعطاء رأيه في أهم القضايا التي تشغل بال الرأي العام من وجهة الشرع الإسلامي. كما أن فتاويه ومقالاته في العديد من الصحف ظلت وسيلة الاتصال بينه وبين مريديه ومحبيه وعارفي قدره وفضله، ما يدل على مكانته الرفيعة في شتى المحافل داخل وخارج الوطن.
كانت ولادة الشيخ سيدي عبد الباري الزمزمي سنة 1943، بمدينة طنجة، مهد الزاوية الدرقاوية الصديقية، ووسط عائلة اشتهرت بالزهد والتصوف والصلاح، وبنشر العلم والدعوة الإسلامية، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تكوين شخصيته، حيث حفظ القرآن الكريم مبكرا، وتلقى دروس الفقه والعلوم الشرعية على والده، الشيخ سيدي محمد الزمزمي، الذي كان واحدا ككل إخوته، من كبار علماء المغرب والمشرق، حتى إذا اشتد عوده واتسع تحصيله من المعارف والعلوم، تفرغ، كوالده وأعمامه العلماء الافاضل، للدعوة بطنجة، عبر الخطب والدروس التي كان يلقيها بمسجد والده بحسنونة قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء، سنة 1976، خطيبا وإماما في بعض مساجد هذه المدينة. وتميزت خطبه ودروسه ومحاضراته، على الدوام، بالدعوة إلى الوسطية وإلى الاجتهاد اعتبارا لتطور الحياة والعمل على التوفيق بين فقه النوازل والمستجدات في حياة الناس، بما يخدم الإسلام والمسلمين ويشدهم إلى الدين الحنيف ويصدهم عن القبول بالبدع والخرافات.
وقد شيعت جنازة الراحل العزيز في موكب رهيب، شاركت فيه جموع المواطنين البسطاء، من كل الفئات والأعمار، فضلا عن أفراد العائلة الصديقية الشريفة علما ونسبا، وطلبة العلم الذين تتلمذوا عليه في مدرسة والده التي أنشأها بجانب مسجد “هدى الرسول”، وأعداد كبيرة من محبيه وعارفي قدره وفضله، ومريدي الزاوية الصديقية الواسعة الانتشار بالمغرب، وأصدقائه من مختلف مدن المغرب.
وكان غياب ما يسمى بـ “الرسميين” واضحا في موكب الجنازة الذي انطلق من بيته بالدرادب إلى مسجد والده بحسنونة، وكان حضور سيدي محمد كنون الحسني، رئيس المجلس العلمي ملحوظا، قيما غابت السلطة المحلية والمجلس البلدي والهيئات المنتخبة الأخرى . ومعلوم أن الأعذار التي التمسها مسؤولو المجلس البلدي لم تقنع أحدا لمكانة الراحل العلمية والأدبية والسياسية، ولأنه ابن طنجة، ويكفي مدينته شرفا وفخرا أن تنفرد بكون أحد أبنائها يوجد من بين المؤسسين الأوائل للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين….
بعد صلاة الجنازة التي حضرها أخ الراحل، أبي بن الصديق وابنه وهب، وكان التأثر باديا على وجههما وعلى وجوه كافة المشيعين، ووري الشيخ الجليل سيدي عبد الباري الزمزمي التراب عند قدمي والدته وفق رغبته ووصيته رحمه الله وأكرم مثواه وخلد في الصالحات ذكره وعزاؤنا لأولاده وأخيه وأسرته الشريفة وإلى كل أصدقائه ومحبيه وعارفي قدره وفضله وإنا لله وإنا إليه راجعون..