الشيخ في التراث الصوفي -قراءة موجزة-
الجمعة 21 أكتوبر 2016 – 11:42:54
ممّا لا شكَ فيه أننا نجد جَدلاً فكريًا كبيرًا حول مفهوم الشيخ الصوفي، هذا الجدل تتنازعه الاتجاهات، وتتقاذفه التأويلات، ويدلي فيه كل واحد بدلوه بحسب قربه أو بعده عن التجربة الصوفية، ولكننا نجد قاسما مشتركا بين أصحاب هذا الجدل، ومنطقة مشتركة لا يكاد يخلو منها مؤلف من المؤلفات المعتبرة في هذا الميدان، هذا القاسم المشترك هو الاعتراف بوجود الشيخ الصوفي الصادق في تاريخ الأمة، إذ أننا نجد حتى من يعتمد عليه منتقدو الصوفية أمثال الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يقر بهذه الحقيقة. يقول ابن تيمية: “والمشايخ المستقيمون كالفضيل بن عياض، وابراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الدراني، ومعروف الكرخي وأمثالهم، هم المتبعون للكتاب والسنة، والصوفية المتبعون لهم هم صوفية أهل السنة والحديث في اعتقادهم وفي عملهم، فهم يؤمنون بما أخبر به الرسول ويمتثلون ما أمر الله به يصدقونه في خبره ويطيعونه في أمره، ومن كان كذلك فهو من أولياء الله المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”[1].ومما لاشك فيه أن مبتغى الأمة لتستقيم حياتها الروحية هم هؤلاء المشايخ الصادقون المستقيمون.
وهل يقول عاقل بصحبة شيخ غير صادق ولا مستقيم، بل إن الانتفاع في هذه الأمة لم يتم إلا بتربية الشيوخ الصادقين لأتباع صادقين.ويكفي من لم يعش التجربة الصوفية ويعلم حقيقتها أن يتجنب الطعن في الصادقين منهم، مقتديا بهذه القولة لابن تيمية: “… تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت “الصوفية والتصوف “.وقالوا :إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة…وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء…والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب…”[2].قال الحاكم في المستدرك : الصوفية: طائفة من طوائف المسلمين، فمنهم أخيار… لا كما يتوهمه رعاع الناس وعوامهم، ولو علموا محل الطبقة الأولى منهم من الإسلام، وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمسكوا عن كثير من الوقيعة فيهم[3].
إن التمييز بين الصادقين من الصوفية والمدعين منهم هي نصيحة العلماء الذين لم يريدوا أن يحرموا الأمة من الميراث النبوي الروحي، بعكس أولئك الذين رفعوا شعار الإنكار والتشويه لكل ما هو روحي وصوفي، يقول ابن القيم الجوزية عن الصحبة الصوفية: “قال تعالى: “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا “[4]، فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه هو الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا، ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفسر بالإسراف أي قد فرط، وفسر بالإهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر إلى شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى وإتباع سنته وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليتمسك بغرزه…”[5] إن السابقين المقربين من الصوفية، الذين اجتهدوا في التقرب إلى الله تعالى، قد أكرمهم الله بخصوصيات، وقد جادل الشوكاني من ينكرهذه الخصوصيات التي ينسبها الصوفية للشيخ المربي الصادق الذي تولاه الله تعالى قائلا: “وأي مانع من أن يمد الله سبحانه عبده من نوره، فيصير صافيا من كدورات الحيوانية الإنسانية، لاحقا بالعالم العلوي، سامعا بنور الله مبصرا بنور الله… وما في هذا من مانع أو من أمر لايجوز على الرب سبحانه وقد سأله رسوله صلى الله عليه وسلم وطلبه من ربه”[6].
من المؤكد أن صحبة الشيخ الصوفي هي تجربة انسانية ذات بعد روحي، وقد تعددت التجارب الروحية و الصوفية، واختلفت من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان، بيد أن التجارب الصوفية الصادقة تركت بصماتها في تاريخ الأمة، وشكل أصحابها منارات تمتح منها الأمة الإسلامية قيمها الأخلاقية العليا، وقد بدأت هذه التجارب الصوفية بلقاء أول بين الشيخ والسالك، واللقاء الروحي الأول هو لقاء له خصوصياته. إن هذا اللقاء هو لقاء بين عقلين أحدهما مغرق في عالم السببية، لايؤمن إلا بالأسباب ونتائجها، ويصل إلى حد تأليه هذه الأسباب، وعقل يؤمن بالأسباب ولكنه يؤمن بأن هذه السببية لها خالقها، لذلك فإيمانه بمسبب الأسباب أشد وأعمق، فهو يلجأ إليه في كل صغيرة وكبيرة، فقد عرف مسبب الأسباب، ولزم هذه المعرفة فأصبحت له منهجا يحكم عقله وفكره ووجدانه.
فهو يرى في تجربته الصوفية العجب العجاب، فيعلم أنه عبد لرب قادر على كل شئ. إن هذا اللقاء الأول هو لقاء بين عقلين، عقل اعتقل بعقال الماديات لا يرى غيرها،وعقل استنار بنور الله فإذا هو يرى في مرآة المكونات ما لم يره من قبل، وإذا المكونات تتحول إلى آيات ربانية عوض أن تبقى ظواهر طبيعية فحسب، إنه عقل يستمد من المعرفة القلبية كما يوظف المعرفة العقلية. انه لقاء بين فكرين، فكر قادم من عالم لا يسبح إلا في عالم المادي والمحسوس، وفكر تجاوز المحسوسات والماديات ليسبح في بحار من الأنوار الربانية و الاستمدادات النبوية.إنه لقاء بين فكرين، فكر مرتبط بالمكونات، يرحل من كون إلى كون، وفكر مرتبط بالمكون، رحل من الكون إلى المكون.
إنه لقاء بين قلبين قلب بقي سجين الحواس، وقلب تسلل من بين قضبان الحواس ليطل على عالم فسيح، وعد الله به عباده الصالحين المحبين والمحبوبين، فإذا هذا القلب يرى ما لا تراه العين، ويسمع مالا تسمعه الأذن، لأنه بالمحبة الإلهية تحقق له الوعد الإلهي الذي جاء فيه: ” كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به”[7]، فغدا سمعه ربانيا،وبصره ربانيا، فكيف لا يسمع ما لا يسمعه الغافلون، ويبصر ما لا يبصره الغافلون، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم عن أن يكون من الغافلين، فقال تعالى: “ولاتكن من الغافلين “[8].
اعتبرت العلاقة الأخلاقية في الفكر الإنساني عموما علاقة” للأنا بالآخر”، وبقيت أغلب الرؤى حبيسة سجن هذه الثنائية في تنظيرها لهذه العلاقة. لقد اعتبرت هذه الرؤى الأخلاق تعاملا للذات مع الخلق، غير أننا نجد الفكر الصوفي قد كسر قيود هذه الثنائية، ولم تستقطبه جاذبية قطبيها، وذلك لسبب بسيط هوأنه نفى علاقة التضاد التي اعتمدها النظر الإنساني عموما بين الأ نا والآخر… إننا لا ندعي أن الممارسة الأخلاقية في الدين الإسلامي لا تخضع في بعض مستوياتها إلى ما يمكن أن يكون صحيحا وثابتا في الخطاب الأخلاقي العقلا ني، وذلك لأ ننا نجد علاقة الأ نا بالآخر في مرتبة الإسلام منظمة بمنطق الحقوق والواجبات، ومدى حضور المنافع والمصالح، كما أنها في مرتبة الإيمان تسمو عن هذا المنطق نوعا ما ليحضر تصور تطابق الأ نا والآخر، مصداقا للحديث الشريف”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”[9]. ولكننا هنا نتحدث عن الفكر الصوفي باعتباره مرآة تعكس التجربة الصوفية التي يغيب فيها الأنا والآخر، وتحضر فيها علاقة التوحيد بقوة، إذ أنها تجسد مقام الإحسان الذي وصفه جبريل بقوله “أن تعبد الله كأن تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
فالحديث هنا عن أخلاق الشهود أو على الأقل عن أخلاق المراقبة، أي أن الحديث منصب هنا عن التخلق بأخلاق الله. لقد استهدفنا في هذا الكتاب تقديم مفهوم متميز للتكليف الأخلاقي، الذى يعتبر جزءا أساسيا من التكليف الشرعي،واعتمدنا على الرؤية السالفة الذكر، وهى رؤية جوهرية بني عليها الفكر الصوفي،و قد اعتبر الشيخ الصوفي الصادق نموذجا لممارسة التكليف الأخلاقي ووسيلة للقيام بهذا التكليف على وجهه الصحيح. تعتبر مهمة الشيخ الصادق مهمة ربانية شريفة،وهو أمر لا يمكن إنكاره إلا ممن أعماه الحسد أو جانب الموضوعية في أحكامه، وهو ما أكد عليه ابن قيم الجوزية قائلا:[10]“…والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة، ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم، أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره مادام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب :”والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم”[11]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :”من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا “[12].
إن الصوفية يؤكدون على أن الشيخ الصادق يستخرج للسالك ما هو كامن فيه… فإن الله تعالي قد بث في كل روح جميع ما يتعلق بصاحبها من المحامد والمزايا… فإن حكم السالك في ابتداء أمره، حكم النواة الكامنة فيها النخلة التي هي هنا عبارة عن الصدق في الطريق.فهذا اللقاء الأول هو استكشاف لذلك الكنز الروحي المطمور تحت جدار الجسد، والذي لا يراه إلا عباد الله الصالحون، الذين أوتوا رحمة من عند الله وعلمهم من لدنه علما، فهم يرون ببصائرهم ما لا يراه الناس بأبصارهم، ولنا في قصة العبد الصالح مع نبي الله سيدنا موسى في كتاب الله أصدق نموذج على ذلك.
“…وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم و لا عقل مستقيم ,ولاسيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية، فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك، وسيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء، وتجنبها سفاسف الأخلاق ورذائلها وسافلها…”[13] . يدخل الإنسان عالم الصدق مع الصادقين مما سيجعله يقف أمام حقيقة نفسه يستكشف عيوبها، لا تحتجب عنه بحجاب الكبرياء والغطرسة، والشيخ الصوفي الصادق دوره أن يساعده على التخلص من عيوب نفسه، لأنه على تقدير أن يرى السالك لنفسه عيوبا فإنه لا يقدر على التخلص منها بنفسه، لشفقته عليها، فلابد ممن يعينه ويعالجه، وليس إلا الشيخ الصادق، فهو كالطبيب يظهر العيوب ويعالجها. وقد قادت التجربة العلمية والروحية الإمام الغزالي إلى أن يصرح بهذه الحقيقة، فقال:” اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله… أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلع على خفايا الآفات، ويحكمه في نفسه، ويتبع إشارته في مجاهدته.
وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه، ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان وجوده”[14].
إن الصوفية يؤكدون على أن هذه المرتبة الربانية لهؤلاء الصادقين لا تحيط بها العبارة، ولا ترى العقول إلا ظلالها، وتساهم لغة نشأت في عالم الحس في الزيادة في غموضها، أو كما قال الغزالي موضحا هذا الإشكال اللغوي حيث قال: “…إن هذه الأسامي وضعت أولا بالإضافة إلى إدراك البصر، وهو درجة العوام، ثم لما تنبه الخواص لإدراكات البصائر، وجدوا بينها وبين الأبصار موازنات، استعاروا منها الألفاظ المطلقة، وفهمها الخواص، وأنكرها العوام الذين لم يتجاوز إدراكهم الحواس…”[15].
ومن هذه الأسامي الشيخ المربي والشيخ الولي والشيخ الرباني.إن هدف هذا الكتاب هو محاولة مقاربة تصور للشيخ الصوفي الصادق كما جاءت في كتب التراث الصوفي، وبعد أن ناقشنا في الفصول الأولى الجانب التأصيلي في الكتاب والسنة كما ورد في كتب التراث الصوفي،مع قراءة له في ضوء ما جاء عند المفسرين، ثم تعرضنا للجانب الأصولي والمقاصدي مع التعرض لرؤية جديدة للمقاصد الشرعية ،ومع تفصيل القول في قضية المقاصد الشرعية الروحية، تتبعنا في الفصل الأخير من هذا الكتاب النصوص الصوفية الواردة عن الشيخ الصوفي، وكان هدفنا من ذلك هو تقريب هذا المعنى الذي هو محور التجربة الصوفية، أي مقاربة المعنى الذي ركزت عليه النصوص الصوفية، أي مقاربة رؤية الصوفية للشيخ الصوفي عبر التاريخ الصوفي الطويل للأمة.
ولابد في هذا السياق أن نشير إلى ملاحظة أولية نريد أن يتنبه إليها القارئ، وهي أن هذه الرؤية الواردة في هذه الأقوال تكاد تتطابق فيما بينها، رغم التنائي التاريخي الزمني والتنائي المكاني، ولعل وحدة المصدر في المدرسة السنية لمسألة الولاية و المشيخة الصوفية تبرر هذا الإجماع على رؤية موحدة لهذه القضية، ونقصد بوحدة المصدر الرجوع للكتاب والسنة، واللذين يعتبران عند أصحاب هذا الفن قيدا للعلم الصوفي، كما نص على ذلك الإمام الجنيد سيد طائفة الصوفية.لقد أبانت هذه النصوص عن أدوار أساسية للشيخ الصوفي في غرس القيم الأخلاقية في المجتمع، ومحاربة روح اليأس والحقد، وبعث روح الأمل والمحبة والسلام، بالإضافة إلى مهام أخرى نفسية وروحية يتعرف القارئ الكريم عليها من خلال
هذا الكتاب.