العلامة عبد الله كنون في ردوده وتعقيباته
الخميس 11 غشت 2016 – 10:55:18
حينما نشرت بجريدة “الشمال 2000” الشهر الماضي أربعة مقالات حول العلامة عبد الله كنون بمناسبة الذكرى السابعة والعشرين لرحيله (9 يوليوز)، كنتُ أظن أنني اكتفيتُ من الحديث عن هذا العالم العلامة في هذا المنبر الصحفي؛ إلا أنه، وأنا أتصفح ما كتب عن هذه الشخصية متعددة العطاءات بأقلام كبار المشارقة والمغاربة، لفتت انتباهي إشارة معبرة ودالة للباحث والدبلوماسي الراحل د. عبد الهادي التازي في مقالة قيّمة له نشرها بالعدد الأول من السلسلة الجديدة لمجلة “الإحياء” تحت عنوان “عبد الله كنون”. قال: «ومن الطريف أن نجد في صدر الموضوعات التي كانت تأخذ باهتمام كنون الرد والتعقيب على كل ما ينشر في المشرق عن بلاد المغرب! فهو لا يتردد في الإضافات أو التصحيحات…». ولما شدتني هذه العبارة السريعة التي تنبئ عن أن الرجل طالع ما طالع بعناية عن شخصية عبد الله كنون، قمت لأبحث فيما كتبه العلامة عبد الله كنون في كتبه أو على صفحات المجلات المغربية والمشرقية، فألفيت في ذلك ردوداً عديدة، ومادة ثرة، بل مواقف عظيمة لم يكن يرتجي منها عبد الله كنون سوى خدمة الثقافة المغربية خصوصاً التي تعد لبنة في الثقافة العربية عموماً. وتيقنت أن هذه الواجهة التي ظهر بها الأستاذ كنون تستحق دراسة نقدية أكبر من أن يسعها هذا المقال. ولكن يبقى تسليط الضوء عليها ضربة لازب في انتظار من يوسع الحديث النقدي عن ذلك ويعمقه.
ولست أقصد في تناول ردود عبد الله كنون وتعقيباته أن أعرض لتلك المقالات النقدية السجالية التي نشرت بجريدة “العَلَم” وكانت بينه وبين الأستاذ عبد الرحمان الفاسي، أو تلك التي كانت بينه وبين الأستاذ محمد بن تاويت؛ ولكن القصد هو تناول الردود التي كانت بين العلامة عبد الله كنون وإخواننا المشارقة أو غيرهم من المستشرقين الذين كان بعضهم يحاول – إما قصداً أو جهلاً – أن يحط من قدر الغرب الإسلامي علماً وأدباً وثقافة. لعل عدداً كبيراً من المثقفين يعلم أن كتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، الذي صدر سنة 1938م والذي رفع ذكر عبد الله كنون عالياً، جاء تأليفه – كما قال المؤلف ذاته – عندما شعر بواجبه في ضرورة تزويد إخواننا في المشرق بالمادة التي يعتمدون عليها في الحديث عن المغرب، أو كما قال في معرض آخر: «بعد خلو كتب تاريخ الأدب العربي من الإشارة إلى المغرب وأدبه، ولو بكلمة واحدة». وقد تابع الأستاذ كنون العمل على هذه الغاية في سياق تصحيح وتغيير نظرة المشارقة كما المستشرقين إلى مساهمة المغرب في الثقافة العربية. فمعلوم أن الأستاذ عبد الله كنون كان يواظب على متابعة كل ما يكتب في المشرق، فيطالع كتبهم ويقرأ ما يتلقفه من جرائدهم ومجلاتهم.
لذلك، كان على دراية كبيرة بكل ما يكتب عن الغرب الإسلامي علماً وأدباً وتاريخاً. ولأجل غيرته على بلده ضد كل المغالطات التي وقع فيها بعض المشارقة سهواً أو جهلاً أو قصداً، كان العلامة كنون لا يفتأ يرد عليهم ويعقب على كلامهم مصوباً ومصححاً بالدليل والحجة في مسائل صغيرة أو كبيرة. وحسبنا أن ننظر إلى كتيبه “في اللغة والأدب” الذي صدر ضمن سلسلة شراع “العدد 8″، حيث جمُعت فيه بعض من مقالاته التي كان يرد فيها على بعض المشارقة وغيرهم الذين أخطأوا في قراءتهم لبعض عناصر الأدب المغربي إما لغة أو شخصيات. ففي اللغة، نقرأ له مقالاً تحت عنوان “إشكالية معجمية”، حيث رد فيه على الأستاذ محمود الملاح الذي نشر نقداً علمياً لكتاب “القومية الفصحى” لصاحبه الدكتور عمر فروخ، وذلك في الجزء الثالث من المجلد السابع والثلاثين من مجلة المجمع العربي بدمشق، وانجر الحديث في معرض مقاله إلى شخصية النحوي الشهير ابن آجروم، فقال عنه: «إنه بربري من أقصى المغرب، بل لا نكاد ندري أين تقع آجروم». فقد توهم الأستاذ محمود أن “آجروم” هذا اسم لبلدة في المغرب. فجاء مقال الأستاذ عبد الله كنون مصوباً لهذا الخطأ بالشخصية، وذلك بأسلوب لين يستبطن غيرة وحرقة على هذا الجهل أو التجاهل، إذ قال في جوابه الذي أتى آخر المقال:«وقد توهم حضرته أن آجروم بلد، وهو في الحقيقة اسم بربري لجد مؤلف الآجرومية محمد بن داود بن آجروم. ومعناه بالعربية الفقير الصوفي. وقد ذكر ذلك جل شرّاح المقدمة النحوية. وما كنا نظن أن العلماء المغاربة مجهولين لهذه الدرجة بالمشرق».
ونقرأ في مجال اللغة أيضاً مقالاً طريفاً، بل فريداً، رد فيه بنبرة قوية على ما نشرته مجلة الصباح المصرية في عددها (550) تحت عنوان “بحث إصلاحي للمستشرق م. كولان”، حيث علقت فيه على ما كتبه هذا المستشرق الفرنسي الذي يهتم باللغة العربية ومقارنة لهجاتها. فالأستاذ عبد الله كنون لم يستسغ رد المجلة أو تعليقها على الكتاب، فانبرى يرد بنفسه على أباطيل كولان بالحجة والبرهان. قال في بداية تعليقه:«هذا تعليق الصباح على بحث م. كولان، وهو غير كاف في دحض ما يحتويه من أباطيل، فضلاً عن اشتماله على بعض الأغلاط التي أنجزت إليه من تقريره لأسباب الأزمة المزعومة في البحث.
ونحن لذلك، نعقب عليه بما يكشف عن غره، ويَمِيزُ لبابه من قشره». ونلمس غضب الأستاذ كنون على كولان عندما غمز إليه بالجاهل والمضلل في قوله: «فأما أن عامية المغرب هي أبعد عن الفصحى من عامية مصر والشام والعراق، فهذا لا يصح، ولا يمكن أن يقول به إلا جاهل أو مضلل يريد أن يصل إلى غايته من طمس الحقيقة وتزويرها، ولو عن طريق الإفك والبهتان». لقد أثبت عبد الله كنون، بدون تعصب أو تفاخر، أن العامية المغربية ظلت قريبة من الفصحى على مر التاريخ؛ لكثرة ما تشتمل عليه من التراكيب الصحيحة والكلمات الفصيحة. واستدل الأستاذ كنون على ذلك بأن استعرض ستّاً وثلاثين كلمة عامية أصلها في الفصحى مثل “المضربة” التي هي نوع من الفراش، وقد ذكرها الثعالبي في الكنايات؛ و”العيالات” أي النساء، وقد وردت في كلام عمر بن الخطاب؛ أو “البراكة” التي يقصد بها البيت من الخشب، وقد جاءت في نفح الطيب وغيره. ورد الأستاذ كنون ذلك إلى كون المنطقة المغربية لم تشهد غزوا استعمارياً عثمانياً مثلما شهدته دول المشرق العربي. أما في مجال الرد حول الشخصيات المغربية، فلنا أن نطالع ما عقب به على الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي الذي نشر مقالاً نقدياً لديوان العلامة أبي الحسن اليوسي بجريدة الشرق الأوسط؛ وصدره بعنوان “شاعر سيء الحظ”.
وقد تعجب الأستاذ كنون مما قاله حجازي حول شخصية عالمة شهيرة كاليوسي، فهو لم يمنح نفسه الوقت لمطالعة حياته وشعره، بل تصفح ديوانه وأصدر أحكاماً متسرعة جداً؛ منها كون اليوسي ينتمي إلى عصر يعرف في تاريخ الأدب العربي بعصر الانحطاط، حيث ضعفت السليقة، وشاعت الركاكة، وصارت القصيدة خزانة للمحسنات والزخارف البالية. وأكثر من ذلك، فقد وصف الشاعر حجازي أول قصيدة في ديوان اليوسي بأن فيها «سذاجة في التصور والنظم، وفيها أخطاء لغوية ونحوية». ووصف شعر اليوسي جملة بالتفاوت، فهو ينحط في بعضه عن المتوسط، وقد يرتفع أحياناً. ولا يخفى ما في حرف “قد” من التشكيك والتقليل من شعر اليوسي ومكانته. ثم إن المفردات في شعر اليوسي – حسب زعمه – تبدو غريبة مستعارة، والتعبير فيه تقريري جاف بالرغم من الزخرفة والتحسين بالجناس والتورية ولزوم ما لا يلزم، والأخطاء اللغوية والنحوية والعروضية أكثر.
لقد أثارت تلك المفردات والتعابير التي سطرها الشاعر المصري حجازي غضب العلامة كنون؛ ما جعله يعقب عليه بمقالين أظهر من خلالهما رفضه لما اعتبره حرمة قد انتهكت، وكرامة امتهنت ممن كان حقيقاً بالحفاظ عليها ولو على سبيل الزمالة الشعرية. ففي المقال الأول، صحح الأستاذ كنون ما زعمه حجازي من الأخطاء اللغوية والنحوية والعروضية التي رآها في شعر اليوسي، نحو لفظ “الغمام” مثلاً في قول اليوسي: إن بين الغمام والزهر الغض لرحـماً قديـمة وإخـاء فالشاعر حجازي اعتبر “الغمام” مفرداً مذكراً، وليس جمعاً مؤنثاً كما استعمله اليوسي؛ لكن جاء رد الأستاذ كنون مفنداً لهذا الزعم والافتراء، وذلك بكون لفظ “الغمام” اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين مفرده بسقوط التاء. واسترسل الأستاذ كنون في احتجاجه بأن أعطى مثالاً، بل أمثلة مشابهة وشاهداً قرآنياً، بما لا يدع مجالاً للتشكيك في صحة كلام اليوسي وسلامته مما زعمه الشاعر حجازي. يقول: «فإذا قلت غمامة، نقص معناه، وصار دالاً على الواحد، وإن حذفت صار دالاًّ على الجنس، فزاد معناه. وهو يذكر ويؤنث. ومثله كلمة وكلم، ونبقة ونبق، ولبنة ولبن، ونخلة ونخل، ومن تذكيره قوله تعالى: “أعجاز نخل منقعر”، ومن تأنيثه قوله عز وجل :”أعجاز نخل خاوية”». وعليه، فلا أخطاء في لغة ونحو شعر اليوسي. كيف وهو أحد أئمة اللغة، المبرزين في علومها، القائل: “لو شئت أن لا أتكلم إلا شعراً، لفعلت”. وكتاباته كلها تنبئ باشتداد عارضته لغة وأدباً، وارتفاعه عن ارتكاب هفوات فيها. ومن منا لا يعرف قصته مع شيخه محمد المرابط الدلائي الذي رام تبكيته حول لفظ “القطائف”.
وفي المقال الثاني الذي جاء تعقيباً على رد الشاعر حجازي على تعقيب الأستاذ كنون الأول، استعرض العلامة كنون بعبارات شديدة اللهجة خطورة ما قاله الشاعر حجازي؛ وذلك من كون ما أشار إليه في مقالته الأولى حول اليوسي له «خلفية خطيرة، ترتبط بما زعمه المستعمرون الفرنسيون أيام سيطرتهم على المغرب، من أن العنصر البربري آري، وليس بينه وبين العرب السامين آصرة نسب، وقد كانوا يعملون على فصله عن السكان العرب… ومن ثمّ، فإن نبوغ أي مواطن بربري في اللغة العربية، كان موضع شك عندهم وتشكيك…». والمسألة بذلك ترتقي إلى عصر الفاتحين الأولين، وقضية صحة خطبة طارق بن زياد، بدعوى أنه بربري لا يستطيع إنشاء مثل تلك الخطبة العربية البليغة. وقد سبق للعلامة كنون أن وسع الحديث في هذه المسألة في مقالة قيمة جاءت تحت عنوان “دفاعاً عن أدبائنا الأمازيغ”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المسألة ترتبط بالرأي الذي طالما أطلقه مؤرخو الأدب العربي فيما يسمونه بعصور الانحطاط، فيجعلونها خالية من أي إبداع، ويصفون الإنتاج الأدبي والفكري الصادر في تلك المرحلة بالضعف والركاكة من دون استثناء. وعليه، كان جواب العلامة كنون نافياً لذلك كله، ومؤكداً بالحجة والبرهان أن كثيراً من النوابغ ظهروا في عصور الانحطاط، وما زال التاريخ لم ينصفهم. ومن جهة ثالثة، احتوى تعقيب الأستاذ كنون رداً على العصبية المحلية التي وصف بها الشاعر حجازي الأستاذ كنون. فهذا الأخير لم يقبل هذا الاتهام، لكونه افتراء عليه وادعاء باطل لا يستند إلى حجة؛ فالعلامة عبد الله كنون يدافع عن الثقافة العربية في جملتها، مشرقية كانت أو أندلسية أو مغربية، يصوب ما يبدو له خاطئاً، ويقوّم ما يظهر له معوجاً في اللغة والنحو التراجم والتاريخ والأدب وما إلى ذلك. وكتب على حد تعبيره عن المشرق مثلما كتب عن المغرب، ومجموعاته الأدبية والنقدية زاخرة بما يثبت ذلك.
والواقع من خلال هذا السجال أن الشاعر حجازي هو الشاعر السيء الحظ حقيقة، الذي أظهر من خلال كتابته ونقده لديوان اليوسي ضعفاً ثقافياً على مستوى اللغة والنحو، وكذا العروض. جملة القول، هذا أحد أوجه كتابات العلامة عبد الله كنون التي تحتاج مزيداً من التوسع وإسالة المداد حولها. وهو وجه ينبغي أن نقرأ فيه الجانب المعرفي الذي يتولد عنه من تصحيحات وتصويبات في الأدب واللغة ونحوهما، أكثر من أن نقف على المواقف السجالية في سطحيتها. فما السجال هنا إلا وسيلة إلى دفع عجلة البحث العلمي وتحريك دواليب القراءة والمطالعة. ولنا في الخصومات النقدية التي سجّلها لنا التاريخ الأدبي العربي أمثلة كثيرة.