“من أعلام شمال المغرب” للعلامة الدكتور عبد الله المرابط الترغي
الخميس 10 نوفمبر 2016 – 16:12:29
الحديث عن كتاب “من أعلام شمال المغرب” للعلامة الدكتور عبد الله المرابط الترغي هو حديث عن مشروع فكري كبير ورصين، كما أنه حديث عن هاجس ثقافي وطني شغل بال المؤلف طوال حياته. فلا يخفى أن الرجل كرس حياته لخدمة التراث المغربي في شتى أشكاله، ومن زواياه المختلفة. وكان الاهتمام بتراجم الأعلام المغاربة ورصد سير حياتهم وعطاءاتهم العلمية واحداً من تلك الأشكال التي تفوق فيها بلا منازع. لذلك فإن المتصفح لعدد كبير من كتابات المؤلف المنشورة، يجدها تصب في هذا المجال، بدءاً من رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا “فهارس علماء المغرب”، ثم أطروحته لنيل الدكتوراه التي خصص فيها قسما كبيراً لكتب التراجم المغربية، ومروراً بتراجمه المبثوثة في موسوعة معلمة المغرب، وانتهاء بهذا الكتاب موضوع هذا المقال. فقد أظهر الرجل في كل ذلك اجتهاداً منقطع النظير في عصره ومصره، حتى عُدَّ مرجعاً أساساً في التراجم المغربية، يلجأ إليه في كل ما يتعلق بهذا المجال، وعلى الأخص تراجم المنطقة الشمالية المغربية التي أبدع فيها وأنقذ عدداً منها كان قد طواها الإهمال والنسيان. صدر كتاب “من أعلام شمال المغرب” في جزأين من الحجم المتوسط عن منشورات المجلس العلمي المحلي لعمالة طنجة – أصيلة، وهما جزآن يستوعبان مائة ترجمة، ويتوافقان إلى حد كبير شكلاً ومضموناً.
يقع الجزء الأول الصادر سنة 2014م في حوالي ثلثمائة (300) صفحة، ضمت سبعاً وخمسين (57) ترجمة، تبدأ بترجمة الفقيه الولي الصالح سيدي أبي مهدي عيسى المنصوري من أعلام منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وتنتهي بترجمة الباحث المحقق سعيد أعراب المتوفى سنة 2003م. ويقع الجزء الثاني الصادر سنة 2015م في حوالي ثلثمائة وثلاثين (330) صفحة، ضمت ثلاثاً وأربعين (43) ترجمة، تبدأ بترجمة العلامة الشريف سيدي علي بن أحمد البقالي من أعلام بداية القرن الثاني عشر، وتنتهي بترجمة العلامة الشاعر عبد الواحد أخريف دفين تطوان سنة 2010م. فهذا الكتاب، مثلما يتضح من عنوانه الصريح، خصه مؤلفه عبد الله المرابط الترغي للحديث عن أعلام شمال المغرب. وما دام المؤلف متمرساً بعلم التراجم كما أسلفنا، فقد أفصح في طالعة الجزء الأول من كتابه عن الحدود الزمانية والمكانية للمترجمين، حيث جعل الشرط المكاني محصوراً في منطقة الشمال الغربي للمغرب ليستوعب تراجم الأعلام المنتمين إلى مدن طنجة وتطوان وأصيلة والعرائش والقصر الكبير وشفشاون ووزان، بما في ذلك تراجم رجال القبائل الجبلية الواقعة في نطاق هذه المدن كقبائل الهبط وقبائل جبالة وغمارة والأخماس وغيرها.
أما الشرط الزماني للمترجمين، فقد حصره ضرورة في انتمائهم للقرون الثلاثة الأخيرة، أي بدءاً من القرن الثالث عشر إلى الآن، مع قلة قليلة من علماء القرن الثاني عشر. إن القراءة المتأملة لكتاب “من أعلام شمال المغرب” أمكنتنا الوقوف على مجموعة الخصائص التي ميزت صياغة تراجم الكتاب نشير إليها فيما يلي:
أولا – الالتزام والتقيد بالبناء الترجمي : مثلما وضعه القدماء، ومحاولة استيفاء جل عناصر الترجمة بإثبات جميع المعلومات المتعلقة بحياة الشخصية. فقد أحس المؤلف أن المجال مبسوط في هذا الكتاب لتقديم أكبر قدر ممكن من مواد التراجم، خصوصاً تلك التي كان ينشرها على أعمدة جريدة الشمال، فيضطر إلى اختصار موادها تبعاً لشروط النشر بهذه الجريدة. وامتثالاً لذلك، حاول المؤلف الكشف عن سير مترجميه في حدود ما توفر من مواد الترجمة بدءاً من الولادة، ثم النشأة، والتكوين، وعرض المشيخة، والرحلة في طلب العلم، ومقدار الاستفادة من العلماء، وممارسة المهام، وتولي الخطط المختلفة من تدريس أو قضاء، أو خطابة، ثم إنتاج المترجم من تأليف وكتابة، لتختم الترجمة بذكر الوفاة وتاريخها ومحلها، وما أحدث ذلك في نفوس المقربين والمحبين. وقد يضاف إلى ذلك ما هو زائد على هذه العناصر مما تتميز به شخصية المترجم باعتبارها تنفرد به.
ثانيا – الترجمة داخل الترجمة: وهو أمر تكرر عند المؤلف في غير ما موضع من كتابه، حيث نجده وهو بصدد الترجمة لأحد أعلام الكتاب، يستطرد في معرض الحديث عن مشيخة المترجم ليعرف بأحد شيوخه بنوع من الإيجاز، ولكن تبقى أهميتها كبيرة في إماطة اللثام عن جوانب الترجمة الأم. ونموذج ذلك ترجمة المؤلف لمجموعة من شيوخ والده العلامة القاضي محمد بن المفضل الترغي، وذلك في معرض الحديث عن مشيخته. يقول مثلا: «وخلال هذه المرحلة … يكون الطالب محمد المرابط الترغي قد جمع عدته الوافرة من العلم في ذلك على الشيوخ التالية أسماؤهم، وهم: … الفقيه العلامة الصوفي سيدي محمد بن عبد الصمد التجكاني الحسني (ت1411هـ)، وهو شيخ برع في فن الخطابة والوعظ والإرشاد، وتعاطاها طيلة حياته، ومارس التدريس في جميع مستوياته، فكان مفيداً وكثير النفع».
ثالثا – إشارات المؤلف إلى مشيخته: حيث إنه لما جاء لترجمة مجموعة من شيوخه الذين ينخرطون في شَرْطَي الكتاب السالفي الذكر، وجد فسحة للحديث عن علاقته بهم، وما أخذه عنهم من العلوم والمتون أيام التتلمذ وطلب العلم، الأمر الذي يمكن معه للقارئ المهتم صياغة فهرسة للمؤلف. من ذلك ما أورده المؤلف عند ترجمة شيخه العلامة المحقق سعيد أعراب، حيث جعل زاوية الحديث عن مشاركة هذا العالم في مجال التدريس مجالاً لبسط ما استفاده منه خلال مرحلة تتلمذه بين يديه، واصفاً مهارة المترجم في دروسه، ومعلقاً عليه مثلما كان يعاينها، فانتقل بذلك الحديث من صيغة ضمير الغائب إلى صيغة ضمير المتكلم. وإذا كانت تلك إشارة على غرار عدة إشارات أخرى جاءت في ثنايا التراجم المعروضة، فإننا نصادف بعض التراجم التي يمكن أن تصنف كلها في فهرسة المؤلف عبد الله الترغي، حيث استحوذ الحديث فيها على المشيخة لا غير. ونعرض نموذجاً لذلك ترجمة المؤلف لشيخه الفقيه سيدي عبد الله بن عبد السلام البقالي. يقول: « والحاج عبد الله البقالي هو أول شيوخي في قراءة القرآن وتعلمه وحفظه، فقد كان مكتبه بمدينة تطوان بحومة المصداع أول مكتب يستقبلني وأنا في سن دون الخامسة من عمري، وعلى يد الفقيه عبد الله البقالي تعلمت الكتابة ودرجت في مكتبه وبين يديه إلى أن كدت أقطع مرحلة السلكة الأولى من حفظ القرآن الكريم، قبل أن أصبح في مكتب الفقيه الصالح سيدي الحسن السعيدي… فعلى يديه رحمه الله أتممت حفظ القرآن الكريم من خلال السلكات الخمس التي خرجتها وعرضتها عليه ومحوت لوحي عليها. وبين يديه حفظت بعض المتون العلمية قبل التهيؤ لمرحلة طلب العلم والالتحاق بالمعهد الديني آنذاك».
رابعا – الانفراد ببعض التراجم: وهو الأمر الذي يزيد في أهمية هذا الكتاب، إذ يعرض فيه المؤلف تراجم تنشر لأول مرة، أغلبُ رجالها من علماء البادية، ولم يكن لهم حظ أو ذكر في كتب الرجال التي أرخت لعلماء المغرب عموماً أو لعلماء المنطقة الشمالية خصوصاً، رغم ما كان لهم من الحضور الوازن في الثقافة والتأليف وصنع المواقف. وكأني بالمؤلف عبد الله الترغي في هذه المسألة يستأنف العمل العلمي الذي كان قد بدأه شيخه وأستاذه العلامة المحقق سعيد أعراب عندما كان يحفر على بعض علماء وأدباء البادية، فينشر تراجمهم على أعمدة جريدة الميثاق. فلهذه الأهمية التي أشرنا إليها، يكون المؤلِّف بهذا الصنيع قد أسدى خدمة كبيرة لهؤلاء العلماء بانتشالهم من زوايا الإهمال والنسيان، ويكون هذا المؤلَّّف هو المصدر الأول والمرجع المتفرد في التعريف بهم وذكر أحوالهم وأخبارهم وسيرهم. ومن بين أولئك الأعلام نذكر على سبيل المثال الفقيه المدرر الشريف سيدي الطيب الوجدي البوعناني الترغي، والفقيه المدرر السيد الهاشمي الدحمان الترغي.
خامسا – ندرة مصادر الكتاب وفَرادتُها: وهي مسألة تستحق أن تفرد بقراءة خاصة لأهميتها الكبيرة. ذلك أن المؤلف اعتمد في صياغة مواد تراجمه على مجموعة من المؤلفات أغلبها عبارة عن مخطوطات غميسة ووثائق نادرة وتقاييد دفينة، وهذا أمر تميز به المؤلف في سائر كتاباته، ويذكرنا إلى حد كبير بما كان يطلع به علينا العلامة محمد المنوني من المؤلفات الجديدة التي لا تسمع عناوينها إلا عن طريقه. فأين لنا بتقييد لأحد علماء الأسرة الزعرية فيمن نزل بالقبيلة الورياكلية؟ وأين لنا بكناشة محمد بن العربي البقالي المساري؟ وأين لنا بتقييد في ترجمة الشيخ الكبير ابن يرماق؟ وأين؟ وأين؟ هي مصادر ومراجع استأثر بها المؤلف في جمع هذه التراجم. والواقع أنه ليس هناك من شك في أن المؤلف علاوة على بحثه وتنقيبه وعلاقاته الخاصة، قد استفاد بشكل كبير في هذه الزاوية مما كان يقع بين يديه من الوثائق المختلفة والفريدة التي كان يعهد إليه جمعها وتقييمها وتقديمها وترشيحها لنيل جائزة الحسن الثاني للمخطوطات.
سادسا – التحلية في حق المترجمين: وقد آثرت الالتفات والإشارة إليها بشكل منفرد باعتبارها جزءاً مهمّاً في بناء الترجمة قد لا يُلتفت إليها كثيراً عند المهتمين بالتراجم، وقد عُني المؤلف عبد الله الترغي بها عناية كبيرة، فجاءت جزءً لا تتجزأ من مكونات الترجمة عنده. والتحلية، كما هو معلوم، مرادف للصفة والنعت. قال الخليل: « الوصف: وصفك الشيء بحليته ونعته». وقال ابن فارس: « الواو والصاد والفاء أصل واحد، هو تحلية الشيء ونعته، والصفة الأمارة اللازمة للشيء ». وقال ابن منظور: «والصفة الحلية». وجاء في تفسير الطبري عند تفسير قوله تعالى في سورة البقرة ﴿اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾: أي « ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟». وقال في خزانة الأدب: «والتحلية: الوصف. يقال حليت الرجل تحلية، إذا وصفته». والمتصفح لتراجم كتاب “من أعلام شمال المغرب” لن يفوته أن يلحظ أن المؤلف درج على تحلية مترجميه ووصفهم. فباستثناء أحد عشر علماً من أعلام الجزء الأول من الكتاب، نجد باقي أعلام الكتاب التسع والثمانين محلاة بألفاظ دالة ومخصوصة مثل: الشيخ، والفقيه، والعلامة، والأفضل، والشريف، والولي، والصالح، والصوفي، والنقيب، والمجاهد، والقاضي، والمقرئ، والمفتي، والنوازلي، والشاعر، والأديب، والمربي، والمدرر، والأستاذ، والمدرس والباحث، والدكتور، والمحقق، والمحامي، والحقوقي.
وما دامت التحلية هي الوصف الجامع المميز للشخصية، فإن اعتمادها مدخلاً أساساً في عنونة اسم العلم المترجم لم يكن أمراً اعتباطياً من طرف المؤلف، بل كان عن وعي كبير بأن هذا العنوان الحامل لأهم الصفات والنعوت التي تميز المترجم يعد أكبر تلخيص لسيرته، بحيث يتبين القارئ معه مكانته العلمية ودرجته المعرفية منذ الوهلة الأولى وقبل الغوص في قراءة تفاصيل حياته.
ونموذج ذلك المترجم سيدي محمد بن بلقاسم بن المفضل الحرائقي، فقد حلاه المؤلف بالعلامة المدرس الشريف، ويدل على استحقاقه لهذه التحلية كونه أولاً من الأسرة البقالية الشريفة ومن أهل زاوية الحرائق حيث ضريح جده الشيخ العارف بالله سيدي علال الحاج البقالي، وكونه ثانياً جلس إلى حلقات كبار رجال العلم بمدينة فاس أمثال شيخ الجماعة التاودي ابن سودة والفقيه أبي حفص عمر الفاسي، ثم عاد إلى بلده متصدراً للتدريس بزاوية الحرائق، فكان محلقاً بدرسي الفقه والنحو، متقناً لما يقدمه في حلقاته من شروح علمية وتحليل للقضايا والمسائل التي تعرض له أثناء ذلك، ما سمح له أن تكون له مشاركة في الصناعة التأليفية أيضاً، فحرر شرحاً حفيلاً على لامية الزقاق أبدأ فيه وأعاد.
صفوة القول، إن كتاب “من أعلام شمال المغرب” عمل فريد يضاف إلى المكتبة المغربية، وتصنيف جليل جعل صاحبه عبد الله المرابط الترغي ينخرط في سلك الأدباء المؤرخين المغاربة في العصر الحديث الذين اهتموا برجال بمنطقة مخصوصة، وذلك إلى جانب الفقيه محمد الكانوني بكتابه “جواهر الكمال”، والفقيه العباس بن إبراهيم المراكشي بكتابه “الإعلام”، والمؤرخ ابن زيدان بكتابه “الاتحاف”، والأديب الشاعر محمد المختار السوسي بموسوعته “المعسول”، والفقيه محمد داود بكتابه “تاريخ تطوان”. فكل هؤلاء قاموا بواجبهم في مجال التراجم صوناً للذاكرة التاريخية المغربية وحفاظاً على هويتها.