المسرح والفقهاء من جديد موقف الفقيه محمد الطنجي
جريدة الشمال – رضوان احدادو ( المسرح والفقهاء )
الخميس 18 فبراير 2016 – 16:40:39
ففي المجال الوطني أبلى الفقيه الطنجي بلاء حسنا كواحد من القادة البارزين والمؤسسين لحزب (الإصلاح الوطني) بالشمال وعضو لجنته التنفيذية، ولازال الناس يتذكرون ويذكرون قيادته لأول وأكبر مظاهرة دموية- 8 فبراير 1948- ضد موقف إسبانيا بمنع الزعيم عبد الخالق الطريس من دخول مدينة تطوان، (5) ومواقف أخرى له وبهذا نكون أمام عالم مشارك سخر علمه لخدمة دينه وأمته ووطنه، فالمصلحة العليا للأمة والوطن في رأيه لم تكن لتتعارض مع الدين، بل هي مهمة العالم وجوهر رسالته.
لم تكن لهذا السلفي مواقف متشنجة تجاه مستجدات العصر وأدواته، فمذهبه الحكم على الشيء من حيث مقصده أو مقاصده، وأثره وتأثيره في الأمة، سلبا أو إيجابا. ما لم يتعارض بنص صريح مع الدين، ومن هنا جاز لنا طرح الأسئلة العويصة المقلقة لتي كثيرا ما تحاشى من الفقهاء من تحاشى سماعها والاستماع إليها، بالأحرى الإجابة عليها. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو:
– ما موقف الفقيه من المسرح؟
وضمنيا نريد معرفة موقف الدين من المسرح والتمثيل بصفة عامة وذلك من وجهة نظر الفقيه ثم:
– هل في المسرح ما يتعارض مع قناعته الدينية؟
– وهل يمكن عد المسرح- وهو المرتبط بالجمهور مباشرة- من الوسائل الناجعة أو الممكنة لتمرير خطاب القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية أو الوطنية والتي هي رسالة الفقيه العالم ومهمته؟ إلخ
أسئلة تفرز أسئلة ليس من الضروري طرحها كلها، فبعضها تغنينا عنه مواقفه العملية.
لقد عاش الفقيه وعايش زمن حركية المسرح وازدهاره في مدينة (تطوان)، ولامس عن قرب دوره وتأثيره وكذا رسالته النبيلة، ووقف على آراء وأحكام ومواقف المتشددين المناهضين للمسرح – وإن كانوا قلة- من الفقهاء. غير أنه كما يتبين لنا لم يدخل المعركة مناصرا لجهة أو معارضا لجهة، فلم يدل برأي أو هو حدد موقفا. ربما أن الأمر بالنسبة إليه- كما كان بالنسبة لغيره من أغلبية الفقهاء والعلماء- لم يكن في حاجة إلى إعلان رأي أو تحديد موقف (أو الاصطفاف في معسكر)، وإن كنا نعتبر حضوره وعدم رفضه أو معارضته للتمثيليات التي كان يقدمها شباب الحزب والمؤسسات التابعة له (المعهد الحر، فرق الفتيان فرقة النجم الأخضر الخ) تزكية صريحة، وأن ذلك أيضا بمثابة إعلان موقف، ورد عملي غير مباشر على المتشددين المعادين لكل بادرة نهضوية وللمسرح بصفة خاصة، وهذا أمر طبيعي، فالحركة الوطنية المغربية- والفقيه أحد أقطابها- احتضنت المسرح وتبنته من لحظة ميلاده الأولى، وقد رأت فيه أنجع وسيلة لاستقطاب الطبقات المتوسطة والمثقفة من الجماهير، وأدركت مدى قدراته على تعبئتها وطنيا، ووسيلة أيضا لجمع الأموال دعما للمشاريع الخيرية والدينية، والاجتماعية والوطنية.(6)
وقد يكون هناك مبرر آخر لم يدخل الفقيه من أجله المعركة، ربما لكونه رآها معركة هامشية، جانبية، قد تصرفه عن المعركة الحقيقية، كالحملة التي سبق أن شنها الوطنيون على الطرقيين والتي أسالت الكثير من المداد ولم تتوقف إلا بطلب من شكيب أرسلان الذي “نصحنا بالتوقف (……..) هذا غير مفيد انتم تركتم العدو واشتغلتم بعضكم ببعض”.(7)
غير أن صمت الفقيه لم يستمر، ربما رأى أن الوقت أصبح يفرض عليه الإدلاء برأيه وتحديد موقفه، وذلك من خلال ما نشره بمجلة ( دعوة الحق) – وهو وقتها رئيس تحريرها- مبرزا فيه (نظر الإسلام في التمثيل والأفلام السينمائية حسب أثر ذلك في المجتمع).(8)
يحاول الفقيه في الموضوع المشار إليه تقديم إجابات واضحة عن الأسئلة السالفة خصوصا في ما يتعلق منها بموقفه الذي يراه موقف الإسلام من المسرح والتمثيل عامة، وقبل ذلك فهو يقر بأن الحديث في موضوع التمثيل من الزاوية الإسلامية يعتبر عملا أو موضوعا (شائكا)، ولهذا لا يمكن، بل غير مسموح للفقهاء الاكتفاء أمامه بمقعد المتفرج، خصوصا أن كلا من المسرح والسينما أصبحا حقيقة واقعية في حياة الناس وقد أثبتت الأيام أن دعوات المتشددين لم تلق الصدى أو التجاوب أمام تنامي الظاهرة ولابد من استحضار هذا البعد/ الحقيقة قبل إصدار الأحكام، وتقديم التوجيهات ولا يجوز القفز عليه بعد أن “شب عليه الصغير وشاب عليه الكهل”(9) ولذلك على الفقهاء التعامل مع الظاهرة من منطلق المصلحة العامة، بمعنى استحضار الجانب الإيجابي خصوصا وان “القافلة سائرة ولا تتوقف، والتيار جارف لا يوقفه صاد ولا رادع”.(10)
وعلى اعتبار أن التمثيل / المسرح هو قبل كل شيء جنس أدبي فني بامتياز، إبداع كغيره من الأجناس الفنية الإبداعية الأخرى يحمل معه ما يحمل من أفكار ومواقف متبانية، الصالح والفاسد، فيجب التركيز على الإيجابي الصالح منه والعمل على استثماره، دينيا واجتماعيا وأخلاقيا ووطنيا فـ “التقدم العلمي والصناعي هيأ للناس متعا ما كان يحصل عليها أو يحلم بها (…) والمرء في المشرق يكلم صاحبه في المغرب بمنتهى اليسر إلى آخر مظاهر الرفاهية والتمدن التي نشاهدها اليوم، (…) وعلى هذا الأساس انظر إلى ما قدمته الحضارات قديمها وحديثها، إنه- كما علمني الإسلام- لي كإنسان وليس لغيري، فالله سبحانه يقول: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا”.
ومن ثم فالأصل في الأشياء هو الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، ولقد أشاعت المدنية الحديثة السينما والمسرح والراديو والتلفاز وغيرها من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على السواء، ومعروف أن هذه الأجهزة أدوات غير مسؤولة عما يصدر عنها وأن المسؤولية تقع على المؤلفين والفنانين والمخرجين ففي استطاعتهم أن يقدموا النافع ويحجبوا الضار الخ”(11) ومن هنا يجب ألا نغيب مسؤولية الفقيه، إذ “لا ينبغي لفقهائنا أن يبقوا جامدين أمام المصلحة، كما لا يجب للشباب ولعموم الجماهير أن يبقوا مندفعين متهورين في ظلام المفسدة”.(12)
ويتضح أن الفقيه يبحث عن نقطة التقاء وتوافق وهو يحمل المسؤولية للطرفين للفقهاء والمسرحيين معا ليكون موقفه موقف إباحة بشرط ضمان المصلحة العامة، بمعنى أن الحكم على الشيء لا يكون لذاته وإنما حسب المقصد والغاية.أي من حيث “المصلحة أو المفسدة”، ومعيار ذلك الأخلاق : “لأن الأخلاق الفاضلة هي عصمة المجتمعات من الانحلال”.(13)
من هنا يتبين لنا أن موقف الفقيه الطنجي من التمثيل/ المسرح كان موقفا جريئا، بينا، واضحا، احتكم فيه إلى العقل والمنطق مقدما المصلحة العامة الغير متناقضة مع القيم التي هي في الأصل دعوة الإسلام ومنهجه القوي الثابت، وهو يرى تقويم المسرح خير من محاربته، واستثمار قدراته وإمكاناته كوسيلة من “وسائل لإشاعة اللغة السليمة وتذوق الآداب الرفيعة، وحماية الأخلاق، ودعم التقاليد الفاضلة الخ”.(14)
ويرى الفقيه أن التمثيل والذي هو تقليد ومحاكاة موجود في مرجعيتنا الدينية، مستدلا بقصة الغراب المذكورة في القرآن الكريم والذي بعثه الله سبحانه وتعالى لهاروت قاتل أخيه ماروت “فيبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه” (15) وموجود أيضا في موروثنا الشعبي، وأورد استدلالا حكاية الصوفي الذي كان يخرج إلى الناس كل اثنين وخميس على عهد الخليفة المهدي ويتحلقون حوله لتقديم عرض مسرحي هزلي يحاكم فيه الحكام من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحدا واحدا إلى زمن بني هاشم.(16)
وقياسا على كل هذا “لا يمكن الحكم على التمثيل (المسرح) والأفلام (السينما)…فقد تكون الرواية السينمائية علمية تفيد مشاهديها علما وخبرة (…) حتى أن بعض المعاهد العلمية تلقى فيها دروس علمية بواسطة التشخيص السينمائي (…) فالرواية العلمية والأخلاقية مفيدة وفيها مصلحة للأمة، ليس فيها ما يمنعه التشريع الإسلامي الذي يدور مع المصالح الحقيقية للعباد” (17) ومقابل ذلك “توجد أنواع من الروايات هي أقرب إلى الإجرام وفساد الأخلاق (…) والتشريع الإسلامي الذي يراعى درء المفاسد يمنع قطعا عرض هذه الأفلام”.(18)
أن موقف الفقيه محمد الطنجي من المسرح والتمثيل بصفة عامة ينسجم كليا مع موقف فقيه سلفي، متفتح على العصر، وعلى المجتمع، وعلى الواقع دون المس بقيم الأمة وعقيدتها بل من أجل تعزيز تلك القيم ونشر الفضيلة… ليس مع المسرح بمفاسده، ونعم للمسرح بأخلاقياته…
* هـــوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- ولد بتطوان وتلقى على يد شيوخها العلوم الفقهية والدينية، وكذا في كل من جامعة القرويين بفاس وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة.
انظر بتفصيل.
– فقيد الوطنية والجهاد الأستاذ العلامة المصلح المجاهد (محمد الطنجي) منشورات ج الطالب المغربية مطبعة الشويخ 1995.
– محمد الحبيب الخراز (الصحافة بشمال المغرب من التاسيس إلى الاستقلال) مطبعة ايمبريما مدري- تطوان 2013 ص 273.
– هدى المجاطي (من أعلام الكتابة والصحافة بشمال المغرب 1930/ 1956) طـ 1 ص 242 مطبعة الطوبريس طنجة.
2- هناك من علمائنا الأجلاء من ارتضى لنفسه الوقوف عند الضفة الأخرى علانية أو بين بين.
3- خطيب جمعة، أستاذ بالمعهد الديني (1953) كاتب بمديرية الأوقاف بتطوان (1955) كاتب عام لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالمنطقة الخليفية (1956) عينه محمد الخامس رئيس قسم الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ثم رئيس تحرير مجلة (دعوة الحق) الخ.
4- شارك الأستاذ الطريس في إصدار أول جريدة وطنية سياسية بالمغرب 1934 (الحياة) سنة 1939 أصدر مجلة (الإرشاد الديني).
5- على إثر ذلك ناله الكثير من العذاب على يد المستعمر الإسباني حيث صفيت تركته وزج به في سجن (الأنشو) بسبتة مع غيره من الوطنيين وهو سجن معد لعتات المجرمين الإسبان وقد قضى به سنة كاملة.
انظر المراجع السابقة.
6- نتوفر على عدة وثائق تثبت دعم المسرح لتلك المشاريع، وأيضا لمساعدة الطلبة على متابعة دراساتهم العليا خارج المغرب.
7- ع الله كنون: مجلة (الكرمل) الفلسطينية حوار أجراه معه لكل من م بنيس و م البكري ع 11 سنة 1984.
8- (دعوة الحق)، ع 6 س 3 مارس 1960 ص 34/35.
9- نفسه.
10- نفسه.
11- من حوار مع الشيخ المفكر محمد الغزالي أجراه معه ياسر فرحات، مجلة الشرق الأوسط، السنة الرابعة ع ى173- 18 أكتوبر 1989.
12- م الطنجي، المرجع السابق.
13- نفسه.
14- الغزالي مرجع سابق.
15- سورة المائدة آية 31.
16- انظر العقد الفريد لابن عبد ربه.
17/ 18- م الطنجي، مرجع سابق.