المرائي في الكتابة الصوفية المغربية
الخميس 26 يناير 2017 – 18:05:05
تتخذ “المرائي” معاني متعددة، وتكتسب دلالات متنوعة، تتوزع على مجالات متداخلة متنافرة، أو متجانسة متآلفة، تجتمع كلها في “المرئي” الذي “يُرى”، و”الرائي” الذي “يَرى”، و”الرؤيا” التي “تتراءى”. ولكن المجال الذي عُنيت به في هذه الأطروحة هو مجال “التصوف”، ومن ثم، فـ”الرؤيا” التي حللتها، “رؤيا” تتجاوز طور الأشياء، إلى طور المعاني، فتخرق حجب الحس، إلى عالم الروح، وقد استقرت على حال البشارة عبر الإشارة، واستيقنت من الكرامة عبر التقرب، وقالت إن “العقل قيد” (كما ذكر ابن عربي في “فصوص الحكم” (ص 122). أما “المرائي” التي من جنسها وثمرتها، والتي تناولتها بالوصف والقراءة، فهي “مرائي” المتن الصوفي المغربي، عبر نصوص محددة، وأسماء معينة، اخترت منها البعض دليلا على الكل، مُعللة هذا الاختيار، ومُظهرة أسبابه، ومُبينة دوافعه.
ويمكن عدّ هذه المرائي بمثابة الدليل القاطع على برهان الصوفي على صدق دعواه القلبية، المتجاوزة لبرهان العقل، والمتجاورة مع برهان الذوق. كما يمكن عدها مرآة الحياة الروحية للعصر الذي ظهرت فيه، ومرشدا أمينا إلى أحواله الاجتماعية والسياسية وأحداثه التاريخية، ولا يحتاج الأمر إلا لدراسة متفحصة لمضامينها، تتناولها من زوايا نظر مختلفة، أدبية وفنية وروحية وأنثروبولوجية. ومن هذا الوجه، يُطلب درسها، ويُرجى نفعها، ويُراد تحقيق ما تنطوي عليه من حقائق وأسرار.
ولا ريب أن اختيار موضوع ما لمعالجته علميا، تحكمه أسباب متعددة، وتوجهه اعتبارات مختلفة. وهذا هو حال موضوع “المرائي في الكتابة الصوفية المغربية”؛ فقد حكمته جملة من الأسباب، ووجهته طائفة من الاعتبارات، فأما الأسباب، فقد لخصتها فيما يلي: – أن متن الكتابة الصوفية ينطوي على مادة غزيرة فيما يتصل بالمرائي؛ – أن المرائي الصوفية عالم قائم الذات، له لغته، وعلاماته، وقواعده، وأسراره، وحقائقه؛ – أن الاشتغال على هذا العالم القائم الذات ربما يساعدنا على إدراك أبعاد التجربة الروحية الصوفية، ويُعيننا على فقه آليات اشتغالها في الكتابة الصوفية، ويُنير لنا بعض ما استغلق من عوالمها وأسرارها. أما الاعتبارات، فيمكن إجمالها، فيما يلي:
– اعتبار جمالي؛ حيث أن المرائي منبع خصب لحكايات وصور رمزية وتعبيرية تتفوق على أجمل وأغرب قصص الأدب العجائبي. مع فارق أن المجال الأول لا يتعمد ذلك ولا يلجأ إليه أو يستعين به، فهو معطى ومكون ضمني غير مفتعل أو مفكر فيه. بينما المجال الثاني يقوم على اعتماد التخييل والمبالغة في هذا التخييل كاختيار فني وجمالي مقصود، ينهض بدور معين في سياق النص الأدبي، ويطبعه بسمات مخصوصة.
– اعتبار علمي؛ فقد وجدت أن الغالب على الدراسات التي تناولت المرائي، إذا وُجدت، لم توفها حقها من العناية والتأمل. إن الأسباب والاعتبارات المشار إليها سابقا، كانت تبرز مثل الحدوس المنثورة شيئا فشيئا أثناء إعدادي لشهادة الماستر، واتخذت صورة واضحة أثناء انجازي لرسالة الدكتوراه، لاسيما وقد اتصل موضوعهما برابط وثيق؛ إذ تناول البحث الأول المرائي الصوفية في كتاب “الإبريز” لسيدي عبد العزيز الدباغ (ت.1131هـ)، وتناول البحث الثاني “المرائي الصوفية في الكتابة الصوفية المغربية”، فكأنّ الأول مثّل بداية الثاني وعينّة منه، وكأن الثاني شكّل امتدادا للأول وتطويرا له، فكانا بذلك أحدهما للآخر بمثابة الجزء من الكل.
وقد سلكت في عملي هذا السبل المعهودة في التقديم والتقسيم والاستنتاج؛ حيث قسمته إلى أربعة أبواب، كل باب له فصول محددة، مع وضع مقدمة عامة في بدايته، وخاتمة استنتاجية في نهايته.
وهكذا تناولت في التقديم المرائي بصفة عامة؛ حيث ارتأيت إلقاء نظرة عامة عليها في بعض الثقافات الأجنبية من باب المقارنة والتمثيل والاستشهاد، وتحدثت عن أسباب اختيار الموضوع؛ وأشرت إلى ما أنجز فيه من أبحاث سابقة؛ وحددت الغايات والمقاصد المطلوبة، وسطرت معالم المنهجية المتبعة؛ وتحدثت عن طبيعة المصادر المعتمدة؛ وسميت الصعوبات القائمة في سبيل إعداده؛ وسجلت كلمة شكر في أهل الفضل عليّ في إنجازه.
أما الباب الأول، فجعلته “في مفهومي التجربة والكتابة الصوفيتين”، وقسمته إلى ثلاثة فصول، تناولت في أولاها “التجربة الصوفية” لدى اليهودية، والنصرانية، والإسلام؛ مع شئ من التفصيل في التجربة الصوفية في الإسلام نظرا لانتماء المرائي قيد القراءة الوصفية إلى المدونة الصوفية المغربية الإسلامية، وكان بذلك مادة الفصل الثاني؛ حيث عرضت للتصوف والتجربة الصوفية من خلال ثلاثة كتب أساسية في التأليف الصوفي الإسلامي وهي “اللمع في التصوف” للطوسي، و”التعرف لأهل التصوف” للكلاباذي، و”الرسالة القشيرية” للقشيري. أما الفصل الثالث، فتناولت فيه مفهوم الكتابة الصوفية من الناحية العامة، مقسمة إياها إلى عناصرها العضوية من كتابة، وكتابة صوفية، مُستشرفة بذلك بعض القضايا الإشكالية التي عرضت لي أثناء تناول المرائي باعتبارها جزءا من الكتابة الصوفية بشروطها المعلومة، وخصائصها المشهورة.
وجعلت الباب الثاني حول “الكتابة الصوفية المغربية”، فسعيت إلى تحديد أنواعها، واجتهدت في الوقوف على قيمتها؛ صاعدة بذلك من العام إلى الخاص، وقسمته إلى ثلاثة فصول، ألقيت في الفصل الأول “نظرة تاريخية على نشأة وتطور التجربة الصوفية المغربية في المغرب والأندلس”، وعرضت في الفصل الثاني لـ”أنواع الكتابة الصوفية” التي تضمنت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، معالم من التجربة الصوفية، مثل كتب الفهارس، والتراجم، والمناقب، والكرامات، والمبشرات.
أما في الفصل الثالث، فخصصته لـ”قيمة الكتابة الصوفية”، وتخيرتُ ناحيتين منها؛ الناحية الأدبية، ومثلت لها بـ”القول الشعري الصوفي لدى التستاوتي”، والناحية التاريخية، ومثلت لها بكتابي “التشوف إلى رجال التصوف” لابن الزيات التادلي، و”الروض العطر الأنفاس” المنسوب لابن عيشون الشراط. وجعلت الباب الثالث للمرائي الصوفية، وقسمته إلى خمسة فصول، خصصت أولاها لطائفة من “التدقيقات” و”الوقفات” المنهجية، في “الفرق بين المرائي والرؤى”، وصلة هذه الأخيرة بعلم النفس، وبالتصوف، وخصصت ثانيها للتعريف بالمرائي لغة واصطلاحا، وثالثها لمصدر الرؤى لدى مدرسة التحليل النفسي، والفلاسفة، والصوفية، والتمست في الفصل الرابع المشروعية الدينية والصوفية والعلمية للرؤى. أما في الفصل الخامس، فقد حددت أصناف الرؤى ما بين رؤى عامة ورؤى عرفانية، ثم رصدت خصائصها من ناحية اللغة، والوصف، والوظيفة انطلاقا من أمثلة محددة، ولمّحت في نهاية هذا الفصل إلى قيمتها؛ مع بعض التدقيقات المنهجية التي قمت بها هنا وهنالك.
أما في الباب الرابع، فأدرت الكلام فيه على “المرائي في الكتابة الصوفية المغربية”، وقسمته إلى ثلاثة فصول، عملت في الفصل الأول على إلقاء نظرات نقدية عليها، وتحديد بنيتها، وتسمية مكوناتها، والإشارة إلى خصائصها، وعملت في الفصل الثاني على ذكر بعض النماذج التمثيلية منها للشيخ عبد الرحمان الفاسي (ت. 1096 هـ)، والشيخ أحمد بن المبارك المالكي (ت. 1156 هـ)، والشيخ محمد المعطى بن الصالح الشرقاوي (ت. 1180 هـ)، مع ذكر ما تيسر لي من معلومات حول ترجمتهم، وعملت في الفصل الثالث على “قراءة وصفية للمرائي المنتخبة”، من حيث موضوعاتها، ولغتها، ودلالاتها. وفي نهاية أطروحتي، وضعت طائفة من الخلاصات والنتائج التي انتهيت إليها، منها:
– أن التجربة الصوفية تجربة فريدة من نوعها، متنوعة في أنماطها؛
– اختلاف أنواع الكتابة الصوفية من حيث القيمة والقدر، والعمق والطول، والأسلوب والبلاغة، واللغة والبيان، كما غناها من حيث المادة التاريخية والعلمية والنظرية؛ – أن “المرائي في الكتابة الصوفية المغربية” ما تزال موضع استشكال من حيث نضج واستواء الكتابة الصوفية المغربية التي تتضمنها، وعدم وجود متنها المكتوب على وجه الكمال والحصر، وعدم إدراك التجربة الصوفية طورا متقدما من أطوار نشأتها حتى بلغت فيه الشأو البعيد سوى ما قررته من رقائق أو ما لامسته من حقائق؛
– التمييز بين “الرؤى”، و”المرائي”؛ فـ”المرائي” هي “الرؤى” وقد صارت مكتوبة، ومقيدة، ومدونة، ومحكية، ومسموعة، وهُيئت لها أسباب الخروج من رتبة “الذاتية” إلى رتبة “الموضوعية”؛
– أن التماس المشروعية للرؤى أمر ممكن من الناحية الدينية والصوفية والعلمية؛
– لغة المرائي لغة مخصوصة شانها شأن القول الصوفي برمته؛ – أنها تنهض بالوصف، إما لحال النفس في الماضي قبل العلم، أوحال المرئيين، أو تصف قضية خلافية وتقترح لها حلا؛
– أنها تقوم بعدة وظائف إما بحسم مادة الخلاف حول بعض القضايا الدينية، أواستمداد السند لآراء الصوفية الرائين في تفسير القرآن الكريم، ولأنظارهم في إدراك معانيه، أو تزكية الطريق الذي فيه يسلكون، أواستدعاء المدد للنفس بالغير؛
– أن لها قيمة تسمو بها، جمالية، ورمزية، وروحية، وأنثروبولوجية، وتاريخية؛ – أنها تشكل نسقا أو نظاما يمكن التماسه في “المقدس”، بمظاهره الثلاثة “الألوهية” و”النبوة” و”الكرامة”؛ و”الخارق للعادة” في الزمان والمكان، و”العجيب”، بعنصري “الإدهاش”، و”الإبهار”؛ و”الرسالة”، بعنصري “البشارة” و”النذارة”؛
– أن لها وجها من المعقولية يمكن التماسه في “الغاية” التي تنشدها كل رؤيا، ووجها من “الكلية” يمكن التماسه في “الشوق إلى المطلق”؛
– أن ما تشهده من تحولات يقع في “المرئيات” التي ترى في “الرؤى”، من حيث موضوعاتها، وعناصرها، وأشخاصها، وأعيانها؛
– أن الثابت فيها باعتبارها بنية، هو الرائي والرؤيا ذاتهما؛ – أن المكونات التي تدخل في بنيانها، فتجعلها قائمة بوظيفتها، وواصلة إلى غاياتها، تكمن في “الحكاية”، و”الحوار”، والتحقق، والتنبؤ بالغيب، والرؤية الغيرية، ورؤيا الفرج، والكرامة، والتنبيه، والتحذير؛
– أن موضوعاتها تدور حول “الجليل” الذي يحضر في “برزخ النبي”، و”برزخ الولي”، و”برزخ الصفي”، كما تدور حول “الجميل” باللون والشكل، والجميل بالعجيب والغريب، والجميل بالنور والضياء، كما تدور حول “الدليل”، بالتاريخ، و”الدليل” بالشخص، و”الدليل” بالمناسبة؛
– أن لغتها لغة واصفة للأشياء، وللأشخاص، وللأحوال؛ – أن لغتها لغة سردية تسرد وتصف وتفصل وتنقل الأحداث المتواترة في الرؤيا، وتصطنع صيغة “الماضي” في سرد وقائعها، حتى لو تعلق الأمر بالمستقبل؛
– أن لغتها تقريرية، تقرر واقع الأشياء أو حال الأشخاص، أو طبيعة الأحوال؛
– أنها تنطوي على دلالة روحية، ودلالة جمالية، ودلالة تاريخية، تتمازج فيما بينها تمازجا عجيبا ينصهر في النهاية إلى مرائي منطوية على قيمة جليلة.
وككل أطروحة علمية، لا بد من توفر مقاصد تسعى إلى تحقيقها، وعلى منهجية تصطنعها في العمل؛ فأما الغايات التي سعيت إلى تحقيقها فهي: – جمع ما تفرق من بعض المرائي في بطون الكتب والمصنفات؛ – تقديم نموذج من المرائي شكل جوهر التجربة الصوفية المغربية في أبهى صورها؛ – تهيئتها للدرس والتحليل لمن بسبيله إلى الوقوف على مفاتيح التصوف المغربي؛ – التنبيه على أهمية التجربة الصوفية عامة، وتجربة المرائي خاصة، في مساعدتنا على فهم جوانب مهملة من فكرنا وتاريخنا الوطنيين. وأما منهجية البحث التي اعتمدتها، فتتمثل فيما يلي:
– انتخاب مرائي معينة لقراءتها قراءة وصفية وفق معيار خاص سميته في موضعه؛ – جمعها وفق تسلسل تاريخي وموضوعي؛
– قراءتها قراءة وصفية من مختلف النواحي التي تراءت لي خلال فحصها، والإطلاع على مضامينها.
– تقييمها من خلال المضامين التي تنطوي عليها، والإشارات التي تشير إليها. ونظرا لاتساع موضوع الكتابة الصوفية، وامتداد المرائي في متونها، كان لا بد من انتهاج منهج انتقائي لبعضها وفق اعتبارات فنية وأدبية وتاريخية. وهذا ما يفسر طبيعة المصادر والمراجع المعتمدة في هذه الأطروحة.
ويمكن تصنيفها ضمن الأنماط التالية: – تاريخية، من حيث تهيئتها الأرضية الزمانية للمرائي الصوفية خصوصا، وللكتابة الصوفية المغربية عموما؛ – نظرية، من حيث إسنادها للمفاهيم المتداولة في دراسة تلك المرائي المنتقاة من متن الكتابة الصوفية المغربية؛ – نقدية، من حيث مساعدتها في الانطلاق بالمرائي إلى أفق الوصف والتحليل والتأويل. وكما هو معلوم، إن كل رسالة علمية لها صعوباتها التي تواجهها، وغايات ترجو تحقيقها؛ فأما الصعوبات فيمكن الإشارة إلى بعضها مثل:
– قلة الأبحاث العلمية المنجزة في موضوع المرائي الصوفية؛
– تفرق مادة المرائي في متون عدة من المتن الصوفي المغربي؛
– صعوبة الحصول على بعض المصادر في مظانها .
وأما الغايات، فقد تمثلت في:
– السعي إلى تدارك قلة الأبحاث المنجزة في موضوع المرائي الصوفية؛
– تجميع مادة معتبرة من المرائي من متون منتخبة من المتن الصوفي المغربي؛
– دراستها الدراسة المناسبة حسب الجهد والقدرة.