الطيب الصديقي رحل وفي نفسه أشياء من هذا المسرح
جريدة الشمال – رضــوان احــدادو ( ‹‹ الطيب الصديقي ›› )
الخميس 25 فبراير 2016 – 11:33:56
تقديم:
*التاريخ: خامس فبراير 2016، بساط رمادي ممتد وأفق غائم ملبد.
اليوم: الجمعة، رداء أبيض. تهاليل خضراء، تراتيل ودعوات.
الساعة: السابعة والنصف، هجدت الطيور في أوكارها، لا اناشيد ولا أغاريد.
العمر: تسعة وسبعون نجمة كاملة السطوع
لا شيء بعد الآن يكحل العين، يملأ العين، جفت الأقلام، طويت الصحف، واشرأبت الأعناق في ذهول ذاهل.
الزمن جدار إسمنتي رهيب، موحش، عنيد.. لزمن صولات وجولات “ومن سره زمن ساءته أزمان”. قالها يوما شاعر مفجوع.
يتجمد الزمن في الزمن، يتوقف كل الذي كان، كل الذي كنا نحلم بأن يكون، وطرزنا بخيوط الفجر رداءه، لا بسمة ولا نغمة.. لا وشوشة ولا زغاريد، لا شيء عاد يملك طعمه ولونه.. يتجدد فينا وبيننا، فكل الذي فوق التراب تراب، وبين القادمين من التراب والعائدين إلى التراب تتمدد قنطرة عبور نحو الضفة الموعودة، وعندها تنطلق رحلة الرحلات وحياة الحيوات.. رحلة هي الحق وهي الحقيقية، هي البدء وهي الختم والختام.
سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هو الآن لا أكثر من ذكرى جريحة موؤودة.. تاريخ ثلجي يحبو، يتدحرج، يسكن جدران المتاحف الجامدة.. شميم كلمات عطرة باردة عابرة، غدا أو بعد غد يستوطنها الغبار ويلفها النسيان، وتدثرها خيوط العنكبوت.
كل شيء إلى زوال.
حكمة الله وحكمه.
ومع ذلك، نحن/ الآن نستحضرك.. نستحضر الصولات والجولات.. كل الفتوحات والتتويجات.. كل الانتصارات وحتى الانكسارات.. كل الجراح والمعاناة.. نستحضرها، ندعوها، فتلبي طيعة هينة، مستسلمة، بهية، مشرقة، نابضة باستمرارية الحياة.
لن ننس أبدا عرقك، ولا الآتون من بعدنا ينسون مواقعك وفتوحاتك، يكفي أنك كنت أول من ألقى الحجر الأول على البركة الأسنة لتتوالى الأحجار من أجل أن يتحرر المسرح من المسرح، من أجل أن ينفجر المسرح داخل المسرح.. من اللامسرح، ينفجر من التربة مسرح لا يقف مستجديا عند الأبواب، ولا يغرف من موائد الغير. فكان لك ما أردت وأنت تؤسس/ تضع أولى اللبنات لمسرح جديد، مغاير، مسرح بلا ولاءات، ولا أقنعة، مسرح هنا.. ولنا، ولكل القادمين.. لنا وللتاريخ وللبقاء بعدنا، وكان الإيمان، وكانت مغامرة إلى جانب رواد آخرين تركوا أيضا بصماتهم على جدارية المسرح المغربي. أذكر ومن جملة من أذكر أحمد الطيب العلج، عبد الصمد الكنفاوي، عبد الله شقرون، محمد سعيد عفيفي، محمد حسن الجندي، فريد بمبارك وغيرهم من الشوامخ الذين صنعوا زمن توهج المسرح المغربي داخل المغرب وخارجه.
لم يأت الطيب الصديقي إلى المسرح من باب اللهو واللعب، أو بحثا عن الفرص الضائعة، ولا جاءه من باب الفراغ وتجزية الوقت، ولا من باب الاسترزاق وضعف الحيلة أو بحثا عن مورد أو متنفس، وإنما طرق بابه محبا عاشقا، متيما مولها. فكان له فيه ما كان، ولم يؤسس شهرته بالتملق ودغدغة العواطف وتسخير أبواق ومنابر، وإنما دخل الباب معتزا بنفسه، معتزا بتكوين أكاديمي عميق على يد أساتذة وباحثين ومؤطرين كبار من عيار ثقيل أمثال (هوبير جينو) أول الأمر، ثم (جان فيلار) و (أندري فوازان) ومن أعلى وأرقى المعاهد والمدارس الفرنسية مثل (لاكوميدي دولوسيت) وعمره وقتها لم يكن قد تجاوز السادسة عشرة، فكان بحق مسرحيا جديرا ذا الحسنين.. التكوين والتميكين.
جاء الصديقي إلى المسرح برؤى مغايرة، حاملا أحلاما ومشاريع طموحة، متكاملة، مغايرة. وأحدث في مسرحنا أقوى ثورة مست كل جوانبه تأليفا وإخراجا وتمثيلا وسينوغرافيا إلخ.. ليخرجه من السكونية والنمطية التي طالته ويحلق به إلى العالمية وذلك من خلال ما قدمه من أعمال انفتح فيها على التراث في بعده المغربي، العربي، الإسلامي الإنساني (أبو حيان التوحيدي) (بديع الزمن الهمداني) (عبد الرحمن المجذوب) (الحراز) (قفطان الحب) (سلطان الطلبة) الخ.(1)
لم تكن التربة مواتية ليبذر فيها مسرحا غير المسرح النمطي الذي كان، ولم يكن الجمهور مهيأ لتقبل ذلك وتعاطيه والتعاطف معه، فكان على الصديقي الصبر مع الإصرار والعناد.. التجذيف والإبحار ضد التيار.. خلخلة كل الذي كان وترصيص لبنات الحلم الممكن.
وفّى الرجل للمسرح، ورهن حياته للمسرح. وعاش حالما بالمسرح.. ترى هل تحققت أحلامه المسرحية؟ شيء من أحلامه البعيدة؟ فالكبار يرحلون وتبقى أحلامهم دائما كبيرة في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي.. أحلام لا تسعها الدنيا ولا تقف عند حد، ولا يحدها سقف.
حياة زاخرة بالإبداع، زاخرة بالعطاء، ومع ذلك لم يكن راضيا كل الرضا عن حال هذا المسرح، هكذا أراه، فرحل العملاق بعد عناء وفي نفسه أشياء من هذا المسرح.
له وعليه صادق الدعوات والرحمات .
(الهوامش والإحالات)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(-1 ) ذكر محمد جليد أن الصديقي أنجز 36 نصا مقتبسا من أعمال غربية، وأبدع 24 نصا مسرحيا أصليا، واشترك في تأليف 18 نصا آخر، وأخرج 85 عملا مسرحيا. واعد 22 مسرحية للإذاعة والتلفزيون، ولعب 18 دورا في أفلام مختلفة، وأنجز شريط فيديو عن (مسجد الحسن الثاني) 1992.
جريدة أخبار اليوم 8 فبراير 2016 ص 7.