العلامة عبد الله كنون سارداً قصصياً.. من المطالعة إلى الإبداع
الخميس 28 يوليــوز 2016 – 11:28:45
«قلت عن تجربتي في كتابة القصة : إنني لم أفكر قط في أن أكون قـاصًا، وأن ما كتبته من قصص قليلة كان بالنظر إلى محتواه يفرض أسلوب القصة، فلا تصح كتابته بغيرها. ولذلك اعتبرت قصصي من باب المَقــالات الأدبية، فنشرتها في مجموعاتي الأدبية والنقديــة».
عبد الله كنون، مذكرات غير شخصية، ص 171
سبقَ أن نشرت، خلال الشهر الجاري، في عددين من جريدة “الشمال 2000” الغراء مقالين حول شخصية العلامة عبد الله كنون بمناسبة الذكرى السابعة والعشرين لرحيله (9 يوليوز).تناولت في المقال الأول جانب شخصية العلامة عبد الله كنون المحقق، وعرضت في المقال الثاني منهجه في تحقيق النصوص الشعرية. سأتابع الحديث في هذا المقال عن هذه المعلمة المغربية من جانب آخر لم يُلتفت إليه في حدود علمي، وهو جانب العلامة عبد الله كنون السارد القصصي.
لعل مآثر العلامة عبد الله كنون وجوانب شخصيته المتعددة وعلمه وفكره وأدبه كل ذلك من الكثرة والتنوع الفريد؛ وهو ما لم تستوعبه دراسة واحدة إلى اليوم. ولو يسَّر الله لدراسة أن تحيط بهذه المعلمة المغربية والعربية لجاءت في مجلدات عدة؛ فالرجل كان حاضراً على مستويات عديدة، وبارزاً في أشكال مختلفة، عالماً وأديباً ومصلحاً وشاعراً ووطنياً… إلا أن مجال كتابة القصة عنده ظل مغموراً، ولم يأخذ حظه من الدراسة، إذ لم يلتفت إليه الدارسون المختصون بهذا المجال، ثم إن بعض من تناولوا شخصيته بالدراسة ربما أشاروا إليه إشارات عابرة أو خافتة جداً. ولا شك في أن الأمر في ذلك راجع إلى عدم اهتمام العلامة كنون بكتابة القصة بالشكل الذي تطفو معه لتظهر جلياً للدارسين والنقاد مثلما هو الأمر مثلاً بالنسبة إلى إنتاجه الشعري، إذ لم تأت القصة عنده إلا في سياق التعبير عن فكرة أو مضمون فرضه هذا الشكل التعبيري السردي. وقد أفصح عن ذلك في تقييدة كتبها بمفكرته سنة 1975 ونشرت في كتابه “مذكرات غير شخصية”. قال: «قلت عن تجربتي في كتابة القصة: إنني لم أفكر قط في أن أكون قاصاً، وأن ما كتبته من قصص قليلة كان بالنظر إلى محتواه يفرض أسلوب القصة، فلا تصح كتابته بغيرها.
ولذلك اعتبرت قصصي من باب المقالات الأدبية، فنشرتها في مجموعاتي الأدبية والنقدية».نجد الأمر نفسه في سياق آخر مجيباً عن سؤال: لماذا الاتجاه إلى القصة أحياناً؟ قال: «ومثل ذلك الفكرة التي لا يمكن التعبير عنها لا بالشعر ولا بالنثر “مقالة أو ما أشبه” ولا يكون إبلاغها والإيحاء بمغزاها للقارئ متأتياً إلا عن طريق القصة القصيرة». ولتسليط الضوء على ذلك الجانب، جعلنا الكلام مقسماً على شقين: أولهما المطالعة والتأثر، وثانيهما الإنتاج والإبداع. أولا: المطالعة والتأثر كان العلامة عبد الله كنون في تحصيله المعرفي وتكوينه الثقافي شغوفاً بالكتب والصحف والمجلات المشرقية، مكباً على المطالعة والتحصيل الذاتي، يلتهم كتابين في اليوم مما يقع بين يديه. فقد ورد عنه قوله: «ولا أقول بأن هذه الدروس -الفقه والحديث …-وهذه العلوم هي ما شكلت حصيلتي أو حددت تكويني. ذكرت سابقاً المطالعة؛ مطالعة الصحف والمجلات والكتب الوافدة علينا من المشرق». وكان بين تلك المجلات الشهيرة التي أعجب بها الأستاذ كنون مجلة “الهلال”، التي كانت ذات صبغة أدبية واجتماعية. وعن طريق هذه المجلة، تعرّف عبد الله كنون إلى جانب المثقفين المغاربة على روايات جرجي زيدان، الذي وإن كان مسيحياً، فقد وجدت كتاباته قراء في القطر المغربي. وعنه قال عبد الله كنون: «جرجي زيدان مسيحي، ولكنه كان مقروءاً في المغرب، رواياته، الهلال، تاريخ التمدن الإسلامي».
ومثلما كان الأستاذ عبد الله كنون منفتحاً في قراءاته ومطالعاته على الثقافة المشرقية، ويلتهم – حسب قوله – معظم الكتب والمجلات الآتية من ذلك القطر العربي، فإنه كان منفتحاً أيضاً على الثقافة الغربية، داعياً إلى الاقتباس من فنون آدابها في حدود عدم معارضة ثقافتنا الإسلامية. يقول: «ولسنا كما قلنا في حديث سابق ننكر الاقتباس من آداب الأمم الأخرى وثقافتها فيما تدعو إليه الحاجة، ويخصب تراثنا الفكري، كالشعر القصصي والتمثيلي الذي كان أدبنا خاليا منه». ويضيف قائلاً في موضع آخر: «ثم إن الاستمداد من أي ثقافة يجب أن يكون مقيداً بعدم معارضة مكوناتنا الفكرية والحضارية والعقائدية». إننا نلمس في هاتين القولتين إشارة واضحة إلى بعث الثقافة العربية وتخليصها من الجمود، كما نلمس دعوة صريحة إلى التلاقح الثقافي بالاستفادة مما أنتجه الغرب استفادة تتواءم وشخصيتنا؛ فنقبل الجيد بعد عرضه على محك البحث ومناقشته فوق طاولة التشريح، فنلفظ ما لا يسوغ لنا ولا يتماشى مع مسوغاتنا. ما دامت فنون السرد عموماً ومن بينها القصة بالمفهوم الحديث أجناساً أدبية سبق إليها الغرب، فإن العلامة عبد الله كنون تعرّف عليها عن طريقهم بواسطة قراءة الأعمال الرائدة في ذلك مترجمة عن أصحابها؛ فمن خلال الترجمة التي كانت مزدهرة في وقته على يد أدباء فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، تعرّف عبد الله كنون -حسب قوله- على أسماء كثيرة وأعمال عالمية: فيكتور هيكو، راسين، غوته. ويضيف قائلاً أيضاً: «فنحن قرأنا تولستوي ودوستويفسكي في ذلك الوقت». يظهر مما سبق أن عبد الله كنون كان يولي اهتماماً كبيراً لقراءة الأدب الغرب؛ ولكن ليس أي أدب غربي، وإنما الأدب العالمي الذي نال من الشهرة ما نال.
وقد شمل اهتمام العلامة كنون أدب مناطق عدة، فكان يقرأ الأدب الروسي ممثلاً بأفضل الروائيين عالمياً كتولستوي ودوستويفسكي، ويقرأ الأدب الفرنسي الرفيع بزعامة فيكتور هيكو وراسين، كما أعجب بواحد من أفضل القصاصين الألمان وهو غوته. ولا ننسى، إلى جانب هذا وذاك، إعجابه الشديد بالأدب الإنجليزي من خلال شخصية شاعرة ومسرحية شهيرة؛ إنه شيكسبير، الذي قال عنه: «إنني كنت أكثر إعجاباً بشكسبير الذي نقلت كثير من أعماله إلى العربية». إلى جانب الأعلام الغربية سالفة الذكر، نضيف مؤثراً غربياً آخر هو فن السينما الذي أسهم بدوره في تطوير الإمكانات السردية لعبد الله كنون ولو بشكل غير مباشر، إذ إن المعرفة لا تتم إلا بالتفاعل؛ فكل معرفة تفيد في إضاءة المعرفة الأخرى. ويعبر الأستاذ كنون عن علاقته بهذا الفنون فيقول: «السينما أيضاً كنت شغوفاً بها. عنوان الفيلم بالفرنسية يظل ثابتا في ذاكرتي…». بناء على ما سبق، يمكن القول إن فكر العلامة عبد الله كنون السردي نما وازدهر بقراءة الأدب الغربي الشهير. وهذه القراءة كانت «إما عن طريق الترجمة، وإما عن طريق تصفح الكتب والمجلات الأجنبية في أصولها».
فالأديب كنون كان يتقن اللغة الفرنسية التي تعلمها بمخالطته لطلاب المدارس العصرية. أما الإسبانية، فقد تعلمها من الشارع، وأصبح يتقنها فيما بعد. ثانيا– الإنتاج والإبداع إذا كان العلامة عبد الله كنون أنتج الشعر في سن مبكرة جداً، فإنه بخلاف ذلك لم ينتج الكتابة السردية عموماً والقصة خصوصاً إلا في مرحلة كانت مداركه الثقافية قد استوت، وحصيلته العلمية قد نضجت. ومع أن كنون تأثر في كتابة القصة بما كان يطالعه من سرديات في الأدب الغربي، فإن تأثره هذا لم يكن إلا تأثراً على مستوى الشكل. بمعنى آخر، تأثر على مستوى أسلوب هذا الجنس في تقديم مادته، فيما ظل المضمون إسلامياً محضاً، هادفاً إلى التربية والتثقيف. ويظهر هذا جلياً في قصتيه “حارس الكنيسة” و”الديك الأحمر”. وسأخص الحديث هنا عن القصة الأولى.
قصة “حارس الكنيسة” هي أكثر قَصص عبد الله كنون شهرة؛ نشرت لأول مرة سنة 1977 بمجلة المناهل العدد 10، ثم نشرها في كتابه “أشذاء وأنداء”. أردف عنوان هذه القصة القصيرة بعنوان فرعي صغير هو “قصة تاريخية”. من البدهي أن هذا العنوان الفرعي يعفي القارئ من البحث عن النوع الأدبي الذي تندرج فيه هذه القصة. لا أشك في أن القاص عبد الله كنون قد استفاد في كتابة هذه القصة مما كان يطالعه من سرديات جرجي زيدان؛ فقد اشتهر هذا الأخير من بين أدباء العرب بالكتابة في القصة التاريخية متأثراً ومقتبساً من والترسكوت، بل إن جرجي زيدان كان رائداً وسباقاً في هذا الباب كما أشار إلى ذلك الناقد أحمد المديني في كتابه “فن القصة القصيرة بالمغرب”، ص 133. ولم يكتف القاص عبد الله كنون بذلك التوضيح:”قصة تاريخية”، وإنما يضيف في هامش القصة عبارة توضيحية أخرى يقول فيها: «لهذه القصة واقع تاريخي لم نتصرف فيه إلا بما تتطلبه الحبكة الفنية لصوغه في صورة عمل أدبي».
ومما يميز القصة التاريخية أنها «تستوحي المادة التاريخية التي تعاد صياغتها قصصياً وإيديولوجياً وفق تصورات الكاتب المحكومة بشروط المرحلة التي ينتمي إليها». لقد صاغ القاص عبد الله كنون في هذه القصة قطعة من سيرة الشيخ الصوفي رضوان الجنوي (دفين نواحي مدينة وزان)، حيث تحدث عن قصة أبيه (الشخصية الرئيسة) وكيفية تحوله من المسيحية إلى الإسلام، وانتقاله من جنوة الإيطالية للعيش في المغرب، بعد أن وقعت له حادثة غريبة زعزعت عقيدته المسيحية. فتزوج بعد إسلامه بيهودية أسلمت أيضاً، وأنجب منها الشيخ الشهير المذكور.جاءت صياغة هذه القصة محبوكة فنياً على نمط القص التقليدي المبني على متوالية التوازن والاختلال، أو البداية/العقدة/النهاية.كما اعتنى القاص بتفصيل المكونات السردية الأخرى من الزمان والمكان والأحداث والشخصيات المساعدة مما لا يسع الحديث عنها في هذا المقال. على العموم، استأثرت قصة “حارس الكنيسة” برسائل عديدة يمكن تقسيمها إلى صنفين: أ- رسائل تعليمية تثقيفية: وتتجلى أولا من خلال سرد التاريخ، ومعرفة أصل الشيخ الذي عرف في التاريخ باسم “رضوان الجنوي”. وثانياً تتمثل في الاعتقاد الجازم بأن دين الإسلام هو الدين الحق الذي اختاره الله تعالى خاتمة لرسالاته، وغيره مردود على معتنقه؛ بل الأكثر من ذلك، فإن القصة تتقاطع بصفة مباشرة مع النماذج شبه القصصية التي كتبها القاص عبد الله كنون في كتيبه التعليمي “القدوة السامية للناشئة الإسلامية”. ب- رسائل تربوية خلقية: ترتكز في كيفية معاملة الناس بالأخوة والتعايش والتسامح بغض النظر عن الهوية الدينية؛ ذلك أن اختلاف الدين لا يكون مبعثاً على القطيعة بين الناس. فالقصة بلورت هذا السلوك من خلال علاقة التجارة بين الإيطاليين المسيحيين والمغاربة المسلمين من جهة، ومن خلال نشوء صداقة صادقة بين مسيحي هو حارس الكنيسة (والد الشيخ رضوان الجنوي) ومسلم هو أحد البحارة المغاربة. ومهما يكن من ذلك، فقد جاءت القصة برسائل دينية وإنسانية أبعد من كونها تعليمية وتربوية، ويمكن حصرها في:
· تصحيح عقيدة التوحيد وتطهيرها من الشوائب.
· تزكية النفوس بالأخلاق الفاضلة والقيم العليا.
· بث الحماس الوطني الإسلامي عن طريق التذكير بالأمجاد في محاولة لاستنهاض الهمم وبعث الوعي الديني.
ولعــلَّ هذه الرسائل، بل الغايات تلتقي مع جل كتابات عبد الله كنون الأخرى التي كان يظهر في بصفة العالم المسلم المرشد المصلح. وبناء على ما تقدم، جاءت قصة “حارس الكنيسة” غنية وخصبة تنتج أكثر من معنى، وتحمل أكثر من دلالة. وهذا أحد الفروق بين الخبر التاريخي الذي يؤدي معنى واحداً هو “الإخبار”، وبين القصة التاريخية التي تولد معاني متعددة، تجمع بين المتعة والمعرفة والفائدة؛ متعة القصة في تركيب أحداثها، ومعرفة التاريخ وأخذ العبرة منه. ونخلص في نهاية هذا المقال إلى أن شخصية العلامة عبد الله كنون السارد لم يمط اللثام عنها بعد. فهذا الجانب يحتاج إلى دراسة معمقة تشمل كتابات هذه الشخصية السردية عموماً بما فيها رحلاته، وتشمل أيضاً قراءاته النقدية في هذا المجال.
وهو مشروع نقدي أصيل سنعمل على إخراجه بتوفيق من الله .