من أعلام مدينة طنجة
جريدة الشمال -عبداللطيف السملالي (أحمد بن العلامة العربي السطيطو )
الثلاثــاء 05 شتنبر 2017 – 11:07:59
• هو الفقيه المدرر البركة الخطيب المرشد أحمد بن العلامة المفتي المجاهد العربي بن العياشي بن أحمد بن الطيب السطيطو الطنجي. أصل أسلافه من مدشر تجالة المنتمي إلى قبيلة ودراس، وبه كان مستقر والده الذي يعتبر أحد كبار الفقهاء المفتين في ربوع المنطقة الجبلية، وكانت له صولات وجولات في مواجهات الاحتلال الإسباني أثناء بسط نفوذه في منطقة الشمال، وقد تولى بنفسه قيادة المجاهدين والإشراف على مقاومة المحتل في رباط الدشريين القريب من مدينة تطوان. ولما انكسرت شوكة المقاومة المسلحة لجأ إلى طنجة مشتغلا بالتدرير والتدريس والإفتاء…
وقد تسنى له في مطلع شبابه الانتقال إلى مدشر سيدي احساين بفحص طنجة حيث مدرسة القراءات السبع الشهيرة بظهر ازهيرو، وهناك تلقى علم القراءات وبعض علوم العربية، وختم هناك دروسا في الفقه والتوحيد وغيرهما من العلوم.
ومن أبرز العلماء الذين أخذ عنهم ونال مبتغاه من معارفهم، واستفاد من مجالسهم الخاصة والعامة:
الفقيه سي عبدالسلام البراق.
والعلامة سيدي عبدالحفيظ بن عبدالصمد كنون الذي لازمه طويلا في الدروس التي كان يعقدها في جامع المقراع، وقد ختم بين يديه دروس الفقه بمتن ابن عاشر، ودروس النحو بمتن ألفية ابن مالك، كما كان دائم الاتصال به ملازما لجميع حلقات دروسه، مستفيدا من إرشاداته وتوجيهاته له.
ولا شك أنه حضر دروس غيرهما من علماء بادية منطقة شمال وارتوى من معين معارفهم، واستفاد أيضا مما كان يبث في مجالس الدرس في مساجد وزوايا مدينة طنجة التي كان يتصدرها نخبة من العلماء الأجلاء والفقهاء النبهاء، أمثال: الفقيه الحاج عبدالله بن عبدالصادق، والعلامة أحمد بن عبدالسلام السميحي، والعلامة محمد بن العياشي سكيرج، والعلامة أحمد أبارغ، والعلامة محمد بن عمرو السكدلي..
وعلى عادة كثير من طلبة العلم رغب في شد الرحلة إلى مدينة فاس الفيحاء، فأعدَّ لها العدة وجمع ما يلزم لحضور مجالس علماء القرويين، وحرص كل الحرص على الإفادة من كل ما يلقى بين يديه من العلوم، وتزود خلال رحلة الطلب هذه بمعارف مختلفة، وتبرك بمجالسة أهل العلم والفضل بتلك الحاضرة العلمية.
وبعد أوبته من فاس ندبه سكان جامع مقراع السفلى ليكون إمام مسجد حيّهم، وذلك لما توسموا فيه من صلاح سريرته واستقامة أحواله ونبل خصاله، ورضوا أيضا أن يكون هو معلم القرآن لأبنائهم، فحمدت سيرته في هذا الجانب، وأثنى الجميع على طيبوبته ، نال رحمة الله عليه سمعة طيبة وتقديرا كبيرا من أهل الحي ومن جميع من تعرف عليه عن قرب. كما نهض رحمه الله خلال عقود طويلة من الزمن بالخطابة والوعظ والإرشاد بالمسجد نفسه، خلفا لشيخه العلامة سيدي عبدالحفيظ بن عبدالصمد كنون الذي انتقل إلى الخطابة بالمسجد الأعظم سنة 1943م.
كانت للفقيه أحمد بن العربي السطيطو رحمة الله عليه مواقف وطنية مشـرفة في الفترة الدولية، وإبان نفي سلطان البلاد الشـرعي محمد بن يوسف، وتنصيب بدله محمد بن عرفة من قبل الحماية الفرنسية في غشت 1953م، امتنع عن صعود منبر الجمعة واعتزل في بيته، ورفض الدعاء للسلطان غير الشـرعي المفروض بقوة الحديد والنار على عامة المغاربة الذين كانوا يؤمنون أشد الإيمان أن بيعة السلطان الأول لازمة لهم والوفاء بها واجبة. ولما استعاد المغرب استقلاله وأشرقت شمس الحرية على البلاد وعاد سلطان البلاد الشـرعي إلى عرشه، استأنف المترجم له نشاطه الدعوى وواصل إلقاء خطبه الجمعية إلى أن أقعده المرض في بيته.
ولما كان ملك البلاد محمد الخامس وولي عهده آنذاك يزوران بين الفينة والأخرى مدينة طنجة بعيد الاستقلال للاستجمام والراحة حيث كانت له بها إقامته الملكية في الجبل الكبير، و لم تكن تبعد عن جامع المقراع السفلى إلا بمسافة قصيرة، فكان يحلو للسلطان محمد الخامس أن يحضر إلى هذا المسجد للصلاة خلف المترجم له، وقد سجل أحد أبناء هذا الحي، وهو الأستاذ المحامي أحمد بن الخياط السحتة في ذكرياته: (الجبل الكبير) قدوم عاهل البلاد إلى المسجد المذكور، وأفصح ما دار بينه وبين الإمام الراتب (المترجم له) قائلا:
»وكثيرا ما كان الملك محمد الخامس يصلي العشاء في جامع المقراع، [يقدم إليه] مشيا على الأقدام مع مرافقيه من هذه الإقامة إلى المسجد، ومرة وكنت من الحاضرين، ولما دخل وقت إقامة الصلاة عرض الإمام الفقيه أحمد السطيطو على الملك محمد الخامس بأن يتولى الإمامة. وأجابه جلالته بأنه هو الإمام، ثم رد عليه الفقيه، بأن لا إمامة مع وجود الإمام الأعظم…ولكنه أصر على أن يتولى الفقيه الإمامة» .
وبعد إنشاء رابطة علماء المغرب وانضواء جموع العلماء فيها، سارع المترجم له إلى الانخراط في هذه الهيأة العلمية وأصبح عضوا عاملا في فرعها بمدينة طنجة، وكانت تجمعه برئيسها العلامة سيدي عبدالله كنون وإخوانه العلماء علاقة مودة وتقدير خاصة، وظل المترجم رحمة الله عليه يكن احتراما وتبجيلا لكافة أعلام هذه الأسرة العلمية الشريفة.
وحظي رحمة الله عليه بتقدير من الجهات الرسمية العليا ، فقد أنعم عليه جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في 3 مارس 1991م، بوسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة، تقديرا وتنويها بأعماله وتفانيه في مهامه الدعوية ونهوضه بالإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد على أحسن وجه
و في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، اعتلت صحته وفقد بصره، ومع ذلك لم يثنيه ذلك عن الحضور إلى المسجد، واكتفي بإمامة الناس في الصلوات الخمس وبقي على تلك الحالة الى سنة 2004م .
وبعد تلك السنة استقر في بيته إثر إصابته بمرض في رجله، وتوالت عليه لاحقا الأمراض والأسقام، ولزمته تلك المعانات المرضية إلى آخر حياته.
وقد أن لبى الفقيه أحمد بن العربي السطيطو نداء ربه راضيا مرضيا، وأسلم الروح إلى باريها يوم الاثنين 4 محرم 1434هـ الموافق 19 نوفمبر 2012م عن عمر يناهز 94 سنة.
رحم الله الفقيه الجليل وجزاه الجزاء الجزيل على ما أسداه في مضمار تدريس القرآن للصغار، وما لقنه من توجيه ووعظ وإرشاد للعامة والخاصة أيام الجمع وفي مجالس التذكير، وجعل الجنة مثواه مع المنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وإحياء لذكرى هذا الفقيه الجليل السيد أحمد وتنويها بفضل والده العلامة المفتي السيد العربي السطيطو، وإبرازا لدوره في الذود عن حياض بلده وتفانيه في التدريس وتلقين المعارف المختلفة في مجالس الدرس بطنجة، ومساهمته الكبيرة مع علماء آخرين في تنشيط الحلقات العلمية المنتظمة في مساجد وزوايا هذه المدينة، أضع بين أيديكم ترجمة مركزة دبجها يراع الفقيه أحمد السطيطو تخليدا لآثار لوالده وبرورًا به واعترافا بفضله عليه وعلى جموع كثيرة من طلبة العلم بربوع منطقة شمال المغرب.
وتجدر الإشارة إلى أن الورقة المدرجة أدناه تسنى لي الاطلاع عليها بين أوراق كثيرة في خزانة خاصة، وسعيت إلى الاحتفاظ بنسخة منها لقيمتها التاريخية في التعريف بأحد أعلام طنجة في القرن الرابع عشر الهجري، وهذه الورقة تعد الأثر الوحيد من آثار المترجم التي سلمت من الإتلاف والضياع، وأما باقي كتابات المترجم له ومراسلاته وخطبه الكثيرة التي سألت عنها وبحثت عن أخبارها، فانتهى إلى علمي أن عوادي الزمن أجهزت عليها، والإهمال ساهم في إقبارها. ومع الأسف فإن أسرته اليوم لا تحتفظ من آثار المترجم له إلا بأوراق قليلة جدا، وبخصوص خزانته المتواضعة، التي انتقلت إليه بالإرث من والده، وضمت في محتوياتها كتب التفسير والحديث والفقه وغيرها من الفنون، فقد سُلِّمت جميعها إلى مكتبة عبدالله كنون بطنجة.
وفيما يلي نموذج من كتابات الفقيه أحمد بن العربي السطيطو رحمة الله عليه:
نبذة وجيزة عن حياة الفقيه العلامة العربي السطيطو المالكي المذهب
[الاسم والنسب:]
هو الفقيه العلامة أبو محمد العربي بن العياشي بن الطيب السطيطو، المجاهد التقي، الورع الصالح، ذو الباع الطويل، والحفظ الواسع، والعلم الغزير.
[مولدهِ ونشأتـه:]
ولد بقبيلة ودراس بمدشر التجالة سنة 1287 هجرية، وتربى في حجر والديه وأدخلاه المكتب لتعلم القرآن، فحفظه عن سن مبكرة وأجاده، ثم انتقل إلى قبيلة بني حسان فأقام بها لقراءة المتون وحفظها فتزود بها.
[دراسته العلمية بقبائل شمال المغرب وانتقاله إلى جامع القرويين:]
وانتقل إلى جبل حبيب فدرس هناك، ثم انتقل إلى بني كرفط فدرس على كبار شيوخها الفضلاء وعلمائها الأجلاء، فنال منهم الخير والبركة وبحور العلم والمعرفة وشرب من حياضهم الروية، ثم أشاروا عليه بالالتحاق بجامعة القرويين بفاس ليتبرك بشيوخها الفضلاء وأساتذتها الأجلاء ويشـرب من غزارة علومهم، فارتحل إليها ودرس بها فنون علوم شتى كالنحو والعربية والصـرف والمنطق وعلم البيان والمعاني، وله يد طويلة في علم الحديث والفقه والرواية والنوازل.
كان رحمه الله متقنا للعلوم ومدققا لمشكلاتها ماهرا في فروعها. مكث بجامعة القرويين بفاس نحوا من سبع سنوات للدراسة، وجمع العلوم ثم تخرج منها بإذن شيوخه ورضى أساتذته الفضلاء.
[رجوعه إلى مسقط رأسه ونهوضه بالدفاع عن حوزة البلاد:]
ثم عاد إلى مسقط رأسه وموطن نشأته فتأهب للزواج فتزوج. ثم جاء الغزو الإسباني لشمال المغرب فبادر رحمه الله مع إخوانه المجاهدين للدفاع عن حوزة الوطن وسيادة البلاد وحرمة الأمة وكرامتها. فكان رحمه الله على رأس المجاهدين للعدو والمحاربين للاستعمار، وبذل ما في وسعه من عون وتحريض وتوعية، لكن والأسف شديد والأسى عميق أن بعض المجاهدين أخذوا يأخذون الرشوة ويفشون الأسرار ويقبضون الدراهم، ويبلغون للعدو الأخبار وحينئذ تخلى عنهم وابتعد منهم بعد فقدان العلاج ووجود الدواء.
[ارتحاله إلى طنجة واشتغاله بتعليم أنجال السلطان الأسبق المولى عبدالحفيظ:]
وعندما عمت شمال المغرب الفوضى وانتشـرت الفتن ارتحل إلى مدينة طنجة وأقام بها. ولما قدم المولى عبدالحفيظ إلى مدينة طنجة بعد فرض الحماية واستوطن بها، أخذ يبحث عن معلم لأولاده ومربّ لأنجاله وفقيه فاضل صالح، فقالوا له: (عليك بالفقيه العلامة العربي السطيطو)، فأرسل وراءه وأحضـر بين يديه، فاختبره وتذاكر معه في مسائل علمية وقضايا شرعية، فأعجبه الحال ورضي بذلك فطلب منه تعليم أولاده وتربية أنجاله وأنجال حاشيته. فقال: (سمعا وطاعة)، وصار حينئذ فقيها له ومعلما لأولاده وأولاد حاشيته، واستمر العمل على ذلك إلى أن غادر المولى عبدالحفيظ بن الحسن مدينة طنجة وغُيِّبَ عنها وأُبْعِدَ منها.
[تعرضه لمحنة السجن ومواجهته لابتلاءات الكثيرة:]
ثم إن الفقيه العربي السطيطو سافر إلى مسقط رأسه لصلة الرحم وزيارة أقاربه، فألقى عليه القبض من قبل المتمرد الثائر الظالم الريسوني وسجن ظلما وعدوانا ومكرا وانتقاما، ومكث بالسجن نحوا من سبعة أشهر وأخرج بفضل الله بعد وسطاء وشفعاء من طرف الشرفاء والعلماء، واشترط عليه أن لا يعود إلى مدينة طنجة لكنه رحمه الله لم يستطع أن يعيش هو وأولاده وسط الفوضى والسيبة والفسق والفتنة، فتحيل وهاجر وعاد إلى مدينة طنجة المحمية الدولية في ذلك العصر.
وعندما خمدت نار الفتنة واستقرت الأوضاع بعد استعمار الإسبان وقطع حبائل الفوضى، عرض عليه منصب القضاء بمدينة تطوان فتهرب من ذلك، وألحوا عليه فلم يوافقهم غير أنه قال لهم: (إذا أشكل عليكم أمر أو استعصى عليكم حكم فأنا أتعاون معكم على حله إن شاء الله).
[إتقانه لفقه النوازل وتصدره للفتوى:]
وتصدر الفتوى فكان الناس يأتونه من قريب وبعيد ويهرعون إليه في مشاكل ومعضلات القضاء، فيفصلها بعلمه وذكائه وفق أحكام الشريعة. وخلف مجموعة من الفتاوى مع الأسف أتلفت وأحرقت.
[نهوضه بتدريس العلوم الشرعية وانتفاع المتعلمين بما كان يبثه:]
وكان رحمه الله مدة إقامته بطنجة يدرس العلوم وأهمها الفقه المالكي، فتخرج عنه علماء أجلاء وأساتذة فضلاء لا زال البقية منهم أحياء، وانتفع بعلمه طلبة كثيرون.
[وفاته ومدفنه:]
ولما قرب أجله وناداه ربه وخالقه سافر إلى مسقط رأسه بقبيلة ودراس لزيارة أهله وقرابته والاطلاع على متاعه ومصالحه، مرض هناك ولزم الفراش في معاناة المرض.
وتوفي بعد أربعين يوما، قيل في جمادى الأولى من ألف وثلاثمائة وخمسين هجرية هكذا 1350هـ.
انتهى باختصار والله أعلم..