“القصر الكبير خلال مرحلة الحماية (1912-1956)”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( القصر الكبير و مرحلة الحماية )
الخميس 23 نوفمبر 2017 – 12:51:05
وعلى الرغم من أهمية رصيد المنجز العلمي الذي راكمته المدينة، سواء خلال عهد الاحتلال الاستعماري لعقود القرن الماضي أم خلال عقود ما بعد الاستقلال السياسي، فقد ظل المجال بكرا، وفي حاجة متزايدة لتطوير الجهود، الفردية والجماعية، الرسمية والمدنية، الجمعوية والأكاديمية، من أجل إنصاف ذاكرة مدينة القصر الكبير، بوقائعها المميزة وبأعلامها الخالدة وبشواهدها الصامدة، وقبل ذلك، بإسهاماتها الثرية في تعزيز الهوية السياسية والثقافية والاجتماعية والحضارية للدولة وللمجتمع المغربيين. ومع تزايد مخاطر حالة التردي المزمن الذي أضحى يميز الوضع الراهن للمدينة، كان لابد من توجيه البحث العلمي لاستنفار همم النخب المحلية قصد التصدي لسرطان الترييف ولثقافة الإسمنت، بحثا عن معالم البهاء والجمال والتميز والعطاء الثقافي التي ميزت ماضي المدينة خلال تاريخها الطويل. في هذا الإطار، برزت الكثير من الأسماء التي أضحت أعلاما للزمن الثقافي الراهن للمدينة، استطاعت بعملها تذليل الكثير من الصعاب أمام الباحثين وتمهيد المجال أمام أجيال المهتمين، إنقاذا لذاكرة المدينة ووفاءا لقيم الإخلاص لمعالم توهج عطاء المكان. في هذا الإطار، يمكن الاستشهاد –على سبيل المثال لا الحصر- بالأعمال التأسيسية التي راكمها “جيل الاحتراق” بصبر وبأناة، وكذلك بحنكة وبثبات وبنزاهة وبمصداقية. أقول هذا الكلام، وأنا أستحضر أسماء أعلام العطاء الثقافي والعلمي المرتبط بماضي المدينة، من أمثال الأساتذة محمد أخريف، ومحمد العربي العسري، ومصطفى الطريبق، ومحمد يعلى، ومحمد بوخلفة، وأحمد أشعبان، وإدريس شهبون، وبوسلهام المحمدي، وعبد السلام القيسي، ومحمد بنخليفة،…
في سياق امتداد عطاء هذا النهر الدافق، يمكن أن نضع صدور كتاب الأستاذ سعيد الحاجي، ذلك أنه يحمل الكثير من عناصر الوفاء لماضي المدينة، إلى جانب تبلور واضح لمنزع تلقيح هذا الوفاء بالأصول الأكاديمية للبحث وللتنقيب ثم لإعادة التركيب. ويمكن القول إن العمل يشكل إسهاما غير مسبوق في مجال تخصصه، لا شك وانه يفتح الباب أمام شهية الباحثين لاستكمال حلقاته ولتوسيع دوائر البحث والتنقيب داخله. وبالنسبة للتصور المرجعي الذي تنهض عليه مضامين الكتاب، فقد لخص المؤلف أبعاده العامة في كلمته التقديمية عندما قال: “لقد أطرت موضوع بحثنا هذا إشكالية محورية مفادها: ما مظاهر ومحددات التحولات التي شهدنها مدينة القصر الكبير خلال مرحلة الاستعمار بشكل عام على جميع المستويات؟ وكيف انتقلت المدينة من واقع معين قبيل مرحلة الاستعمار إلى واقع آخر خلفه الاستعمار الإسباني؟ وهذه الإشكالية المحورية جعلتنا أمام مجموعة من الإشكاليات الفرعية المرتبطة بموضوع البحث من قبيل: كيف تحولت المدينة على المستوى الإداري والقضائي من نسق مخزني عتيق إلى نسق عصري بآليات جديدة؟ وإلى أي حد ساهم وقوع المدينة تحت سيطرة الإسبان في تطوير العمل السياسي والجمعوي؟ وما طبيعة الأدوار التي قامت بها التنظيمات السياسية والجمعوية في المدينة؟ أين يتجلى دور الوجود الإسباني في المدينة على مستوى خلخلة البنيات الاجتماعية والتغيرات التي شهدتها والتحولات التي طرأت على المشهد العام للمدينة؟ إلى أي حد ساهم الاستعمار الإسباني في انتقال المدينة اقتصاديا من نمط إنتاج تقليدي إلى نمط إنتاج عصري، وكيف أثرت هذه التحولات على المجتمع القصري خلال تلك المرحلة؟ كيف تحول المشهد الثقافي في المدينة من مشهد منغلق على ما هو ديني وصوفي إلى الانفتاح على أجناس ثقافية أخرى من قبيل المسرح والسينما والشعر الحديث، وما الأدوار التي لعبها الإعلام في هذا السياق؟…” ( ص ص. 12-13).
و للاستجـابـة لأفـق هذه الإشكاليات المُهيكلَة، سعى المؤلف إلى توزيع عمله بين أبواب متكاملة وفصول تجزيئية، استهدفت تقديم تجميع غزير حول الإدارة والقضاء والتنظيمات السياسية بالقصر الكبير، وحول بنية المجتمع القصري وتركيبته العمودية والأفقية والديمغرافية والسوسيولوجية المركبة، وحول خصائص التطور الاقتصادي بالمدينة، ثم حول تحولات الحياة الدينية والثقافية والإعلامية التي أفرزتها صدمة الاستعمار.
وفي كل هذه الأبواب التصنيفية، نجح المؤلف في تقديم غزارة استثنائية على مستوى التجميع الكمي للتفاصيل والجزئيات، مما ساهم في الكشف عن الكثير من الحيثيات المجهرية التي تسمح بإعادة تركيب السياقات العامة لخصوصيات تطور التاريخ المعاصر والراهن للمدينة. وعلى الرغم من ابتعاد المؤلف عن بلورة رؤية نسقية وتركيبية التي من المفروض أن تشكل الخيط الناظم لأي أطروحة جامعية حتى لا يقع العمل في منزلق التجميع التقني “الجاف”، وعلى الرغم –كذلك- من غياب العديد من المظان الوثائقية الموجودة –بشكل خاص بالمغرب وبإسبانيا وبفرنسا – مما أضحى معروفا ومتداولا لدى الباحثين مثلما هو الحال -بشكل خاص- مع وثائق البعثة العلمية الفرنسية المحفوظة بمدينة نانط الفرنسية ومن بينها وثائق إدوارد ميشو بيلير الذي اعتمد المؤلف على إحدى إصداراته لسنة 1906 دون استثمار وثائقه وباقي منشوراته، أمكن القول إن الكتاب يشكل قيمة مضافة لمجال الاشتغال على ذاكرة مدينة القصر الكبير، وعملا يشكل أرضية مفتوحة على رحابة فعل التخصيب والتطوير والاستثمار. فلا شك أن ربط نتائج التجميع المونوغرافي للكتاب، سيقدم المادة الخام الضرورية لإعادة تفكيك بنية التحولات المجتمعية الطارئة على فضاء مدينة القصر الكبير، في إطار تداعيات صدمة الاستعمار وارتداداتها الواسعة والعميقة على زماننا الراهن…