الغارة على بلاد نفطستان (الفصل : 1- 2)
الجمعة 04 مارس 2016 – 12:22:35
لماذا كُتِبَ علي أن أجلس وحدي تحت شجرة الحزن أُدَوِّنُ هذه الكلمات، وأنزع أشواكها شوكة شوكة ثم أغمسها في مداد القلب وأكتبُ لكم ما تيسر من الأحداث.. وكان الحَدث الأوّل رُؤيــا رأيتها. رأيتُ فيما يرى النائمُ أنني تحتَ ظلّ شَجرة سَدرٍ أستـــاكُ بعـــودِ أراكٍ، وأبتسم عن أسنان شديدة البَيـــاض، وأمامي مواطنو دولتنا ينظرون إليَّ بحُـزن بـالــــغ، وليس في فم أحدهم سنٌّ واحدةٌ، كلهم أَدْرَدُ. ولكي أغيظهم كنت أبالغ في السّـــواك.
وفجأة سقط العود من يدي، فلما انحنيت لأخذه سَبقني إليه شيخ كبير ثمّ رَمى به بعيدًا، وابتسم، فإذا هو شيخ له أسنان. وانتبهت وأنا أضع أصابعي في فَمي وأعض عليها بقوة لكي أتأكد من وُجـــود أسناني في مكانها. وكان وقت صلاة الصبح قد اقترب، فتوَضــــأت وتوجهت إلى المسجد الأعظم، وصليت مع جَماعة المسلمين، ثم طلبت أن أخلو بالإمام، وكان رَجُـلاً مَهيبـــًا، تبدو عليه علامات الورع الشديد. فغشيتني أنواره، وانتقلت السكينة من قلبه إلى قلبي، غير أني ارتجفت وأنا أحكي له رُؤياي. فَقــال لي: فيمَ ارتجافك يا بني؟!.. كان ارتجافي لأنّـي انتبهت إلى أن الشيخ الذي رأيته في منامي يسبقني إلى عود الأراك ويرمي به بعيداً هو عينه الشيخ الذي أكلمه الآن، غير أنّني قلت له: هو ارتجاف المأخوذ بجَــلال الموقف. فــأطرقَ طـويــلاً، ثم رفع إلي رأسه، ونظر بعينين دامعتين إلى سقف الجامع، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كان صوته يجمع بين جلال الحزن، وعمق التفكير، وهيبة المكان. فأحسست بقلبي يخفق خفقات متوالية، وقبل أن يهدأ الخفق كرر الرجل قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كان صوته هذه المرة يجمع بين ألم اليأس وبين برد التسليم، فأحسستُ بما لا قبل لي به من الجزع المخيف، وضاع إحساسي بالجهات الأربع، غير أني كنت أرى في كل ناحية آلة حدباء، ورجلا محمولا، وصراخا لا ينقطع. وهنا عيل صبري فصرخت: ما هو تأويل رؤياي يا شيخ؟ماذا ترى عينك المباركة في ثنايا رؤياي المفزعة؟ أخبرني بما علمك الله من تأويل الأحاديث بما سيكون من الأحداث والوقائع، فإني أريد أن أقرأ الغيب من خلال حروفك النورانية، ومن بين إلهاماتك المشرقة، فإن الغيب ظلمة لا ترفعها إلا أنوار كلماتك. فأدرك بسرك جهري، وبفيضك جدبي، وبسكونك اضطرابي، فإن المذبوح بسكين الخوف لا بد أن يتشحط بدماء الرجفة بين اليأس والرجاء. كنت أصرخ وأنا أنظر إلى الأرض، فقد كنت أخشى إن رفعت رأسي أن أقرأ في عيني الشيخ جوابا يزيدني فزعا وخوفا واضطرابا ويأسا. ولكنني أحسستُ في صمته ما لم أحسه في كلماته التي لم تزد على الحوقلة. كان صمتًا مُوذنا بالجَــواب. نَظرَ إليَّ طَـويلاً ثمّ قــالَ:
-Fiston, tu Seras le De
ier Survivant.
رفعتُ رأسي بسرعة، ونظرت إليه بدهشة بالغة. كان الشيخ يفسر الرُّؤيا بما يُناسبها من اللّغـــات. أحسست بإغمـــاءة، ثم بجماعة من الناس تجتمع حولي، ولم أتذكر بعد ذلك شيئا، فإنني لما انتبهتُ من إغماءتي وجدت نفسي في المستشفى. ونحن نسميه: المستشفى الوطني، ونسميه البيمارستان العام. وهو المستشفى الوحيد في دولتنا: دولة نفطستان المجيدة. وهذا المستشفى من مفاخر دولتنا البهية. وكان رئيسَ الأطباء فيه لذلك العهدِ النطاسيُّ “محجوب الأحذ”. والنطاسي عندنا مرتبة فوق الدكتوراه، وأصل هذه الكلمة بالرومية نسطاس، وهي تكاد تساوي مرتبة البروفيسور عند الأعاجم. وكان هذا الرجل مشهودا له بالكفاءة، والمعرفة بالطب، والخبرة، والتجربة. وكنا نعده آية من الآيات في المعرفة بالبلغم، والمرة السوداء، والمرة الصفراء، وتسكين الرطوبة في الدم. وقد عيّنهُ الـــحاكم شيركويه على رأس الأطباء في المستشفى بعد أن استطاع معالجة ابنه، وكانت معدته ضعيفةً يُوَلِّدُ الطعامُ فيها بلغماً فعالجه بما يقمعُ الصفراءَ حتّى شُفِيَ، والحمد لله تعالى. وقد توجّه، بحمد الله تعالى، بمُجرّد تعيينه إلى مباشرة أمور المستشفى، وإصلاح أحواله. ثم قسمه تقسيما عجيبا، فجعله سبعة أقسام، أذكرها لكم على سبيل الفائدة، وهي:
1 ـ قسم الكحالة.
2 ـ وقسم الكي.
3 ـ وقسم الفصد والحجامة.
4 ـ وقسم الرقية الشرعية، ومعالجة المس والسحر.
5 ـ وقسم التداوي بالعسل.
6 ـ وقسم الأعشاب والصيدلة.
7 ـ وقسم التداوي بالموسيقا. وهو قسم خاص بمن لا دين له.
ثم ظهر له أن يزيد في هذه الأقسام، فأنشأ قسما خاصا بالسواك وأمراض الفم، إلا أنه قسم قل من يأبه به، أو يعده من أقسام المستشفى. فقد درج مواطنو دولتنا على اعتبار أن تسوس الأسنان وسقوطَها ليس من المرض في شيء. ـ 3 ـ وقد استيقظت من الإغماءة التي أصابتني فوجدتُ نفسي في المستشفى، ووجدت النطاسي محجوبا عند رأسي. فقد كان شديد العناية بالمرضى، نابها، ذكيا. يكفيه النظر في لون المريض، وعينه، وجسُّ نبضه، حتى يعرف الداء ويصف الدواء. وكان من عادته إذا استعصت عليه معرفة العلة أن يطلب من المريض أن يضع ماءه في قارورة، ثم ينظر فيها، ويسأله عن طعامه وشرابه، ثم يعين له من الدواء ما يكون فيه شفاء بحمد الله تعالى. لذلك أحسست بارتياح عظيم لنظره في أمر صحتي. وكنت أُزَوِّرُ في نفسي جوابا لما أنتظره من أسئلته. فقد كنتُ أحاولُ أن أتذكر الطعامَ الذي أكلتهُ في اليوم السابق. وبذلتُ مجهودا في ذلك. هل هو الباذنجان؟ أم هو الثريد؟ أم هو السمك المشوي؟..ولم تسعفني ذاكرتي بشيء، غير أنه رجح عندي أنه الباذنجان. فأخذت أردد: الباذنجان..الباذنجان..فلما رآني أكرر كلمة “الباذنجان” توجه بالكلام إلى أحد مساعديه، دون أن يسألني عن شيء، وقال له: انقلوه إلى قسم الرقية ومعالجة المس. ظننته لم يفهم، فقلت: الــرّاجح أني أكلتُ الباذنجان..ولكي أُذهب عنه الشك، اقتربت منه، وأخرجت لساني. وبعد أن اطمأننت أنه نظر فيه بما يكفي لكي يتبين له صدق قولي، أدخلت لساني، وأطبقت فمي، وبعد أن بلعتُ ريقي، قلت له: والآن..أليس هو الباذنجان؟!.. قال: نعم..نعم..هو كذلك. ثم توجه إلى طبيب ناشئ يقف إلى جانبه، وقال له: ألم أقل لك ذلك؟. قال الطبيب الناشئ: تقصدون مسألة الخلاف بين الأطباء في الباذنجان، هل هو حار أم بارد؟!.قال النطاسي محجوب: نعم. وقد تبين لك الآن الصحيح في المسألة. فهو حار مُوَلِّدٌ للسوداء والبواسير، وهو يفسد اللون ويسوده..انقلوا هذا الرجل للقسم الذي ذكرته لكم. قال هذا وتركني إلى مريض آخر.. وهكذا وجدت نفسي في غرفة الانتظار في قسم الرقية ومعالجة المس والسحر.
الفصل الثاني :
الرؤيـــا
كان هذا القسم فَسيحًا، قـد عُلِّقت على جدرانه أعشاب مختلفة لا أعرف اسمها، غير أني رأيتُ بعضها في المقابر. كانت عمتي مولعةً بوضع بعضها على قبر جدي ـ رحمه الله تعالى ـ صباح كل يوم جمعة. فقد كانت تعتقد أن وضع الريحان خاصة على قبر الميت مما يخفف عنه العذاب إن كان من المعذبين، ومما يبهجه إن كان من المنعمين. وكان هذا الفعل يُذهب بعض وحشة القبور عن الزائرين. وكنت ـ سامحني الله تعالى ـ أتخيل جثة رجل توفي قبل سنوات، يعلوها تراب، وفوق التراب حديقة غناء، على طرفها امرأة شديدة الحرص على سقيها في كل آن.
وكنت بما جبلت عليه من حب مجاملة الناس، أساعد عمتي في جمع الأعشاب وحملها ووضعها على القبر، مع اعتقادي الجازم أن جدي ـ رحمه الله تعالى ـ قد شغل بريحان الجنة عن ريحان عمتي. وقد أورَثني هذا معرفةً بهذه الأعشاب مع جَهل بأسمائها. فلما نظرتُ إلى جدار القسم لم يفتني أن معظمها مما ينفع الموتى في نظر الأحياء. فهل أصبحتُ في مرتبة بين الأحياء والأموات؟!..هل سيوضع فوق جسمي بعض هذه الأعشاب لتذهب عني السوداء، وتصفو نفسي من الأكدار والأغيار، وأنظر في مرآة الروح فأقرأ ما مضى وما سيأتي من أسرار الأسرار؟!..هل سيكون شفائي على يد “محجوب الأحذ” ومن يساعده من أهل الطب، والحكمة، والمعرفة بعلوم الأولين؟!..
نظرت حولي أبحث عمن أستأنس بحديثه من المرضى في انتظار أن أُنــَادَى، فلم أجد أحدا. كأنني كنت الوحيد المُصاب بهذا المرض. رأيتُ أحدَ الأطباء يمشي بسرعة نحو إحدى الغرف، فهرولت نحوه وسألته: ــ هل سيطول انتظاري؟! فأجابني: ــ أين ملف مرضك؟.. كنت أضع هذا الملف تحت إبطي، دون أن أنتبه إلى أنني أحمل ملفا. كان يمكنني أن أقرأ فيه دفعا للملل. كيف غاب عني هذا؟!..ناولته الملف بسرعة خشية أن يتركني إلى ما كان مسرعا إليه. فنظر فيه بغير كبير اهتمام ثم قال: ــ لن تنتظر طويلاً..وعلى أيّـة حـــال فإن المريض بمثل هذا المرض تتحسن حالته في الشتاء. أنت مصاب بما نسميه في الاصطلاح الطبي الدقيق: مرض خالد الكاتب، نسبة إلى هذا الرجل الذي كانت تأخذه السوداء أيام الباذنجان ..قال ذلك ثم انصرف دون أن يترك لي فرصة سؤاله مرة أخرى. وكأنه فهم قصدي، فقال لي، دون أن يلتفت نحوي: ــ أمامك كتاب التذكرة لداود الحكيم الأنطاكي، يمكنك أن تقرأ فيه، فهو في الخزانة خلفك، لن تشعر بالملال وأنت تقرؤه. التفتُّ خلفي فإذا رَفٌّ به مجموعة من الكتبِ قد جُلِّدَتْ بجلدٍ نفيسٍ، ورتبت بعنايةٍ بالغةٍ، ووضعت في خزانة مزخرفة كُتب أعلاها مطلعُ أرجوزة ابن سينا في الطب، وهو قوله:
الطِّبُّ حِفْظُ صِحَّةٍ بـُـرْءُ مَــرَضْ……مِنْ سَبَبٍ فِي بَــدَنٍ عَـنْـهُ عَرَضْ 2

اقتربتُ من الخزانة، وشرعتُ في قراءةِ عناوين الكتب دون رغبةٍ في النظر فيها. كنت أقرأُ بصوتٍ خافتٍ: ـ المنصوري في الطب للرازي ـ القانون في الطب لابن سينا ـ مكنوز السر في الطب والصيدلة لابن الجزار ـ الموجز في الطب لابن النفيس ـ رسالة في الفصد لقسطا بن لوقا البعلبكي…لم أستطع إكمال هذه اللعبة، فقد كانت مملة جدا..فانتقلت إلى النظر في رف آخر، وبدأت أقرأ هذه المرة بصوت مسموع: ـ مؤلف في طب الأسنان للطبيب”مركا ورع” من عهد الملك “ساحو رع”، من الأسرة الخامسة. ابتسمتُ قليلاً ورددتُ مراتٍ: “مركا ورع”، “ساحو رع”. ثم شرعت أقرأ من جديدٍ: مؤلفات الطبيب “نفرارت آس” من المملكة المصرية القديمة. كان هذا الاسم ثقيلا، غير أنه يبدو مناسبا لمهنة طب الأسنان..تقدم أيها الفرعوني القديم إلى “نفرارت آس” ليصلح من أسنانك، ويغلفها بالذهب الإبريز، فتمتنع عن الابتسام في حضرة العوام خشية أن يطمع اللصوص في سرقة أسنانك..والراجح أنهم سيقطعون رأسك اختصارا للوقت. حتى إذا عادوا إلى مخبئهم أمكنهم نزع الذهب عن الأسنان بهدوء وروية وإتقان..ضع ذهبك في أضراسك العليا فهو آمن لك، وأخفى له. ضحكت بصوت عال هذه المرّة، ثم عدت أقرأ: مؤلف في طب العيون للطبيب الفرعوني القديم “ني عنخ دواو” من الأسرة الخامسة..: ماذا يعرف هذا الفرعوني عن طب العيون، وعن سحرها، وعن لغتها..عن عيون المها..وعن العيون التي في طرفها حَوَر..وعن العيون المترصدة..وعن العيون الناعسة..وعن العيون الغامزة..وعن العيون القتالة الفتاكة الحاصدة..هذا علم لا يفقهه أطباء العيون، فهو مما اختص به الشعراء في دولتنا، دولة نفطستان العزيزة.. ألم يقل شاعرنا لا فض فوه:
عـيـون الـمـَهـا نـفـط وغـاز ونـيــران…… وشعلة حب قد أُضيعت وبستانُ
إنّي كلّما تذَكّرتً هَذا البيت سَبحت بخيالي في عوالم من نُور لا حُدود لَها، وتَمرّغت به في رمال دولتنا البهية، وأحسست بالضوء يكتنفني من كلّ مكان.. إنّي أحبُّك يا دولتنا.. يا نفطستان العزيزة، وأدعو الله صباح مساء أن يرفع لواءك فوق كل الألوية، وأن يستمر خَفاقًا فوق الرُؤوس..أنت لا تَفقه شيئًا في كل هذا يا”ني عنخ دواو”..وأنت لا تعرف شيئا عن العُيون الباكية..التي تبكي من الذل، والتي تبكي من الخوف، والتي تبكي من الألم، والتي تبكي من الخشوع.. ألم يقل شاعرنا، حفظه الله تعالى لسانا لدولتنا المجيدة:
أبـكـي بـُكـاء الـعـارفـيـن لـعِـلـمـهــم …… أن الـبـكـاء خُـلاصـة الأحــــــزان
تملكني الخشوع الشديد عند تذكري لهذا البيت، فدمعت عيناي، وانتقلت ببصري إلى رَفِّ أعلى في الخزانة، و بدأت أقرأ: قسم المُجرَبــات.. ـ مجربات ابن عربي في الطب الرُّوحــاني..مُجربــات الغــــزالي الكبير..مجربات الديربي الكبير.. أنا أيضا لي مجرباتي: فمن مجرباتي أن الشيخ الذي يفسر الرؤيا يوجد في كل مكان..وأن أعشاب عمتي توجد في المقبرة وعلى جدران المستشفى..وأن الباذنجان يورث السوداء..وأن قراءة عناوين الكتب مما يخفف من حدّة السوداء..وأن شعر شاعر نفطستان أهم من خزعبلات “ني عنخ دواو”.. أذهلني ما أعرفه من علوم، وأعجبتني نفسي..فقَررت الاستغناء عن هذا الطبيب الذي أنتظر أن يستدعيني للدُخــــول، وبدا لي أنه هو الذي ينتظرُني، فتسلّلت بخِفة خـــارج القاعة، ومشيت في الممر لدقائق، قبل أن أعـرّجَ على قـاعـــة فسيحة قد اجتمع فيها عدد كبير من المرضى والأطباء والممرضين وعمال المستشفى، وقد رفعوا رؤوسهم جميعا إلى شاشة كبيرة ينظرون باهتمام شديد..
وقفت إلى جانبهم ظنــًا منّي أنّهــُم يتتبعون مباراة في كرة القدم. فقد تعودنا في دولتنا، دولة نفطستان المجيدة، أن نعطي اهتماما كبيرا للمباريات التي يجريها منتخبنا الوطني لكرة القدم مع جيراننا الشماليين، حيث تغلق المحلات والحوانيت والأسواق، وترفع الرايات، وتخلو الشوارع من المارة، ويحتشد الناس أمام شاشات التلفاز الكبيرة الحجم في الميادين العامة، وفي المقاهي، ويكثر ترديد الأناشيد الوطنية، وتباع قمصان عليها أسماء اللاعبين وأرقامهم، وتخفق القلوب خشية أن لا يتمكن اللاعب “فتح الباب” جوهرة منتخبنا، ونجم فريق “الوادي الأجرد” لكرة القدم، الملقب بالقطار السريع، من لعب هذه المباراة التاريخية. فقد كان يلعب بكلتي رجليه، سريعا، له رؤية شاملة للملعب، حسن التسديد للمرمى، جيد التمرير، بديع المراوغة، صاحب “فنيات” رائعة، ولياقة بدنية عالية. ونحن إلى اليوم نحس بفرح غامر، واعتزاز شديد، كلما تذكّرنا هدفه الذي سجّله في مرمى الشماليين بعد سلسلة من المراوغات أنهاها بقَذفة لا ترد برجله اليسرى.. لذلك خاطبت الواقف إلى جانبي، دون أن أرفع رأسي إلى شاشة التلفاز: النتيجة بسرعة!..لم يلتفت الرجل إلي، ولم يعبأ بسؤالي.
فتَركته إلى آخر أسأله السؤال نفسه. نظر إلي هذا الأخير بحزن بالغ، وقال: النتيجة..النتيجة كارثة..أظنها ستكون حربا.. قلت: بين من ومن؟!.. قال: بين شماليِّ نفطستان وبين جَنُوبِيِّهَا.. كنت أعلم أن بين شمالي دولتنا وجنوبيها خلافا في مجموعة من الأمور..فقد اعترض الشماليون مرة على تدريس كتابين للنضر بن الحارث بن علقمة هما: أخبار ملوك فارس، وأخبار رستم وإسفنديار. ليس بسبب مضمونهما، ولكن بسبب عدم صحة نسبتهما للنضر.
واعترض الجنوبيون مرة على تدريس كتاب “نتائج الأفكار في محاسن الاستعمار”، ليس بسبب مضمونه أيضا، ولكن بسبب أن ميزانية الدولة لا تُمكن من شراء النُسخ الضَرورية من هذا الكتاب لتوزيعه على الطلبة مجانا، ولعدم توفر المدرسين الأكفاء القادرين على فهم مقاصده البعيدة، وإفهامها لطلبتهم وتلامذتهم. ووقعَ خلاف آخر، فيما أذكر، يتعلق ببعض مـــواد دستور نفطستان، سرعان ما تم تطويقه بحكمة بالغة، وذلك عندما وجد له فقهاء القانون عندنا مَخرجا بديعًا. وخلاصة القصة أنه لما كُتبت مواد دُستورنا الأول، كان نص المادّة الثـــانية فيه بهذا اللفظ: ـ نفطستان دولة ديموقراطية لا تتجزأ، تضمن المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز بسبب الأصل أو الدين، وهي تحترم كل المعتقدات. وكان وجه اعتراض الجنوبيين على هذه المادّة أنه لا يــُوجد أصـــلاً مواطن غير مسلم في دولتنا، فوجب حَذف ما لا وجود له في الـواقـــع من نص الدستور.
وكان ردّ الشماليين أن هذا الأمر غير صحيح على إطلاقه، فإنّه يُـوجــد بالشمال خلف بركة البط بيت مهجور يقال إنه كان لعجوز يهودية في زمان غير بعيد. واحتمال ظهورها مرّة أخرى أو عودتها وارد جدا. فوجب أخذ الاحتراس عند كتابة مواد الدستور لهذا السبب الوجيه. وتشبث كلا الطرفين بمَوقفه، وأطلق أهل الصحافة على الموقف الأول اسم الموقف الواقعي، وأطلقوا على الموقف الثاني اسم الموقف الاحترازي البعيد الأفق، إلى أن اقترح الفقهاء الدستوريون عندنا تعديلا على هذه المادة رضي به الطرفان. فأصبح النص بعد التعديل على هذا الوجه: ـ نفطستان دولة ديموقراطية لا تتجزأ تضمن المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز بسبب الأصل أو الدين، في حالة تعدد أحدهما أو كليهما، وهي تحترم كل المعتقدات. وهناك خلاف كان يتعلق بالنشيد الوطني لدولتنا العزيزة هو أقل شأنا منهما. فقد أصر بعضنا على أن يكون مَطلعه:
Allons enfants de la Patrie Le jour de gloire est arrivé
وأصر بعضنا الآخر على أن يكون مطلعه:
بــــنــــــــاةَ الـوطـــنْ …… وأهـلَ الــــــــردى
صـنـوفُ الـمـحـــنْ …… تـــهــــــز الـمــــــدى
ونــحـــن الـثـمـــــــنْ …… ونـحــــن الـفــــــــدا
وأجمعنا أخيرا على أن نجمع بين المُطلعين في نشيدنا الوَطني تأسيــًا بدولة سويسرا الشقيقة التي يضم نشيدها كلماتٍ مختلفةً من اللغات الأربع الرّسمية للبلاد، واستئناسا بما صَنعته دولة كندا الصديقة التي كتب نشيدها الوطني باللغتين الإنجليزية والفرنسية. لقد كان صدرنا رحبا، وأفقنا واسعا، وتسامحنا نموذجيا، وكنا من القلّة القليلة المحظوظة التي تجمع في نشيدها الوطني بين لغتين مختلفتين. إني أكتبُ هذه الكلمات فأشعرُ بـــالفَخر الشديد، ثم ترجعني الأحداث التي وقعت إلى حُزني الأول، فإني لم أكن أتصَور أنه يمكن في يوم من الأيــّام أن تصبح نفطستان الموحّدة دولتين، ولا أن تنشب حرب بين مُواطنيها. ولكن توقعات الرجل الذي كنت أقف إلى جانبه في المستشفى كانت أصْدقُ من تصَوُراتي. وإني إلى اليوم ما زلت أتذكر كلماته كأنه ينطقها الآن، وكأنه يَصبها في أذني صبا، فأحس بحرها كأنها النحاس المذاب. لقد قال: أظنها ستكون حربا..وقد كانت كما قال..