الغارة على بلاد نفطستان (الفصل الخامس)
الخميس 24 مارس 2016 – 11:10:50
الفصل الخامس
كان يمكن أن تكون رواية ضابط المخابرات صديق عم والدي “عباس الأكحل” آخر الروايات التي جمعتها عن “فتح الباب” وأسباب حرب الانفصال لولا أنه وقع هذه الأيام شيء غريب، فقد دق بابي فجر يوم الجمعة الماضي رجلٌ أشعث، أغبر، طويل القامة، يلبس لباسا عسكريا. فلما فتحت الباب رفعت رأسي إليه دون أن أنبس ببنت شفة، وأنا أتعوذ بصوت هامس، جامع بين الخوف والدهشة، بالله عز وجل من طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير. ويبدو أن دعائي كان مستجابا. فقد سلم الرجل بسرعة، ثم قال: علمتُ أنك تجمع أخبار “فتح الباب”. فلما سمعت هذه العبارة توجست خيفة، وقلت على سبيل الاحتراس: ومن هو “فتح الباب” هذا؟!..قال الرجل: هو صديقي، وقد ترك عندي مذكراته قبل أن يختفي بطريقة غامضة عندما بدأت حرب الانفصال. حاولت أن أنظر في عينيه لكي أَخْبُرَ باطنه، ولكنه كان طويلا، وفوق ذلك كان كثير التلفت، فلم يمكني معرفة حقيقته، غير أنني خشيت أن تفوتني هذه الفرصة فغلب فضولي حذري وتوجسي..فقلت: وهل يمكنني الاطلاع عليها؟!..
أدخل الرجل يده في حقيبة جلدية كان يحملها وأخرج أوراقا قليلة، ونظر يمنة ويسرة، ثم ناولنيها وعاد أدراجه بسرعة كأنه خائف يتوجس، أو أنه يريد أن يوهمني أن المسألة على درجة بالغة من الخطورة. أغلقت الباب بإحكام، وتوجهت نحو مكتبي وأنا أسائل نفسي هل تكون هذه الأوراق من مذكرات الرجل فعلا؟!..ثم أوقدت المصباح ووضعت الورق تحت ضوئه، وأنا أتعجب من خطٍّ يدل على رقة صاحبه وضعفه. لقد كان أشبه بخط الشعراء منه بخط العساكر والجنود. ومع الشك في نسبة هذه الأوراق لصاحبها فإن الأمانة تقتضي أن أذكر لكم ما فيها، أو قل أن أنقل لكم ما فيها، فإن ما تركته مما ورد في هذه الأوراق ليس بشيء ذي بال، وإنما هي أمور خاصة بصاحبها لا تتعلق بأسباب حرب الانفصال. جاء في هذه الأوراق:
أنا الضابط المختفي عن نفسي بالناس “فتح الباب النفطستاني” أكتب هذه المذكرات بعد أن دُوِّنَ في كتب التواريخ، والمؤلفات المدرسية، والجرائد السيارة، أني السبب في هذه الحرب..وبعد أن حُمِّلْتُ دماء الفريقين..وبعد أن أصبح لا يشك أحد قُدِّرَ له أن يعيش على أرض هذه الدولة، إذا سمع عن خصومة بين اثنين أني ثالثهما، ومحرض أحدهما أو كليهما..فأصبح من آكد الأمور أن أحدثكم عن نفسي، وأروي لكم حقيقة أمري..فقد استفحل الأمر جدا إلى حد أن أحد اللغويين كتب رسالة رسمية إلى وزارة الداخلية يقترح فيها تعديل اسمي من: فتح الباب إلى: فتح باب الشر، حيث زعم أن (ال) في اسمي عهدية دالة على المعنى الذي ذكره. لقد ولدت أيها السادة عام الجراد، في ليلة ريح عاصف، وبرد شديد، فلزمني البرد بعد ذلك، إذ كنت لا أجد لحافا إذا نمت، ولا ثيابا إذا استيقظت، وكنت أعجب ممن يغير لباسه كل يومين أو ثلاثة أيام، دون سبب ظاهر، غير التنعم والترفه، فهي جديدة غير قديمة، ونظيفة غير متسخة، فلماذا يغيرها؟..وكان صوت الريح في أذني لا يكاد يفارقني، لذلك عندما التحقت بالعسكر عجب الضباط الذين دربوني من عدم مبالاتي بأصوات المدافع، وقلة انزعاجي منها، فحملوا ذلك على محمل الشجاعة والجرأة، ونفعني ذلك عندهم. لقد أمضيت طفولتي أحلم بمهنة لا أضطر فيها إلى شراء ثياب مختلفة، ألبس كل يوم نوعا منها، فقد كنت لا أحسن تمييز أنواع الثياب، ولا أعبأ بتغييرها، وأرى إنفاق المال في مثل هذه الأمور تبذيرا. وقد سألت عن مهنة تناسب ميلي هذا فقيل لي: إن الجندية من المهن القليلة التي يسعد فيها أصحابها بارتداء بذلة واحدة دون أن ينتقدهم الناس. فتوكلت على الله واخترت الجندية.
ولأنني كنت أكره الخصومات، وأمقت السياسة والسياسيين، وأميل إلى قول الشعر، وإلى الانزواء عن الناس، فقد عرفت الضعف من نفسي صغيرا، ووجدت أن بذلة العسكري تخفي هذا الضعف، وتظهرني في صورة مشروع بطل أو شهيد، فزاد ميلي إلى هذه المهنة. ثم قيل لي: إنها المهنة الوحيدة التي يمكنك أن تقتل فيها الناس دون متابعة قانونية، بل إن إسرافك في القتل سبب في الترقيات والأوسمة وسماع المدائح وراحة الضمير. ولأنني نشأت على مراعاة الضمير، وفضائل الأخلاق، وطلب المعالي، فقد هيأت ملفا إداريا سلمته لإدارة المدرسة العليا للعساكر راجيا أن أقبل ضمن طلبتها من أجل خدمة الوطن، والدفاع عن حوزته. وكان علي لكي أقبل في المدرسة أن أجري جملة اختبارات في مجموعة من المواد، أذكر منها اليوم السؤال الذي أجبت عنه في مادة “علم العداوة”، فقد كان السؤال هو: ما هو الشعر الذي قاله آدم بعد أن قتل قابيل هابيل؟.
لقد كان سروري بهذا السؤال كبيرا لأنهم سألوني فيما أتقنه وأميل إليه، وهو الشعر. فكتبت على ورقة الامتحان بخط اجتهدت أن يكون واضحا جميلا: هو قوله:” تغيرتِ البلادُ ومنْ عليهـا فوجهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قبيحُ” ثم لم أكتف بذلك فزدت الأمر بحثا، ليعلموا مقدار ما عندي من العلم، فذكرتُ أن إبليس، لعنه الله تعالى، أجاب آدم عليه السلام بقوله:
تَـنـَحَّ عن الـجِـنَـــــانِ وساكِـنِـيـهــــــا ففي الفردوس ضاقَ بكَ الفَسِيحُ وكنت قد نسيت بقية الأبيات، غير أني نظرتُ إلى ورقة الامتحان بسرورٍ بالغٍ، ورضيتُ عن نفسي كل الرضا، وأيقنت بالنجاح.. رحمك الله تعالى يا أبا البشرية، وأولَ نبي على وجه الأرض. لقد كان في ألمك نجاحي، وفي فقدك لأحد أبنائك تفوقي، وفي ارتكاب ابنك قابيل لأول جريمة على وجه البسيطة سروري، وفي آثار نزولك من الجنة إلى الأرض ارتقائي من طفل فقير إلى ضابط في الجيش..رحمك الله يا أبانا، وجعل هذا في ميزان حسناتك..لقد أصبح فتح الباب عسكريا..
وقد سئلتُ في مادة “سرعة البديهة” بعد أن أحسنتُ الجوابَ عن السؤال الأول، عن لون الغراب !. لقد كانوا يقصدون الغراب الذي جاء يبحث في الأرض ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل..وكان علي أن أعرف هذا بسرعة، بحيث أتفطن إلى أنهم لا يقصدون مطلق جنس الغراب..ولم يكن سبق لي أن رأيت غرابا قط، ولكنني تذكرت قول النابغة: زعم البوارح أن رحلتنا غدا وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ فقلت، دون تردد: هو السواد!..لقد اسود ريشه حزنا على ما فعله قابيل!… كانت أجوبتي في غاية الدقة، حيث أثارت إعجابهم، فأمروا فوراً بأن أتوجه إلى امتحان اللياقة البدنية الذي كان يجريه النطاسي “محجوب الأحذ”..
كان محجوب في ذلك اليوم غير آبه بشيء، فنظر إلي نظرة عجلى، وأمرني بإخراج لساني، حيث نظر فيه سريعا، ثم نظر في عيني، وفحص نبضي، وسألني هل أعاني من أعراض مرض من الأمراض؟!..فتذكرتُ صوت الريح في أذني، ولكني خشيتُ إن ذكرتُ له ذلك أن لا أُقْبَلَ في الجيش، فزعمتُ له أنه لم يسبق لي أن مرضتُ قطُّ، ولو قلت له: إنه لم يسبق لي أن كنت صحيح البدن قطُّ لصدقتُ، ولكن كذبي جعل مني جنديا..
وبقي لي إجراء امتحان “الأصالة والتقاليد والعراقة”، وقد كان السؤال طويلا جدا، وكان يحتاج إلى جوابٍ قصيرٍ جدا. فقد كان السؤال هو: تحتفظ الدول العريقة بلقب يحمله كل حاكم يعتلي سدة الحكم فيها. فحاكم فارس يسمى كسرى، وحاكم الترك يسمى خاقان، وحاكم الروم يسمى هرقل، وحاكم الشام يسمى قيصر، وحاكم اليمن يسمى تُبَّع، وحاكم مصر يسمى فرعون، وحاكم الحبشة يسمى النجاشي، وحاكم فرغانة يسمى الإخشيد..فماذا يسمى حاكم دولة نفطستان؟!..
وكان الجواب هو: يطلق عندنا على كل حاكم يحكم دولة نفطستان لقب شيركويه.. وفي الواقع لقد أحسن كل المترشحين الجواب عن هذا السؤال، فقد كان هذا مما يدرس في مدارسنا كلها، ومما يتم الاحتفاء به، ويعتبر عندنا من أكبر الأدلة على عراقة دولة نفطستان وأصالتها..
وبذلك تمت إجراءات التحاقي بالمدرسة العليا للعساكر، ووجدتُني مضطرا لأن أغير أحلامي القديمة بأن أكون شاعرا إلى أحلامي الجديدة في أن أكون صاحب بذلة عسكرية… توجهت إلى بيتي، ودخلتُ غرفتي دون أن أكلم أحداً، ونظرتُ طويلاً إلى صورة حاكمنا “شيركويه” وهو يسلم جائزة الأدب لهذه السنة لأحد الشعراء الذين لا أعرفهم، وتخيلتُ نفسي في مكانه، حيث يُسمع في القاعة صدى عبارة طالما حلمت بسماعها: فاز بجائزة “الأسعد بن مَمَّاتي” للأدب لهذه السنة الشاعر “فتح الباب”.
لقد كانت هذه الجائزة عندي أنفسَ من جائزة نوبل للآداب وأهم..والآن أمزق هذه الصورة، وأَدْفِنُ هذا الحلم إلى الأبد، وأشرع في بناء أحلام جديدة.. كانت خلاصة أحلامي الجديدةِ أن أصبح ضابطا في بلاد لا حرب فيها، حيث يمكنني أن أستمد من بذلتي العسكريةِ القوة اللازمة لكي أخفي ميلي إلى السلام. بينما كان حلم أصدقائي من العسكريين أن يجربوا خططهم العسكرية بدماء أقلِّ عددٍ من الجنود. كان الجندي عندهم رقما. وكانوا يقولون: لو طبقنا هذه الخطة، كم ستكون خسائرنا؟. فيجيب معلمنا بفخر: ستكون خسائرنا قليلة، في حدود العشرين في المائة. وكنت أضحك من هذا الرقم استخفافا حينا، وإعجابا حينا آخر، لأظهر لهم صدق جنديتي، وعزمي الذي لا شك فيه على الفتك والقتل، بينما يتحرك الشاعر داخلي، فيبرز لي هؤلاء الجنود أرواحا مفقودة، وعائلات مكلومة، وأحلاما محطمة، ودموعَ أطفالٍ، ويتامى، وأمهات، وآباء، وعويلا لا ينقطع، أسمعه فيزداد صوت الريح في أذني حدة. ويكاد يفضحني ضعفي، فأرى أصدقائي الضاحكين وقد أصبحوا أشلاء ممزقة، وهياكل عظمية مبعثرة، وروائح نتنة، وجثثا متفحمة، وأسمع هاتفا يقول: كن يا ابن آدم المقتول، ولا تكن القاتل!…
نظر إلي أحد أصدقائي ثم قال: برودك مخيف !.. قلت كاذبـا : أنا أبرد من هذا السلاح الذي أحمله. لقد كانت جدتي منذ كنت صبيا تقول: “فتح الباب” وُلد لكي يكون جنديّاً..سكتُّ قليلاً كالمتذكر ثم تابعت أقول: رحمكِ الله أيتها الروح الطاهرة، روح أبي..أتذكر عندما كنت في نحو العاشرة من عمري أني كنت أصحب الوالد رحمه الله تعالى في رحلاته لصيد الخنزير البري، وكان إذا استصعب الكبارُ قتلَ خنزير لا يكاد يُرى لبعد المسافة، واختبائه بين الأشجار، والأعشاب الكثيفة، سلمني والدي البندقية ثم قال: عليك به يا فتح الباب..لا توجد في البندقية إلا طلقة واحدة..فكنت أحرك رأسي واثقا من نفسي، ثم آخذ البندقية من أبي، وأطلق الرصاصة الوحيدة التي فيها، فَيُرَى الخنزير متدحرجا، وتنطلق الكلاب نحوه، ونحن نتبعها لنجد الرصاصة في رأس الخنزير..أستغفر الله. لمزيد من الدقة أقول، لقد وقع مرة أن أصبته في عنقه..ولكني لم أكرر هذا الخطأ بعد ذلك بعد أن رأيت عدم الرضا في وجه أبي..
نظر إلي صاحبي بإعجاب وهو يقول: لقد فهمت !.. كنت أريدُ أن أحدّثه بقصة أخرى غير قصة “الخنزير البري” غير أني خشيت أن أُغْرِبَ فتضيعَ نظرة الإعجاب التي رأيتها في عينيه..لقد كررتُ هذه القصة، بعد ذلك، على سمع غيره من الأصدقاء حتى أصبحت مشهورة معلومة لا يشك فيها أحد..ولم أكن قبل اختراع تلك القصة قد سبق لي أن رأيت خنزيرا بريا، غير أن شهرتها دفعتني إلى الحرص على رؤية الخنزير البري، وقد قُدِّرَ لي أن أراهُ بعد ذلك بسنوات عندما أَوَيــْتُ إلى الجبل الشرقي، كما سيأتي بيانه.
ـــــــــ
(1) الأسعد بن مماتي (توفي بحلب سنة : 606هـ). وهو صاحب الكتاب المشهور / الفاشوش في أحكام قراقوش ،وصاحب كتاب الشيء بالشيء يذكر، وقرقرة الجاج في شهر ابن حجاج