“المغرب المجهول – اكتشاف جبالة”
الجمعة 28 يوليوز 2017 – 18:39:29
صدرت الترجمة العربية للجزء الثاني من كتاب “المغرب المجهول” المعنون ب”اكتشاف جبالة”، لمؤلفه أوجست مولييراس، سنة 2013، وذلك في ما مجموعه 608 من الصفحات ذات الحجم الكبير، بتوقيع للمترجم الدكتور عز الدين الخطابي. ويمكن القول إن صدور هذا العمل يعتبر استكمالا لمسار علمي رفيع، انشغل –من خلاله- المترجم بالسعي نحو تعريب نصوص التراث الكولونيالي الفرنسي التي ارتبطت بمشاريع الاستكشاف العلمي الاستعماري لبلادنا خلال عقود نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. وإذا كان المترجم قد نجح في تقديم الجزء الأول من عمله الخاص ب”استكشاف الريف” سنة 2007، فإن الفضول العلمي ظل متيقظا من أجل استكمال الصورة عبر توسيع آفاق الترجمة لتشمل الجزء الثاني الخاص بمنطقة جبالة التي كانت لاتزال في غياهب المجهول بالنسبة لأوربيي المرحل
لقد حرص المؤلف على الوفاء لنهجه التدويني الذي اعتمده في الجزء الأول، من خلال الاعتماد على مرويات المخبر الأساسي لمولييراس، أي الدرويش محمد بن الطيب الذي ينحدر أصله من منطقة القبايل الجزائرية، وقام برحلة طويلة بمنطقة شمال المغرب لمدة زمنية تجاوزت العشرين سنة، مكنته من تجميع الكثير من التفاصيل والجزئيات حول واقع القبائل الريفية والجبلية والمراكز الحضرية لمنطقة الشمال، وهي المعطيات التي شكلت النواة الصلبة لكتاب “المغرب المجهول” الذي أصدره مولييراس سنة 1899.
وعلى الرغم من أن الكتاب قد نحا نحو تقديم رؤى غرائبية مغرقة في بعدها الانطباعي والوظيفي المرتبط بضرورات تمهيد المجال المغربي لمخططات الغزو الاستعماري الفرنسي، فالمؤكد أن التفاصيل والمرويات تحمل بين طياتها الكثير من عناصر التأمل والتفكيك والاستثمار، ليس –فقط- بالنسبة لواقع منطقة جبالة الذي كان، ولكن –كذلك- على مستوى جهود تشريح الخطاب الكولونيالي الذي بلوره “الحزب الاستعماري” تجاه الأرض المغربية والساكنة المغربية خلال مرحلة تصاعد المد الإمبريالي الأوربي الطافح بكل أرجاء القارة الأوربية. ولعل هذا ما أدركه عز الدين الخطابي برؤية عميقة، عندما قال في كلمته التقديمية: “هناك مفارقات عدة حاولنا التوقف عندها أثناء ترجمة هذا العمل، وقدمنا ملاحظات وتنبيهات تدعو القارئ إلى التأمل والتمعن في مضامينها وخلفياتها. ومع ذلك، فإن هذا التداخل بين العلم والسياسة، أو لنقل هذا الاندماج بين مطلب الصرامة العلمية ومطلب المصلحة الإيديولوجية، كغطاء لمصلحة أخرى، اقتصادية وسياسية، لم يفقد هذا العمل أهميته كوثيقة إثنوغرافية وتاريخية حول منطقة ذات تاريخ حافل، خاض سكانها صراعات مريرة ضد الغزاة وصنعوا مثل إخوانهم بمنطقة الريف، الملاحم التي جعلت القوى الغازية منذ القدم… إلى فترة الاستعمار الحديث، تحسب ألف حساب، قبل الإقدام على مهاجمة الثغور والسواحل المغربية ولن أقول التلال والجبال… ” (ص. 6).
لقد اعتمد مولييراس على روايات سارده، الدرويش محمد بن الطيب، الذي أفاض في تقديم تفاصيل حياة منطقة جبالة الإثنوغرافية والاجتماعية، من خلال شخصنة قضايا سرده، وانفتح على ملفات اجتماعية لم يكن الحديث عنها متداولا ولا مباحا، مثل قضايا الشذوذ الجنسي، والدعارة واللصوصية، والطرقية، والأشكال الفرجوية البدائية، وواقع الطائفة اليهودية. وإلى جانب ذلك، حرص مولييراس على النهل من مظان المصادر الإسطوغرافية التاريخية الكلاسيكية، وخاصة منها الكتابات العربية الإسلامية، وتحديدا كتاب “ابن خلدون”، وكتاب “الاستقصا”، وكتاب “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب” لابن عذارى، وكتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، للإدريسي، وكتاب “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” لابن أبي زرع. وقد مكنه إتقانه للغة العربية الفصحى من النهل من معين هذه المصنفات، بل وتحويل متونها إلى أرضية لتقديم قراءات تركيبية لمجمل تطورات ماضي قبائل منطقة جبالة ومراكزها الحضرية ومدنها الكبرى، وذلك على الرغم من كل الثغرات والأخطاء التي ارتكبها المؤلف في توظيفه لمراجع تدوينه وكذا لرصيد الرواية الشفوية، مما أضحى أمرا معروفا لدى كل المشتغلين على رصيد التراث التاريخي الكولونيالي لمرحلة القرنين 19 و20 الميلاديين.
وللاقتراب من سقف التدوين التجميعي الذي ميز كتاب مولييراس، يمكن الاستدلال ببعض مما ورد حول مدينة أصيلا، ففي ذلك اختزال لنسق الكتابة والتأليف الذي هيمن على كل مضامين كتاب “المغرب المجهول”. يقول المؤلف: “بالجهة الجنوبية للجهة (الغربية)، تجدون قرية أصيلة الكبيرة التي يدعوها الأهالي بنوع من التفخيم، مدينة أصيلة، وهي متكئة على تلة بين الغربية والساحل وتحتوي على 300 مسكن بشاطئ عار على بعد كيلومتر تقريبا من مصب النهر الذي يحمل اسمها وقرب أمواج المحيط التي تتكسر على أسوارها القديمة. وتمر المراكب بعيدا عن شاطئها دون أن تتوقف، لذلك فإن التجارة منعدمة بها. فطنجة والعرائش تستحوذان على الحركة التجارية بهذا الجزء من الساحل. وأغلب المباني بأصيلة برتغالية، كما أن أسوارها متينة رغم قدمها، لكن القصبة في حاجة إلى إصلاحات كبيرة…
تبدو (المدينة) لامعة من بعيد لأنها مطلية بالجير، لكن ما أن يقترب منها المرء حتى تصبح كئيبة بأزقتها الضيقة، المغبرة في الصيف والموحلة في الشتاء، فضلا عن الأزبال المتراكمة بها والحيوانات النافقة والمتعفنة بأركانها. ويرتدي الأهالي الملابس الجبلية المعروفة، أي الجلابة والسراويل القطنية البيضاء بالنسبة للرجال، والحايك الصوفي الأبيض أو الملون بالنسبة للنساء. ويستقبل الأجنبي ببرود من طرف السكان الذين يعيشون في شبه عزلة، ويرتابون بشكل غريزي مثل كل المغاربة، من كل واحد لا ينتمي إلى أسرتهم أو عشيرتهم أو طائفتهم.
وأشهر زاوية بأصيلة هي زاوية سيدي بن مرزوق،… أما الجالية اليهودية، أفرادها يعيشون بجوار المسلمين دون إثارة المشاكل، لأنهم يحترمون العادات الإسلامية. واليهودي بأصيلة إنسان هياب بشكل مبالغ فيه، وهو يعرف بملابسه السوداء وبسحنته الذليلة والماكرة، في حين تخرج زوجته بدون حجاب واضعة على رأسها منديلا من القطن الأبيض، كما أنه يتكلم العربية بنبرة قشتالية… “(ص ص. 460-461).
وبموازاة هذا الوصف التشخيصي، حرص مولييراس على تقديم حصيلة تنقيباته في الإسطوغرافيات التاريخية الكلاسيكية، بشكل سمح له بتضمين عمله وصفا كرونولوجيا عاما ميز تاريخ مدينة أصيلا منذ بداية الفتح الإسلامي، وإلى حدود العقود الأخيرة من القرن 19. وعلى الرغم من الأخطاء التاريخية والطوبونيمية والجغرافية والبشرية التي ارتبطت بالوصف العام الذي احتواه كتاب مولييراس، وإلى جانب –كذلك- بعض الأخطاء الجزئية للترجمة العربية والتي لا تنقص من قيمة العمل في شيء، من قبيل الإشارة إلى كتاب “نزهة الهادي” عوض “نزهة الحادي” (ص. 465) أو الإشارة إلى “الفزيقوط” عوض “القوط” (ص. 551) أو ذكر قبيلة “الفحاص” عوض “الفحص” (ص. 476) أو كتاب “نشر المتاني” عوض “نشر المثاني” (ص. 561) أو سيدي المندري عوض سيدي المنظري (ص. 165)، فالكتاب يقدم ذخيرة هامة من المعطيات غير المتداولة ولا المعروفة لدى الباحثين. لذلك، أمكن القول إن صدور الترجمة العربية قد ساهم في سد فراغ هائل ظل يعتري أوجه تعاطي المؤرخين مع تحولات ماضي منطقة جبالة، تاريخيا وإثنوغرافيا وسوسيولوجيا، بأصقاعها الممتدة وبمراكزها وبقراها وبقبائلها وبمدنها التي تؤثث فضاءاتها التاريخية المميزة.