الغارة على بلاد نفطستان (الفصل : 4)
الثلاثاء 15 مارس 2016 – 13:10:16
الفصل الرابع :
فتح الباب
وأما أهل التاريخ فقد أضحكهم ما رويته لهم من أسباب، ونصحوني بأن أمزق الأوراق التي كتبت فيها هذا الهراء. لأن الأمر أعمق من ذلك بكثير. وما لم يعرف السبب في عمقه الذي تحكمه حتميات تاريخية معروفة، فإننا سنظل نروي قصصا تزيد المشكلة استفحالا.
قلت لهم: وما هي الطريق إلى هذه المعرفة إذن؟
قالوا: ابحث عن المستفيد من هذه الحرب تعرف أسبابها.
قلت: ومن المستفيد؟!
قالوا: الاستعمار!..
قلت: وأين الاستعمار هنا؟ فأنا لم أر إلى اليوم جنديا أجنبيا واحدا على أرض نفطستان!..
قالوا: ذلك أنها حرب بالوكالة!.
ولأنني لا أعرف معنى “الحرب بالوكالة “فقد تطوعوا بتبسيط هذا المعنى الدقيق لفهمي السقيم. وهذا الذي فهمته عنهم أذكره لكم.
قالوا: هل تعرف الحاج عمر الكحال؟.
قلت: هل تقصدون التاجر المعروف في القسم القديم من العاصمة؟.
قالوا: هو الذي نقصد.
قلت: ما باله؟ وما علاقته بالحرب بالوكالة؟ هل معنى الحرب بالوكالة أنها الحرب التي يقوم بها الحاج الكحال؟!.. قالوا: ما هذه السذاجة؟!..أليس يسكن في درب الكحالين، خلف متجر الصفدي؟!..
قلت: هذا الذي أعرفه عنه..لكن يبدو أنني لا أعرف عنه إلا الظاهر، وأنكم أدرى مني ببواطن الأمور.
قالوا: دعك من هذا، وحاول أن تفهم هذا الأمر بدقة وتفصيل..هل تعرف أن متجر الصفدي تابع لشركة الصفدي العالمية، وأن رأسمال هذه الشركة في أغلبه يتحكم فيه صهاينة وأشخاص تابعون لجهات دولية (مشبوهة) تحاول أن تحارب الخط التقدمي، والتيار الثوري في دولة نفطستان الثائرة..
قلت: أما هذه المعلومات الدقيقة فأنا لا أعرفها، ولذلك أكتبها عنكم..
قالوا: اكتب إذن..لقد استطاعت هذه الجهات المشبوهة تساندها القوى الرجعية أن تتغلغل في أجهزة الدولة، وتضع فيها عملاء لها تحركهم متى شاءت، نسميهم نحن خونة، ومرتزقة، وانبطاحيين، وانهزاميين..
قلت: ما أعجب هذا وما أخطره!..
قالوا: والأدهى من ذلك أنهم تمكنوا من زرع عملاء لهم في الجيش من أجل الحصول على ثروات نفطستان الهائلة..
قلت: الذي أعرفه أن كل ما نملكه من ثروات بئر نفط واحدة في الشمال..
ضحك أحدهم من سذاجتي، وتطوع آخر بالشرح. قال: هذا هو الذي يذيعونه وينشرونه بين أفراد شعبنا الكادح والمناضل..والحقيقة أن هناك ثروات هائلة لا يتحدثون عنها..
كانت طريقة حديثه توحي بأن المسألة غير قابلة للنقاش، وأنها من المسلمات التي لا شك فيها. فتركت التشكيك في أمر أطبق المناضلون على صحته، سترا لجهلي، ولسذاجتي البالغة. ثم سكت قليلا أفكر في عبارة أعود بها إلى أصل الحديث، فلما وجدتها قلت: إذن، فقد زرعوا عملاء لهم في الجيش..
قالوا: للأسف هذا ما حصل..وبواسطة ضابط صف عميل لهم يقال له: فتح الباب، استطاعوا أن يشعلوا فتيل الحرب بين الشمال والجنوب..
ــ 5 ــ هذا الذي قاله لي المؤرخون، لم يخالفهم في ذلك إلا رجل واحدٌ كان ينصت إلى حوارنا باهتمام بالغ. فلما كتبت عنهم وأردت الانصراف أشار إلي أن اتبعني، فتبعته وأنا لا أدري في ماذا يريدني. فلما فصلنا عن القوم التفت إلي وقال: أراك شابا حدثا، فلا تلتفت إلى أقوال هؤلاء!.. قلت: وأي أقوالهم تقصد؟!.. قال: مسألة الحتميات. فالكون محكوم بقوانين احتمالية، وكلام هؤلاء كلام من لم يسمع بالفيزياء الحديثة.. قلت: وما علاقة كل هذا بنفطستان، والحاج عمر الكحال، ودرب الكحالين، ومتجر الصفدي؟!..أجبني حتى أستطيع أن أكتب عنك كما كتبت عنهم.. قال: لن تستطيع الفهم. فهؤلاء تيار قديم يقدس رجلا يقال له “هيجل” كان يزعم أن الكواكب السيارة لا يمكن أن تكون أكثر من سبعة.. قلت: وهل هيجل هو سبب الحرب، أم ضابط الصف “فتح الباب”؟!.. قال: لن تعرف أبدا من السبب في الحرب، ولكنك ستجد وسادتك مضرجة بالدم، وستجد بيت جيرانك مهدما، وستسمع صوت الانفجارات في أحلامك، وستصرخ بأعلى صوتك كلما رن منبه هاتفك المحمول فجرا.. قلت: أنا لا أفهمك..كلامك عميق جدا!.. قال: لن تفهمني قط. فأنت تنتمي إلى طبقة شعبية فوضت لنا مسؤولية التفكير عنها، فحملتنا ما لا تطيقه الجبال..ولكني سأُبَسِّطُ لك الأمر بكلمة لبرونوفسكي قال فيها: “إننا نسعى وراء هدف يبتعد عنا أكثر نحو ما لا نهاية له كلما اقتربنا لنصبح في مدى رؤيته”.. قلت: أظنني فهمت..وفي الحقيقة لم أكن قد فهمت شيئا.. ولكنني فهمت بوضوح ما حدثني به أحد السياسيين الكبار في بلدنا، عندما قص علي قصة “اللقاح”، وكيف كانت السبب الحقيقي في هذه الحرب المدمرة.
ــ 6 ــ قال: بدأت قصة “اللقاح” عندما كتب النطاسي “محجوب الأحذ” تقريرا رفعه إلى الجهات المختصة يتعلق بمسألة اللقاحات التي استوردتها الحكومة بأثمنة مناسبة جدا من بعض الدول الإفرنجية. ذكر فيه أن هذه اللقاحات فاسدة، ومنتهية الصلاحية، وأن بعض الأشخاص من الشمال كانوا على علم بذلك، وأنهم اتفقوا مع هذه الدول المصدرة على استعمالها في الجنوب خاصة، حيث ازدياد عدد الذكور وقلة فرص العمل. وأن هذه الأمراضَ يمكن تفاديها بسهولة باتباع البرنامج الطبي الدقيق الذي وضعه مدير البيمارستان العام باعتماد الطب البديل، وتقوية المناعة بطريقة طبيعية. ثم ذكر في ختام تقريره أن فضيحة استعمال هذه اللقاحات أدت إلى وفاة عدد كبير من أطفال الجنوب وأمهاتهم.
وحمل المسؤولية المباشرة في ذلك الوزارةَ المختصةَ ووزير الصحة الشمالي. وأخيرا بين بما لا يدع مجالا للشك، وبالأدلة العلمية المتفق عليها أنه بسبب هذه اللقاحات أيضا أصيب عدد هائل من الأمهات الجنوبيات بالعقم.
قال محدثي: وكان من ضحايا هذا اللقاح طفل صغير من الجنوب لا يتعدى سنه خمسة أعوام. كان أبوه ضابط صف في الجيش يقال له “فتح الباب”، لم يستطع صبرا على فقدان ابنه فكان أن أطلق أول قذيفة في هذه الحرب.
ــ 7 ــ هذه هي الروايات التي سمعتها وسجلتها لكم. رويتها بكل أمانة. لم أخرم منها حرفا، ولم أتصرف فيها بأدنى تصرف. وهي كلها روايات لم أختص بها. فقد سمع مواطنو نفطستان بها، ورددوها في مجالسهم، وصدقوها جميعا.
وبقيت روايتان لا يعرفهما إلا القلة، وُفِّقْتُ إلى معرفتهما، بعد البحث والتنقيب، ومع الصدفة والحظ. فأما الرواية الأولى فذكرها لي ضابط مخابرات متقاعد كان صديقا لعم والدي “عباس الأكحل”. وكان يجعل هذا العم في مقام والده الروحي الذي علمه الإخلاص والوفاء والتضحية بالنفس في سبيل عزة الوطن والمواطنين. قال، بعد أن ترحم على العم عباس، ومسح دمعتي إخلاص سالتا فوق وجنتيه الغليظتين:
ـــ كل ما سمعته يا ولدي من الروايات والأسباب لا أصل له!..
نظرت إلى دمعتيه شاكا في صدقهما. فقد كنت أسمع أن العاطفة في مجال المخابرات ضعف، وأن رجل المخابرات لا بد أن يتجرد منها إذا أراد النجاح في صنعته. ولكنني قلت مع ذلك:
ــ وما هي الرواية الصحيحة؟!..
أطرق الرجل طويلا، حتى ظننته لن يتكلم، ثم أدخل يده في جيبه وأخرج منديلا ورقيا معطرا ومسح به وجنتيه بهدوء كبير، ثم تأوه آهة الرجل الحزين، وتنفس عن قلب مكلوم. فأدركت أنه يريدني أن أعلم أنه كان شديد التعلق بالعم عباس. ثم قال:
ــ في ميداننا لا نقول بالروايات الصحيحة، وإنما نقول بالروايات النافعة!..
فكرت قليلا في الفرق بين الرواية الصحيحة والرواية النافعة، ثم خشيت إن طال تفكيري أن يمتنع الرجل عن الحديث، فتركت التفكير في ذلك، وقلت:
ــ إذن حدثني بالرواية النافعة!..
قال: ــ نعم. أحدثك بها كما حدثت بها قبلك العم عباسا!..هذه قضية كلفني بها أيام الوحدة مدير المخابرات نفسه. فقد رُفعت إليه تقارير تتحدث عن سعي مجموعة من ضباط الجنوب للتخطيط لانقلاب عسكري يتمكنون به من السلطة. ومن أجل هذه الغاية ألفوا خلية نائمة جعلوا على رأسها أحد كبار الضباط.
وبمجرد وصول هذه التقارير إلى الجهات المسؤولة تقرر تأليف لجنة للمتابعة، كنت أنا الذي اختار أفرادها بناء على شروط غاية في الدقة والإحكام والصرامة.
وكان الاحتمال الأكبر عندنا أن هذا الضابط ليس هو القائدَ الفعليَّ للخلية، وأن وضعه على رأسها إنما كان يقصد به التمويه. فنشرنا العيون في كل مكان، وتتبعنا تحركات عناصرها، ووضعنا عليهم الرَّصَد، وجمعنا عنهم المعلومات من كل طريق، حتى أمكننا أن نحصر شكوكنا في رجل من الجيش يقال له: فتح الباب. فبدأنا بمجرد الشك فيه بوضع خطة معقدة لمراقبته مراقبة شديدة، دون أن يشعر بهذه المراقبة أو يحس بها.
وبدأت التقارير تتوالى. وخلاصتها أنه رجل ربعة، أخضر العينين. وفي بعض التقارير أنه كان يضع عدسات لاصقة بهذا اللون، بينما لون عينيه في الأصل رمادي. أقنى الأنف، وفي بعض التقارير أنه أفطس، وفي التقارير الأكثر دقة عبارة: انظر الصورة..بينما لا توجد صورة في التقرير. وقد كتب بعض الموظفين تحت المكان المفترض للصورة:ــ يبدو أن الصورة ضاعت أثناء نقل الملفات إلى مقرنا الجديد. وتحت هذه العبارة بخط مغاير للخط الأول:ــ لا يوجد لنا مقر غير هذا المقر، ولم يسبق أن كان لنا مقر غيره.
ثم نجد في تقارير كتبها عملاء أكثر خبرة وتجربة وصفا لعادات الرجل وفيه: أنه كان يقوم باكرا على عادة العساكر، فيشرب قهوته، ويتجشأ مرة أو مرتين، ويمسح أنفه بمنديل كبير، ثم يقول بصوت خافت: ــ توكلنا على الله، وبعد ذلك يتوجه إلى عمله. وكتب من هو أشد ملاحظة: ـ إنه كان يغير منديله هذا كل يومين..فهو يستعمل منديلا باللون الأحمر يومي الاثنين والثلاثاء، ومنديلا باللون الأبيض يومي الأربعاء والخميس، ويكتفي بمسح أنفه في كم بذلته العسكرية سائر الأيام.
وذُكر عن انتماءاته السياسية أنه كان شيوعيا ثوريا يقرأ كثيرا في كتب لينين وستالين وابن تيمية وابن خلدون والماوردي والجبرتي الكبير وابن بابويه القمي؛ وأنه كان يحتفظ في مكتبه بنسخة من كتاب: إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس للأتليدي. وقد وضع علامة على قصيدة “صفير البلبل” الواردة في الكتاب.
وأنه في يوم كذا، بتاريخ كذا، على الساعة كذا، استطعنا أثناء مراقبته أن نضبطه في الشارع العام ينظر نظرة بلهاء ذات معنى إلى شخص مجهول لدينا، وأنه إثر تلك النظرة رأيناه يتجه بسرعة نحو محل للمشروبات الباردة، حيث طلب عصير برتقال شربه مرة واحدة، مع أن درجة الحرارة كانت لا تستدعي هذا الضرب من الشرب. فعلمنا أنها إشارة مشفرة؛ تركنا للقسم المختص عندنا في دائرة المخابرات أمر تحليلها.
وكان لا بد بعد هذه المعلومات الخطيرة أن نعتمد أسلوبا أذكى في المراقبة، وأكثر شمولا ودقة. فقمنا بالاستعانة بخبراء أجانب بناء على معاهدات سابقة. فبدأنا أولا باستعمال تقنية إلكترونية متطورة تسمى تقنية “البرغوث الذكي”، وذلك لسحب الأسرار التي يحتفظ بها في حاسوبه الشخصي. ولكننا اكتشفنا أخيرا أنه لا يملك حاسوبا، ولا يكاد يعرف ما هو الحاسوب. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى استعمال طريقة التجسس الفرويدي، حيث تقمص شخصيته أحد عملائنا، وبدأ في التفكير بدلا عنه، بعد أن حصلنا على معلومات كاملة عن شخصية “فتح الباب” ذكرنا بعضها في ما سبق..ولكن هذا العميل أصيب بالخرس، وانتهى به الأمر في قسم المعالجة من المس بالبيمارستان العام. وهو الآن يعالج تحت إشراف النطاسي “محجوب الأحذ”.
ثم جربنا طريقة التجسس عن طريق زرع أجهزة تنصت إلكترونية دقيقة وغير مرئية، اكتريناها من بعض أصدقائنا لهذه الغاية خاصة. ولكن “فتح الباب” لم يكن يتكلم إطلاقا، وكان يمضي أغلب وقته في مشاهدة التلفاز والأكل والنوم. وحاولنا معرفة ميوله السياسية والثقافية بمعرفة القنوات التي يدمن على مشاهدتها، غير أنه كان يكتفي بمشاهدة قنوات الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال. وكان مولعا بصفة خاصة بحلقات “فتى الغابة: ماوكلي”، حيث كنا نسمع صوت جلجلة قهقهته من خلال أجهزتنا الدقيقة.
ثم حاولنا مراقبة جهاز هاتفه المحمول بواسطة جهاز TX غير أنه كان يلزم لعمل هذا الجهاز أن يرد “فتح الباب” على اتصالنا الأول، حيث كان من المقرر أن نعتذر بأن الرقم خطأ، ليبدأ عمل جهازنا الدقيق. ولكنه كان لا يرد على الاتصالات، ويكتفي من الهاتف باستعماله أداة تصوير، وآلة حاسبة.
ثم جربنا أن نضع أمامه في كل مرة يخرج فيها من البيت أو يعود إليه فتاة جميلة، نختارها مرة شقراء، ومرة سمراء، ومرة بيضاء، ومرة طويلة رشيقة، ومرة رَبْعَةً ممكورة، ومرة ذات دلال وخفر، ومرة ذات تهتك وجرأة..وتفرغ خبراؤنا لدراسة ردود فعله من أجل معرفة إلى أي النساء يميل، وأيهن يحبذ، وأي شيء يعجبه فيهن..فاستنتجوا بعد الدراسة العميقة، والتحليل العلمي الرصين أنه أحد رجلين: فاجر ميال إلى كل نوع من النساء، أو زاهد فيهن جميعا.
وأخيرا بدا لنا أن أفضل شيء نصنعه حفاظا على وحدة دولة نفطستان وسلامة أراضيها هو أن نعود إلى استعمال أساليبنا الخاصة التي طورناها في دولة نفطستان المستقلة فسلمناه لمسرور السياف. وهو رجل تقي، محافظ على الصلوات، مرح، صاحب نكتة، مولع بالفل، والياسمين، والورد، والنارنج، والزهر، وشجر الزيتون، ومنه يصنع أنواع السياط التي يستخدمها في عمله.
والحقيقة إن مسرورا هو اسم الشهرة، تشبيها له بخادم الرشيد ـ رحمه الله تعالى ـ في جده، وصرامته، وحبه لعمله، وعدم موافقة معنى الاسم لحقيقة العمل الذي يقوم به. أما اسمه الحقيقي فهو محب الدين سلام.
وكان محب الدين لا يباشر عمله إلا على وضوء، بسبب أنه يبدأ استنطاق المتهمين على الساعة العاشرة صباحا. فكان يخشى أن تفوته صلاة الظهر جماعة إذا تأخر في الاستنطاق. فكان يأخذ بالحزم، فيتوضأ، حتى إذا أعجله وقت الصلاة كان على وضوء. وبعد أن يتوضأ يسأل الله تعالى المدد والعون والتيسير، ويجعل كرسي المتهم مقابلا للقبلة.
ويبدأ عمله بكفاءة عالية، وبقلب باحث عن الحقيقة المضمرة في قلب المتهم. فإذا طابق قلبُهُ قلبَ المتهم نطق عنه، فاستخرج كوامنه دون أن يحتاج المتهم إلى أن ينطق أو يتكلم.
وهو يزعم أنه إذا فعل ذلك أحس بروح مسرور تطوف به، وتباركه، ثم تسكن جسده، ثم تلهمه جلائل الأعمال. بل إنه قد يرى مسرورا في أحايين كثيرة على صورته التي كان عليها. فقد رآه مرة، وهو بين اليقظة والمنام، يلبس السواد شعار العباسيين، وعليه عمامة سوداء قد أرخاها بين كتفيه، وبيده سيف صقيل، وهو يبتسم له ويمسح على رأسه.ورآه مرة أخرى بلباس أهل فرغانة، وعلى كتفه هِراوة ضخمة، وهو يمسح على لحيته، ويشير إليه أن أقبل.
وقد ذكر لي في بعض لحظات الصفاء والود والمصارحة أنه يعرف متى تكون روح مسرور حاضرة أثناء الاستنطاق. فلما سألته كيف يعرف ذلك، قال: يصبح صوتي أجش غليظا مخيفا غير هذا الصوت اللطيف الذي أحدثك به الآن. فأعلم أن هذا الصوت ليس صوتي، وأن المتكلم غيري. فـأسلمَ له القياد، وأترك لروح مسرور أن تصنع بالمتهم ما لا يمكنني صنعه إذا تُرِكْتُ لنفسي بدون سند أو مدد.
وبالجملة فقد كنا نعتبر مسرورا مفخرة جهاز المخابرات عندنا، فقد كان لا يستعصي عليه أمر. فلما أسلمناه “فتحَ الباب”، وأوصيناه به خيرا، وعهدنا به إليه، طمأننا وسألنا الدعاء بالتوفيق، ثم مضى به.فما لبث غير قليل حتى جاءنا مستبشرا مبشرا. لقد تكلم “فتح الباب”.
ولم نسأله كيف تكلم “فتح الباب”، لأن المعلومات التي جاء بها “محب الدين” كانت أكبر وأخطر من أن نسأل معها عن أمور ثانوية من مثل كيفية استخلاص المعلومات من “فتح الباب” أو من غيره.
لقد كان “فتح الباب” مسؤولا مسؤولية مباشرة عما لا يقل عن سبع جرائم غامضة حدثت في السنوات العشر الأخيرة، أي منذ كان الرجل طالبا في المرحلة الثانوية حيث بدأ إجرامه بطرق بدائية يحرض بها زملاءه الطلبة على أساتذتهم الأفاضل إلى أن أصبح انقلابيا خطيرا متزعما لخلية نائمة اختار لها من الأسماء ثلاثة: “خلية تشي غيفارا”، و”خلية النصر الموعود”، و”خلية الفتح الرباني”.
والحقيقة إن معرفة هذه الأسماء كان عملا عجيبا وُفِّقَ إليه “محب الدين”، لأن “فتح الباب” ذكر في المرة الأولى لما ذاق الصعق بالكهرباء أن اسم الخلية هو “خلية تشي غيفارا”، وعندما ذاق الضرب بالسياط ذكر اسمها الثاني وهو خلية “النصر الموعود”، ولما وُضع رأسه في برميل الماء الملوث تذكر الاسم الثالث للخلية، وهو “خلية الفتح الرباني”.
ولا تناقض في ذلك، لأن تعدد الأسماء دال على شرف المسمى وخطورته، وفيه تمويه على من يستحيل أن يموه عليهم مخلوق، وهم عناصر جهاز المخابرات في دولة نفطستان المستقلة.
قال ضابط المخابرات وهو يحدثني: إنني أذكر لك هذه التفاصيل لكي تدرك قدر التعب الذي نتعبه من أجل سعادة المواطن وراحته. لقد كنا نسهر من أجل تحليل هذه المعطيات الدقيقة، بينما كنت أنت وسائر المواطنين في أمن وأمان تتمتعون برؤية قمر الصحراء، وأكل السُّـــوَيــْــــق، وشرب الألبان، والطعن في أخلص رجالٍ على وجه البسيطة، وهم رجالنا الذين يحترقون كالشمعة في كل وقت وحين لكي ينعم كل فرد منكم بالاستقرار والأمن والأمان والطمأنينة. قلت، وأنا أغالب تأثري بهذه الكلمات الدالة: وماذا صنعتم بعد ذلك بفتح الباب؟!
قال: قررنا إيهامه بأنه قد تبينت لنا براءته، وأرجعناه إلى كتيبته معززا مكرما، ثم راقبناه آناء الليل وأطراف النهار؛ بينما كان يراقب نفسه بنفسه سائر الأوقات، إلى أن حدث الذي حدث!..
قلت: وما الذي حدث؟!..
قال: يظهر أنه أحس بمراقبتنا، فقرر أن يتسبب في حرب يكون له فيها وبعدها شأن آخر، ووضع مختلف. فجمع إليه أنصاره وقام بنفسه برمي أول قذيفة مدفع رُمِيَ بها في حرب الانفصال.
(يتبع)