القطاع العام/الإدارة العمومية .. ضرورة الإصلاح المتوازن هنا والآن؟ !
جريدة الشمال – عبدالحي مفتاح ( الإدارة العمومية )
لماذا هذه العلاقة المتوترة المبنية على عدم الثقة بين المواطن و “الإدارة العمومية” في حين أن مبرر وجودها ككائن معنوي يجد معناه الأساسي في خدمة هذا المواطن كفرد وكجماعة وكشعب وأمة؟.
إن الدراسات العلمية والأكاديمية المرتبطة بمسألة الإدارة كثيرة، متعددة، ومتنوعة من حيث المقاربة، وقد تنصب على وظيفتها التخطيطية أو التدبيرية أوالخدماتية أو التنظيمية أو الرقابية…، لكن واقع الحال يستعصي فهمه على الكثير من الدارسين والمتخصصين والمنظرين، إذ رغم التقدم الحاصل في معالجة بعض الشقوق من حين لآخر، فإن نوايا ودعوات وبرامج الإصلاح المتكررة لم تستطع أن تحسن صورة الإدارة العمومية بالمغرب وأن تخلق، بالتالي، تصالحا بينها وبين محيطها، بل إن الكلفة المالية للإدارة العمومية، كما يرى الملاحظون، تبقى باهظة أمام أدائها وإنجازاتها على الأرض في القرية والمدينة والإقليم والجهة والوطن وخارجه، والموصوفة بالتواضع إن لم نقل بالتردي.
ولايشك إلا جاحد أن الإدارة العمومية وهي الأداة التنفيذية للسياسات العمومية قد راكمت من التجربة والخبرة ما لايمكن نكرانه واحتضنت من الكفاءات الوطنية ما لايمكن حصره، مما مكنها من ترسيخ حضورها في الواقع وفي الأذهان، لكن هذا كله لم يشفع لها وهي تصارع الزمن والتحولات وصراع الإرادات والمصالح في أن تبقى بمنأى عن سهام النقد اللاذع والمر، وأشد هذه السهام هو الاتهام الجاهز الذي أصبح متواترا وعاما، وهو “فساد الإدارة”.
وهنا لا بد من التنبيه- ليس بدافع الدفاع الأعمى عن الإدارة العمومية- إلى أن الهجوم الهستيري على هذا الكائن المعنوي الذي يشكل العصب الحركي للدولة أينما كانت، هو في أحد وجوهه انعكاس لهحوم الأخطبوط المالي عبر العالم على كل ماهو عام أو على بقايا مكتسبات وأحلام عهد المد “الإشتراكي” في أفق اكتساح غير ذي رجعة لمعاقل القطاع العام وخوصصة رهيبة للخدمات الاجتماعية بالأساس تحت الشعار الدائم”دولة أقل”.
وهذا لا يعفينا من التأكيد أن الإدارة العمومية أو القطاع العام بشكل أشمل يحتاج إلى إصلاح جذري ليقوم بالدور المنوط به في تقديم الخدمة العمومية وخدمة المصلحة العامة، لكن مساحات هذا الإصلاح و جرعاته أو أجندته ومداخله تبقى رهينة بإرادة جماعية حقيقية وصادقة ينخرط فيها السياسي والنقابي والتقني والإداري، والجامعة ومؤسسات التكوين المختصة، على اعتبار أن الإصلاح يقتضي رؤية شمولية متفق على اساساتها ودعاماتها ويتم تنزيلها وفق برنامج هادئ ومستمر وبروح وطنية فيها تصميم، على أن تكون قيادة هذا الإصلاح موكولة لرجال ونساء يتميزون بالكفاءة والخبرة والعزيمة ويتحلون بالأخلاق الفضلى وعلى رأسها النزاهة.
إن المستوى الذي وصلته بلادنا في مدارج التنمية يبقى دون الطموحات والمؤهلات برأي المراقبين، رغم التقدم المسجل في العديد من المجالات المرتبطة بالبنيات التحتية الأساسية والاتصال والفلاحة والصناعة والخدمات، حيث إن التأخر الكبير والمعيق مع كل الجهود المبذولة، مازال قائما فيما يسمى بمؤشرات”التنمية البشرية”، وهو ما يفرض استمرار وجود قطاع عام قوي وفاعل في الصحة والتعليم والتكوين والنقل والسكن والإدارة… يترجم روح التضامن الوطني، ويقوم بوظيفة اجتماعية وتربوية وبيداغوجية لتأهيل فئات واسعة وتعبئتها للمساهمة في البناء، والإنتاج، والاجتهاد، والإبداع الوطني، ويحمي بالتالي الوطن من السير بسرعتين متنافرتين ومن اللاتوازن.
ولعل الكثير من الأنظار تتجه، في هذا الإطار، إلى الكلفة المالية للإصلاح، لكن ما يجب توقعه في كل إصلاح هو نتائجه الإيجابية على وضع أي بلد وتنافسيته في إطار المنظومة العالمية على المستوى المتوسط والبعيد، وفي هذا الصدد نجد التجارب متعددة خاصة في بلدان اوروبا الشرقية و شرق أسيا وأمريكا اللاتينية.
فهل سيخوض بلدنا المغامرة الضرورية، التاريخية، والمسؤولة لإصلاح القطاع العام بروح ثقة وثابة، وبحكمة وطنية أصيلة، وينأى بهذا القطاع عن عقلية “البقرة الحلوب” و تحميله ما لاطاقة له به، ويحميه من تطرف معاول المهولين بحجم الكلفة والخسارة المبينة لإفراغه من محتواه شيئا فشيئا دون حساب العواقب على التوازنات الاجتماعية؟.
ولابد من الـاكيد، هنا، أن هذا الإصلاح تجمع كل المكونات المؤثرة والفاعلة فيه على ضرورته، كما ينتظره المواطنون بفارغ الصبر، ويأمله كل ذي عقل سليم من العاملين بالقطاع العام، وبالإدارة العمومية بشكل خاص بحرقة وقلق، لكن أسئلة أساسية تحوم حوله: كيف؟ ومتى؟وكم من الوقت؟ وإلى أين؟…فكل تشنج أو تهاون أوتعامل تكتيكي معه أو إقصاء أو تهميش لأحد المكونات المساهمة فيه قد يؤخر موعدنا مع التاريخ ويضر بمصلحتنا كوطن وشعب وأمة …