الشيخ محمد العفيف الزواوي الشهير بالفقيه المصري
جريدة الشمال – بدر العمراني (ر )
بهذا عُرف بين معاصريه ومريديه … أما الاسم المصرح به في الوثائق الرسمية الإدارية فهو: عفيف خالد، كما هو مثبت بشاهد قبره.
لكنّه اشتهر بالفقيه المصري، نسبة إلى مصر التي بها درس وأقام مدّة طويلة.
ولد بقبيلة زواوة من القطر الجزائري سنة 1889م/1307هـ.
أمضى دراسته الأولى بوطنه الأول الجزائر حيث حفظ القرآن الكريم، وَشَدَا مبادئ العلوم، ثمّ رحل إلى تونس فجلس إلى علماء الزيتونة واستفاد من معارفهم، وأبرزهم: الشيخ الطاهر بن عاشور.
وبعدها يمّم وجهه شطر مصر، التي بها لازم حلقات شيوخها بالأزهر إلى أن نال شهادة الوعظ والإرشاد. وانتسب أيضا إلى كلية دار العلوم. ومن الأعلام الذين نهل من علومهم: عبدالرحمن عزام..
ومن مصر اتّجه صوب المغرب قبْل اندلاع حرب الريف (1920م-1926م) فاستقر به المقام بفاس، التي اقتحم فيها حمى جامع القرويين، وافتتح به حلقة، زاحم بها حلقات الأكابر من شيوخها، أمثال: عبدالرحمن بن القرشي الفيلالي، وعبدالواحد بن عبدالسلام الفاسي..
ويُروى أنّ دروسه كانت تمثّل دعوة الإصلاح والتنوير التي جاء بها محمد عبده بمصر. مما حدا بعلماء فاس إلى التضييق عليه، والوشاية به.
فاضطر خوفا على نفسه إلى الخروج من فاس، وسافر متخفّيا إلى مولاي بوسلهام، وهناك تزهد وتجرّد مدّة إلى أن أحسّ بالأمان.
ثمّ انتقل بعدها إلى شمال المغرب، ونزل فيه بقرية بريّش، وهو على هيئة متصوّف درويش بمرقعة، وقد أرخى شعره، وأسبل لحيته. فاسترعى انتباه الناس بهيئته، ثم ببعض الحيل السحرية، فذاع صيته بمحيط القرية إلى أن بلغ خبره إلى الفقيه الرماني بقبيلة أحد الغربية، فزاره مستطلعا حاله، فلما لقيه وتجاذب معه أطراف الحديث، عرفه وأدرك قيمته العلمية، فاستضافه بالغربية، وعرّفه بأهلها.
فكان أوّل استقراره بها بمدشر أولاد العياشي عند السيد محمد الصافي الذي اصطفاه ببيته مدرسا لأولاده.
ثم بعد ذلك اشتهر بالقبيلة كلها، ورغب إليه الناس في تدريس أبنائهم .. وشارطه بعض المداشر على الخطبة
مثل: أولاد حبّاس.
وأقام بمدشر النّعيميين، وقد امتلك به دارا وبستانا زاهيا بالأشجار المثمرة.
تزوّج بثلاث نسوة وأنجب أولادا، منهم: صالح، ولوط، ونوح، وعبدة الله، وهاجر.. وبعضهم رجع إلى الجزائر مثل: صالح ولوط وعبدة الله.
أمّا الحُسّاد فنَفِسُوا عليه هذه المكانة، وَوَشَوا به إلى القائد الزروالي، وممّا يُحكى في هذا: واقعة أثّرت على مسيرته، أنّه دخّن في نهار رمضان، فبلغ الخبر إلى القائد، فألقى القبض عليه وأرسله إلى تطوان، هناك مَثَلَ أمام مجلس العلماء، فحاوروه في القضية، فأجابهم بأنّه مريض، والمرض عذر يجيز الفطر بكل أنواعه، أكلا كان أو تدخينا. فلم يقتنع العلماء بكلامه، فأُدْخِل المارستان.
لكنْ أُفرِج عنه بشفاعة أصحاب النفوذ، وهم: الفقيه محمد الطنجي التطواني، والقنصل الفرنسي، وحاييم الحاخام اليهودي بأصيلا.
وبعد الإفراج انعزل في قرية أحد الغربية، دون وظيفة أو مهمة يشغلها. وإنّما كان مرجعا للناس في الفتوى.
وخلال محاكمة الفقيه صدرت رسالة من مدينة أصيلة في الدفاع عنه بجريدة الحرية سنة 1361هـ/ 1942م بعنوان: محاولة محاكمة الفقيه المصري، هل هذه غيرة دينية؟ دون ذكر اسم الكاتب.
وسكن أيضا مدينة طنجة بالجبل الكبير…
ويُقال عنه بأنّه لم يُر قطّ مُصلّيا، وفي صلاة الجمعة يجلس بمؤخر المسجد وبعد انتهاء الصلاة يتحلّق حوله الناس ليشرح لهم خطبة الخطيب.
في حين يحكي بعض محبّيه أنّه كان يمارس طقوسا من التعبّد ليلا، وقد عاين ذلك ذات ليلة، فلمّا فطن به الشيخ، تناوم.
وخلال مقامه بالغربية ــ لمدة طويلة تقارب 40 سنة ــ أثّر في الناس تأثيرا بالغا، لدرجة أنّه هو الذي كان يسمّي مواليدهم، والأسامي كانت في الغالب إسرائيلية: يوشع، يوسف، داود، يعقوب … ومن الطُّرَف أن بعض المعلمين المدرّسين لمادة الفرنسية بالسلك الابتدائي كان يقرأها: جوزيف، دافيد، جاكوب …
وذات مرة حضر عقيقة فسأل عن اسم المولود، فقالوا له: محمّد. فاستنكر الإكثار من التسمية بهذا الاسم.
وفي ليلة من ليالي السماع سمع المادحين يترنمون ببردة البوصيري فقال لهم: لو سمعها محمد (صلى الله عليه وسلم) لأنكرها.
بل وغلا فيه بعض المحبّين وعدّه وليا من أولياء الله الصالحين صاحب كرامات، ومنها: أنّ القائد الزروالي الذي تسبّب في محنة الفقيه، وُجد مقتولا بقرب ضريح مولاي عبدالسلام بن مشيش بجبل العلم.. فأشاعوا بأنّ هذا انتقام من الله تعالى، بسبب اعتدائه على الفقيه.
وقد كان عالما مطّلعا، ذا حافظة قوية (يستظهر مقدمة ابن خلدون)، متفننا في علوم ومعارف، مثل:
– التفسير: كان غواصا على معاني وأسرار الذكر الحكيم، مطّلعا على خباياه .. وكان يُجلّ من التفاسير: تفسير طنطاوي جوهري، لنزعته العلمية.
– الفرائض: فقد كان المرجع في هذا الباب، وليس عند المسلمين فقط، بل حتى اليهود، فقد أشكلت على اليهود في أصيلا قضية في الميراث، ففزعوا إليه بالغربية فحلّ لهم الإشكال.
– العربية: كان فصيحا في الكلام، متين اللغة، وافر الألفاظ، محلّقا في الدلالات والمعاني، إلى درجة الإلغاز، شأنه شأن المتصوّفة بالإغراق في الرمز، ومن ذلك أحاديثه التي كان يُذيعها بإذاعة طنجة خلال الستينات من القرن الماضي. وهو الأثر الوحيد الذي خلّفه المترجم.
– علوم الأديان: كان خبيرا بالفرق والديانات والملل والنّحل، يخبر بعض الأساتذة ممن لازموه وحاوروه أنّه قال له بأن اليهود يدّعون بأنّ المسلمين استقوا معارفهم من التراث اليهودي، فأجابه: قُلْ: وأنتم استفدتموه من الفيداس vedas(وتعني: الكتب المقدّسة للديانة الهندوسية) فاستغرب أن يكون رجل بالبادية يعرف هذا … مع اطلاع واسع على المذاهب الفلسفية، وإتقان لفن الجدل، من ذلك أنّه واجه البهائية في طنجة وناظرهم في جولات متعدّدة.. وفي آخر كل جولة يوقف المناظرة ويرجئها إلى موعد آخر حتى يتسنّى له مراجعة المصادر؛ لكنّه كان يُسرّ إلى أتباعه بأنّ هؤلاء أشدّاء في المناظرة، أقوياء في الحجّة.
إلاّ أنّ بعض محبّيه غَلَوا فيه وادّعوا بأنّه يُتقن 40 لغة. وهذا ادعاء يجافي الحقيقة، والصواب الذي لا مرية فيه أنّ الفقيه لا يتقن من اللغات شيئا سوى اللغة العربية، والإلمام باللغة الإسبانية.
ومن أخلاقه:
العِفّة والقناعة، والزّهد والتّقشف، والتواضع، فهو يلتقط الحكمة ممن هو دونه، من ذلك أنّه سمع شابا ينشد بيتين من الشعر، وهما:
إذا كنت لا تهوى = ولا تدري ما الهوى
فَكُنْ حجرا صمّا = يُدَقُّ بك النّوى
فالتفت مباشرة إلى القلم ودوّنهما في ورقة.
وكان في أواخر أيامه (خلال الستينات من القرن الماضي) فقيرا مُمْلِقاً يعيش على الصّدقة، وإذا مرّ به سائل وفي يده شيء يجود به في الحين طَيِّبَةً بها نَفْسُهُ.
ومن صفته: قصير القامة، خفيف اللحم، أمهق اللون (شديد البياض)، يَحْلِقُ اللِّحْيَة.
من أصدقائه:
– الأستاذ الكتبي عبدالقادر بن مصطفى العمراني الجزائري صاحب مكتبة الثقافة، فقد كان يغشى مكتبته كلما وفد إلى طنجة، ويطيل الجلوس بها متصفحا جديدها.
– الأديب الشاعر البشير أفيلال، وهو ممن سعى في الذب عنه لدى العلماء خلال محاكمته بتطوان.
– الأستاذ الشاعر عبدالسلام اللّوّاح كان يتردّد عليه كثيرا ببيته بطريق الجبل الكبير، ويمكث بمكتبته الشخصية مستمتعا بما حَوَتْ من أسفار.
من مريديه:
– الأستاذ محمد بوغابة المصوري (يبلغ من العمر الآن 88سنة)، وقد لازمه كثيرا.
– الأستاذ الشاعر عبدالقادر المقدم، صهره (زوج ابنته).
– الأستاذ العربي الحاتمي.
وظلّ على هذا الحال متردّدا بين طنجة والأحد الغربية إلى أن وافاه الأجل المحتوم بمدينة طنجة في يوم من أيام سنة 1391هـ/ 1971م، وقد بلغ من العمر 82 سنة. وأُقْبِر مقبرة السواني.
أمّا ولده نوح، فكان رجلا مجذوبا ذا أحوال، محبّا للكتاب، يقتنيه بشغف، وقد حدّثني الأستاذ الشريف محمد بن الحسن الميموني (أمين الصّاغة بطنجة وصاحب مكتبة النور) أنّه اشترى منه مرارا كتبا كبيرة ذوات أجزاء. وتوفي سنة 1425هـ/ 2004م.
من الشهادات التي قيلت فيه:
قال الأستاذ عبدالصمد العشاب رحمه الله: (هذا الرجل كان معروفا بطنجة، وكان يسكن بالجبل، واشتهر بتصرفات أثارت الانتباه إليه .. وأقام في قبيلة الغربية القريبة من أصيلة نحوا من خمسة وعشرين عاما، وكان واعظا يأمر الناس وينهاهم، ويحارب زيارة القبور وأضرحة المقبورين، ممّا سبّب له مضايقات كثيرة من طرف المنتفعين من القبور والأضرحة، ودخل السّجن من أجل هذه الدعوة التي كانت سلفية آنذاك).
وقال عنه الأستاذ عبداللطيف السملالي فيما أفادني به: (الفقيه محمد عفيفي المشهور بالفقيه المصري، أصله من زواوة من القطر الجزائري، هاجر إلى مصر، وبه أتمّ دراسته. قدم إلى المغرب في الثلاثينات من القرن الماضي، واستقر في إحدى قرى الغربية، واتخذه أحد أبناء القبيلة معلّما لأبنائه وأسكنه بجوار منزله، ثم اشتهر أمره ورغب الجميع أن يكون معلما ومُدَرِّرا في كتاب القرية. تأثر الرجل بالوسط المصري وبالأفكار السائدة في محيط العلماء، كما اكتسب بعض عاداتهم، مثل شرب الدخان).
وقال الأستاذ محمد بوغابة المصوري فيما شافهني به خلال لقائي به في بيته يوم السبت 09/08/2017: ( محمد العفيف، بآل التعريف، ودون إلحاق الياء بآخره، رجل نادر، يتقن علوما كثيرة، منها الكيمياء، وله اليد الطولى في الطبّ، درسه بمصر، أقام عندي بالبيت، فكان مثالا في الأخلاق، وبالليل يتعبد ولا ينام إلا قليلا .. كنت كاتبه أكتب له الرسائل الموجهة إلى عائلته بالجزائر، فوردت عليه ذات يوم رسالة من ابن أخته يخبره فيها بأنّه أصبح قاضيا .. ففرح بها كثيرا .. وكان يفخر بها أمام أعدائه الذين كانوا يشيعون عنه الأقاويل في عرضه ودينه..).
ملاحظة:
هكذا سمعت هذه المعلومات ممن عايش الفقيه، وليس لي فيها إلا التحرير والصياغة، أما التحليل والتعقيب فمركبه صعب أمام انعدام الوثائق المنيرة.
مصادر الترجمة:
معلومات شفهية عمن لازمه وعرفه عن قرب.
جريدة الحرية رقم: 903. دجنبر سنة 1942م.
كتاب من أعلام طنجة في العلم والأدب والسياسة لعبدالصمد العشاب رحمه الله ص333…