” المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب “
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( )
وتعود أسباب تفرد هذا الكتاب في قيمته التاريخية والعلمية إلى ما يزخر به من معطيات ومعلومات مدققة وواضحة نكاد لا نجد مثيلا لها لدى الجغرافيين العرب الذين عاصروا البكري أو سبقوه. فالعمل جديد في زمنه، مجدد في طريقة سرده للمعطيات وفي ضبطه للأعلام المكانية والبشرية. واعتبارا لذلك، فقد اهتم به الباحثون والمؤرخون منذ القرون الماضية وجعلوه يتحول إلى إحدى أهم المصادر التاريخية والجغرافية التوطينية لبلاد الغرب الإسلامي، بما فيها منطقة شمال المغرب الحالي. واستمر نفس الاهتمام لدى الكتاب المعاصرين حيث لا يمكن الحديث عن الحدود الجغرافية لبلاد المغرب بدون الاعتماد على الوصف الهام الذي خلفه البكري، بل إن الأوربيين أنفسهم قد اهتموا بالكتاب وأخذوا في الاعتماد عليه لاستيقاء معلوماتهم حول المنطقة المدروسة خلال الفترة الوسيطية، وذلك على الأقل منذ صدور الطبعة العربية التي حققها الباحث الفرنسي دي سلان ( De Slane ) سنة 1837.
ولإبراز قيمة كتاب ” المغرب ” يمكن الاستشهاد بما كتبه الفقيه المرحوم محمد المنوني في مؤلفه الهام ” المصادر العربية لتاريخ المغرب ” ( ج. 1، ص. 20 )، حيث قال : ” … غير أن البكري … تبدو معلوماته عن هذه المنطقة أدق وأوسع (مقارنة ببقية الجغرافيين العرب)، فقد توفر على مصادر لم يطلع عليها الآخرون، هذا فضلا عن جــواره للمغرب الذي ساعده على الحصول على معلومات استمدها من تحرياته الخاصة. ومن هنا فهو يتوسع في الحديث عن الفتح الإسلامي، ويقدم أخبارا مهمة عن الدول الأولى التي قامت بالمغرب : بني مدرار بسجلماسة، وبني صالح بالريف، والأدارسة في باقي المغرب، هذا إلى أن البكري هو المصدر الأقدم عن تاريخ المرابطين في أيامهم الأولى، وهو لا يغفل أن يبرز أسماء الأعلام من الدول التي يعرضها، وبالخصوص علماء الأدارسة، كما يهتم بوصف المدن ومعماريتها واقتصادها وعاداتها، وكل هذه الميزات تجعل جغرافية البكري مصدرا بالغ الأهمية عن تاريخ المغرب في الفترة التي نقدمها “.
و بالنسبة لمنطقة شمال المغرب، يمكن القول إن كتاب ” المغرب ” يسد فجوات كبرى في معارفنا الجغرافية الوسيطية ويزيل طبقات الاضطراب والتناقض عن هذه المعارف حسب ما عكسته غالبية المصنفات الكلاسيكية التي كتبت قبل / أو خلال فترة تدوين البكري لمؤلفه، ونخص بالذكر تلك المعلومات المرتبطة بالحواضر الأساسية لشمال المغرب وكذا بمراكزه البشرية والتاريخية حسب ما سجله البكري بخصوص كل من أصيلا، وبادس، والبصرة، وبليونش، وتاهدارت، وترغة، وتشومس ( ليكسوس )، وزلول ( زيليس قرب أصيلا )، وتطاون، وجبل حاميم، وجبل حبيب، وحجر النسر، والدمنة، ورهونة، وسبتة، وسوق كتامة، وشفشاون، وصدينة، وصرصر، وطنجة، وغمارة، والقصر، وكرت، وكزناية، وواد لاو، والمزمة، وبني مسارة، ومليلة.
وفي كل هذه المواقع، ظل المؤلف حريصا على تقديم وصف جغرافي شامل، قاعدته معرفة دقيقة بالمنطقة المدروسة – في حدود معارف المرحلة بطبيعة الحال -، وسعي إلى تقديم متن سردي شيق يزاوج بين ضرورات الكتابة الجغرافية الصارمة، وبين العمق التاريخي الضروري لفهم الكثير من تحولات الظواهر الطبيعية والبشرية، وبين النفس الأدبي / اللغوي الذي يعطي للغة العربية قيمتها الإجرائية باعتبارها أداة للتواصل أولا، ثم وعاءا لتصريف مختلف أنواع المعارف والعلوم ثانيا. ولتوضيح هذه القيمة العلمية التي اكتساها كتاب ” المغرب “، يمكن الاستدلال ببعض مما كتبه المؤلف بخصوص مدينة أصيلا، حيث يقول :
” … ومدينة أصيلة أول مدن العدوة من جانب الغرب، وهي في سهلة من الأرض حولها رواب لطاف والبحر بغربيها وجوفيها وكان عليها سور له خمسة أبواب وجامعها خمسة بلاطات. وإذا ارتج البحر بلغ الموج إلى حايط الجامع. وسوقها حافلة يوم الجمعة، وماء آبار المدينة شريب وبخارجها آبار عذبة : بير عدل وبير السانية وآبار كثيرة. ومقبرتها في شرقيها ومرساها مامون، والمدخل إليه من الشرق، ويستدير بالمرسى من ناحية الجنوب جسر من حجارة مخلوقة تكف عن السفن المرفأة فيها هيجان البحر. ومدينة أصيلة محدثة، وكان سبب بنيانها أن المجوس خرجوا في مرساها مرتين … فاتخذ الناس موضع أصيلة رباطا فانتابوه من جميع الأمصار وكانت تقوم فيه سوق جامعة ثلاث مرات في السنة وهو وقت اجتماعهم وذلك في شهر رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء، وكان الموضع ملكا للواتة فابتنى فيه قوم من كتامة واتخذوه جامعا. وتسامع الناس أمرها من الأندلس وأهل الأمصار، فقصدوها في الأوقات المذكورة لضروب السلع وخيموا فيها، ثم بنوا شيئا بعد شيء فعمرت. فقدمها القاسم بن إدريس بن إدريس فملكها وبنى سورها وقصرها وبها قبره … ” ص ص. 111 – 112 ).
وعلى الرغم من الأخطاء التي وقع فيها البكري فيما يتعلق بوصف بعض البلدان وتحديدها، وهي الأخطاء التي نجدها مدرجة بشكل دقيق في كتاب ” رحلة العبدري ” ( ص ص. 158 – 159 )، فالمؤكد أن كتاب ” المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ” يظل أهم مصدر إسطوغرافي وجغرافي طبع مرحلة العصور الوسطى المغربية وخاصة خلال المرحلة التي ارتبطت بتفكك أجهزة دولة الأدارسة وبانفراط عقد وحدة البلاد.
وتزداد هذه المسألة أهمية، إذا علمنا أن البكري لم يكن يكتفي بإدراج المعطيات الداخلية، ولكنه ظل يوسع دائرة الوصف والتحليل وإبداء الرأي في قضايا محلية عبر الكشف عن أشكال تقاطع عناصرها المختلفة التي تتجاوز الحدود الضيقة لمنطقة شمال المغرب، لتؤثر / وتتأثر بالمسار التاريخي العام الذي تحكم في تطور الأوضاع بعموم منطقة شمال إفريقيا وحوض الحر الأبيض المتوسط وذلك خلال فجر العصور الوسطى.