فهل من مُدَّكِر !
أعلم أن المغرب الرّسمي، لا يريد أن “يفسد للوُد قضية” مع الجارة الشمالية، ولكن ما المانع في أن يُسَجّل المغرب “الشعبي” على مستوى مؤسساته الشعبية ومنظماته الأهلية، ومنابره الإعلامية إدانته للاحتلال و إصراره على استرجاع ما سُلب من أراضيه وجزره ،تماما كما يفعل الاسبان والبرتغاليون كل سنة، حين ينظمون “معارك” “يستنسخون” بها انتصاراتهم في الأندلس والبرتغال، على “المورو المالو”، وطردهم للمسلمين من شِبه الجزيرة الإيبيرية.
سنتان وستة قرون مَرّت، هذا العام، على احتلال البرتغال لمدينة سبتة المغربية، في إطار الغزو الصليبي للمغرب، تنفيذا لوصية الملكة الكاثوليكية إيزابيل، ولإرادة البابا في تنصير أهل المغرب، حتى لا يعاودوا “غزوهم” للأندلس. وكان دخول المسلمين إلى سبتة سنة 709 ودخلها يوسف بن تاشفين سنة 1084 وضمها الموحدون إلى مملكتهم سنة 1147، وظلت مغربية مسلمة إلى أن سقطت تحت الاحتلال البرتغالي.
لقد فتحَ سُقوط الحكم الاسلامي في الأندلس، باستسلام آخر ملوك غرناطة، سنة 1492، صفحة جديدة من الحروب الصليبية على المسلمين حيث أطلق البابا يد الأسبان والبرتغاليين لاحتلال الشواطئ المتوسطية والأطلسية للمغرب العدو اللدود الذي مدد الوجود الإسلامي بالأندلس لما يزيد عن أربعة قرون، بل وضم الأندلس بكاملها إلى مملكته على عهد المرينيين بعد معركة الزلاقة العظيمة.
والحال أن البرتغاليين أغاروا على مينة سبتة، واحتلوها بقوة يوم 21 غشت 1415، في إطار مخطط شامل لاحتلال المغرب بأكمله، قادهم من سبتة إلى أقصى الجنوب المغربي، كما تدل عليهم آثارهم العمرانية، من قلاع وحصون ومواقع.
ولم تكن سبتة “طيرّا نولوس” أي أرضا خلاء، كما يدعي الاسبان، بل كانت مدينة مغربية تشهد ما يشهده باقي المدن، من تأرجح بين السلطة المركزية وتجاذب داخل مطامع داخلية وخارجية، وطائفية، نسبة إلى ملوك الطوائف. بل كانت حاضرة علم وفكر وأدب، قال في شأنها حسن الوزان،… …وكان فيها كثير من الجوامع والمدارس والعديد من الصناع ورجال الأدب والفكر” . ولقد أنجبت مدينة سبتة العديد من كبار العلماء والمشايخ، وعلى رأسهم القاضي عياض والشريف الإدريسي، وهو العالم الجغرافي الذي أخذت عنه أوروبا “الجاهلة”، علم الجغرافيا حيث إنه وضع أول خارطة للعالم، أقرب ما تكون إلى الواقع. بتشجيع من ملك صقلية ، “روجر الثاني” الذي دعمه في رحلاته عبر العديد من أمصار العالم، حيث دون مشاهداته في كتاب ألفه سنة 1154 “نزهة المشتاق في احتراق الآفاق” وأهداه لصديقه ملك صقلية.
كما كانت سبتة قلعة عسكرية محصنة، ومعبرا لجيوش المغرب إلى بر النصارى خلال عهود السعديين والمرابطين والموحدين والمرينيين إلى أن سقطت المدينة ، يوم 21 غشت 1415 أيام أبي سعد المريني والملك البرتغالي “جواو الأول” بسبع وسبعين سنة قبل سقوط حكم بني الأحمر في غرناطة، واستسلام عبد الله الصغير لفرناندو ملك اسبانيا، ونهاية الوجود الإسلامي بالأندلس.!
وعلى إثر الغزو البرتغالي لسبتة، تعرض سكان المدينة لمذبحة رهيبة على يد الصليبيين الغزاة بعد مقاومة شرسة من أهل المدينة والقبائل المجاورة، وفر العديدون منهم إلى المناطق المجاورة، بعد أن تأخرت الإمدادات لنصرتهم، وقد نظمت في “نكبة” أهل سبتة، قصائد عديدة، تصف فزع السبتاويين من هول الغزو وعنفه وهمجيته، من قتل وسلب ونهب ما يترجم حقد الصليبيين الدفين على المغاربة المسلمين.
ورغم المحاولات العديدة للمغرب ، فقد استعصى استرجاع المدينة المحصنة بصورة جيدة، على الجيوش المغاربة، التي ضربت فوق المائة حصار على المدينة، كان أبرزها حصار السلطان اسماعيل العلوي، الأول لخمس سنوات والثاني لأربع وثلاثين سنة.
وشكلت معركة وادي المخازن، (4 غشت 1578) ضربة قوية لقوى الصليبية بزعامة البرتغال، الذي شجعه احتلاله لسبتة وطنجة والقصر الصغير والجديدة، على المغامرة بجنوده في محاولة احتلال المغرب بكامله، فكانت معركة قاضية، ضاع خلالها ملك البرتغال وسيادة هذا البلد الذي احتله ملك اسبانيا وخال ملك البرتغال دوم سيباستيان الذي هلك غرقا بواد المخازن حين حاول الفرار، وضم فيليب الثاني أراضي البرتغال وممتلكاته إلى عرشه، ومع ذلك ظلت سبتة برتغالية إداريا وعسكريا.
وقد سجل المؤرخون أن الملك السعدي، بعد انتصاره على جيوش البرتغال المدعمة من البابا ومن عدد من الدول الأوروبية، فوت على المغرب فرصة تحرير سبتة ومليلية ، لانصرافه إلى حياة البذخ والترف وبناء القصور والبحث عن الذهب الإفريقي….على أن الدولة السعدية، كان لها الفضل في عودة الهيبة إلى المغرب عبر توحيد البلاد، وتحرير الثغور وتطوير الجهاد بإنشاء جيش نظامي، وتقوية الأسطول البحري ونهج سياسة خارجية متوازنة مبنية على المسالمة.
كيف وصل الإسبان إلى سبتة ؟
لم يكن ذلك عن طريق الاحتلال المباشر أو الحرب ضد المغرب.
ففي سنة 1640 أعلن البرتغال استقلاله عن اسبانيا وعن التاج الاسباني بعد ستين عاما من السيطرة الاسبانية، واعتلى عرش البرتغال جواو الرابع. وتدخل ملك الإنجليز الذي يرتبط عائليا بملك البرتغال من أجل محاولة إبرام صلح بين اسبانيا والبرتغال.
وفي 13 فبراير سنة 1668، تم إبرام الصلح بين البلدين على أساس أن تعترف إسبانيا باستقلال البرتغال، ومقابل ذلك، تتنازل البرتغال عن مدينة سبتة، للتاج الاسباني. بمعنى أن وجود اسبانيا بهذه المدينة لا يدخل في نطاق العلاقات بين المغرب وإسبانيا، بل يرتبط بمعادلات سياسية بين دولتين أجنبيتين عن سبتة وعن المغرب كليا.
وكان طبيعيا، بمنطق الاستعمار، أن يعمد المحتل الاسباني إلى محاولة تغيير ملامح مدينة سبتة[ بطمس معالمها الوطنية والاسلامية، ومحاولة “أسبنة” سكانها المغاربة عن طريق التنصير والتثقيف، ولكن محاولته باءت بالفشل إلى حد كبير، لأن السبتاويين المغاربة متشبثون بهويتهم المغربية الإسلامية، بالرغم من إغراءات المحتل الأسباني على مستوى الخدمات الاجتماعية.
حقيقة إن المغرب لا يسخر إمكاناته السياسية والدبلوماسية وعلاقاته الدولية ، بما فيه الكفاية، للضغط في اتجاه استرجاع سبتة ومدينة مليلية التي تم احتلالها يوم 19 يوليوز 1497، أي خمس سنوات فقط، بعد طرد المسلمين من الأندلس (1492) ،مكتفيا بانتظار حل مسألة جبل طارق الذي يعتقد أنها تشكل الطريق لاسترجاع مدينتيه المحتلتين من اسبانيا وكذا الجزر المتوسطية. ولكن اسبانيا أكدت أكثر من مرة وفي أكثر من محفل دولي، أن المسألتين متخلفتين ولا تشكل عنصري معادلة سياسية مقبولة، في حين أن ملك اسبانيا فيليب السادس “تجرأ” بإثارة مسألة الاحتلال البريطاني لجبل طارق من داخل البرلمان البريطاني خلال زيارته الرسمية الأخيرة (يوليوز 2017) لهذا البلد واستقباله من طرف الملكة إيليزابيط الثانية.
ومعلوم أن إسبانيا التي تطالب بريطانيا بحل مسألة جبل طارق عن طريق الحوار، رفضت، بحدة، الرد على مقترح الراحل الحسن الثاني بخصوص تكوين خلية مشتركة للتفكير بشأن مستقبل سبتة ومليلية ،هذا المقترح الذي ركز، بالأساس على ضرورة حماية مصالح سكان المدينتين.
ومما زاد مي إحباطنا أن المسؤولين المغاربة يتحاشون إثارة مسألة الاحتلال الإسباني للمدينتين وللجزر المرتبطة بهما، خلال لقاءاتهم الرسمية المتكررة مع زملائهم الإسبان، خاصة خلال انعقاد اللجنة المشتركة العليا ، بل يكتفون بالتهليل لجودة العلاقات المغربية الإسبانية ، بل إن المغرب سخر إمكانياته الأمنية لحماية سبتة من “غزو” المهاجرين الأفارقة الغير نظاميين ويتعامل بالكثير من “التعاطف” مع السلطات الأمنية بمعبر باب سبتة، حتى في حال قيام أمن “الحدود، بالاعتداء الجسدي على المواطنين المغاربة و”تمزيق” جوازات سفرهم والرمي بها في وجوههم. بل إنه تمت متابعة بعض الناشطين السبتاويين بتهم التظاهر بغير ترخيص حين نظموا وقفات احتجاجية سلمية، من أجل المطالبة تحرير سبتة.
في حين أن مواقع القرار في الحكومة الاسبانية، مدعومة من الاعلام الاسباني ، تركز على مسألة الوجود الاستعماري البريطاني بصخرة جبل طارق، وتعتبر أن معاهدة “أولتريخت” التي تنازلت بمقتضاها عن جبل طارق لإنجلترا، سنة 1713، انتزعت منها بالقوة وفي لحظة ضعف ( ! )……
وقد رد على هذه الأطروحة الغريبة المؤرخ المغربي الكبير، الراحل محمد عزوز حكيم التطواني ، بأن الاحتلال العسكري لأرض الغير لم يَكُنْ في يوم من الأيام حُجَّة تخول حقَّ الاحتفاظ بما تم احتلاله، وإذا فرضنا جدلاً أن الاحتلال بالقوة حجة، فلماذا لم تعترفْ إسبانيا بمشروعيَّة تلك الحجةِ عندما يتعلَّق الأمر بجبل طارق[4] المحتل بدوره بالقوة من إنجلترا منذ 1704م؟!
وبخصوص الادعاء بأن اسبانيا موجودة بمدينة سبتة قبل وجود الدولة المغربية، كدولة ذات سيادة، فقد ردَّ عليه الحكيم عزوز بأنه قول فيه افتراء على التاريخ، الذي يشهد أن المغرب دولة ذات سيادة وسلطان منذ أن أسَّس المولى إدريس الأول دولتَه سنة788م، أي قبل أن تُصبح إسبانيا دولةً معترفًا بها بين الدول، بأكثر من سبعمائة سنة، بدليل أنها لم تصبح دولة قائمة الذات إلا في سنة 1492م ، إذ كانت خاضعة لنفوذ دولة المرابطين والموحِّدين والمرينيين”.
ومعلوم أن وسائل الإعلام الاسبانية، وبإيعاز من القيادة العسكرية الاسبانية، التي وضعت تحت تصرفها وثائق عسكرية لا تزال سرية، تعمدت في الأيام الأخيرة ، التذكير ب “معركة جزيرة ليلي” (17 يوليوز 2002) ضد المغرب ــ الذي قال استطلاع أخير للرأي إنه العدو الأول لإسبانيا ــ وكيف نجح الجيش الاسباني الذي سخر سربا من المروحيات وثلاث غواصات وفيلقا من الجنود المدججين بالسلاح من الفرقة 31 الخاصة، لمواجهة سبعة من رجال القوات المساعدة الذين “ركبوا” الصخرة الخالية والملتصقة بالساحل المغربي، في إطار مهمة مراقبة الهجرة السرية، وكيف أن الجنود الأسبان “البواسل” نجحوا في “اعتقال” “الجنود” المغاربة و “إهانتهم” و نقلهم إلى مدينة سبتة “الاسبانية” ليتم “تسليمهم” ، “لطفا وكرما” إلى السلطات المغربية مع ما صاحب الكتابات الصحافية من إشادة بالحنكة السياسية لرئيس الحكومة الاسبانية اليميني آنذاك، المغرور أثنار، ووزيرة خارجيته بلاسيوس، و من شماتة بالجنود المغاربة ونكاية بالمغرب الذي “تجرأ” ــ كما ورد في بعد التعاليق الصحافية ــ، على رسم حدود مياهه البحرية الإٌقليمية على الساحل الأطلسي، و “عقابا” له على ” تراخيه ” في “حماية” حدود سبتة ضد “هجومات” الأفارقة، المنطلقين من ترابه لـ “اختراق” الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي !!! .
6 قرون وعامان على احتلال سبتة 1415
520 عاما على احتلال مليلية 1497
فهل من مذّكر !!!…..