” المغرب وإفريقيا في سياق كشوف العوالم الجديدة “
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( كتابات في تاريخ منطقة الشمال )
وفي إطار هذه الحملة الشرسة، سقطت العديد من الثغور المغربية في يد الاحتلالين البرتغالي والإسباني وذلك منذ مطلع القرن 15 م، في محاولة لاستكمال مشاريع حروب الاسترداد الصليبية ونقل الحرب إلى ” الأرض الإسلامية ” وذلك في سياق البحث عن توفير شروط الانتقال ” الحضاري ” من ظلام الفيودالية إلى أنوار الرأسمالية. والملاحظ – في هذا الباب – أن ضربات الاحتلال الإيبيري الأولى قد كانت من نصيب ثغور منطقة الشمال ( سبتة، القصر الصغير، أصيلا، طنجة، مليلية، … )، مما جعلها تقفز إلى سطح الأحداث ليس فقط بسبب سلخها عن جسدها المغربي، ولكن – كذلك – بالنظر لقوة المقاومة الجهادية الضارية التي قادتها قبائل المنطقة من أجل تحرير الثغور. وإذا كان لعامل القرب الجغرافي دورا حاسما في تسهيل مأمورية الاحتلال بالنسبة للإسبان وللبرتغال، فإن ما تكبده المحتلون من خسائر مادية وبشرية فوق أرض شمال المغرب قد ظل عنصرا حاسما في تقويض حلم ” تنصير إفريقيا ” وكذا في إفشال مشاريع إنشاء الإمبراطورية البرتغالية الإفريقية الكبرى التي كانت دولة البرتغال تسعى – من خلالها – إلى تحويل منطقة الشمال إلى رأس الحربة في عمليات الغزو وفي جهود تنظيم التجارة البعيدة المدى مع منطقة غرب إفريقيا، مركز الذهب والعاج والعبيد. واعتبارا لهذه الخصوصيات، فقد خلفت المصنفات والحوليات التاريخية البرتغالية كتابات عديدة ووثائق زاخرة تلقي أضواء كاشفة على مجمل علاقات هذه الثغور بدولة البرتغال خلال العصور الحديثة.
وبالنسبة للبحث التاريخي المعاصر، فلازال الموضوع يستقطب اهتمام الباحثين البرتغاليين والمغاربة، إذ أنه لازال مثيرا للفضول العلمي ومحافظا على العديد من العناصر التي ظلت تضفي صبغة راهنية على مجالاته، خاصة وأن العديد من الشواهد الأثرية ما تزال قائمة وأن مظان الوثائق الأساسية لاتزال غميسة وأن أسس التلاقح الحضاري بين العالمين لا تزال متجددة. ومن دون العودة للتذكير بأهم الأسماء التي اشتغلت حول هذا الموضوع القديم / المتجدد، نكتفي بالقول إن الأستاذ أحمد بوشرب يظل أحد أبرز الباحثين المعاصرين المتخصصين في تاريخ العلاقات المغربية البرتغالية وخاصة خلال المرحلة المعروفة بمرحلة ” الغزو الإيبيري “. وتعود هذه المكانة العلمية التي شيدها الأستاذ بوشرب، إلى قيمة ما أنجزه من أطروحات جامعية ودراسات أكاديمية ومساهمات متخصصة، ساهمت في إعادة تقييم موضوع العلاقات المغربية البرتغالية خلال فترة العصور الحديثة الممتدة – بشكل خاص – ما بين القرنين 15 و17 الميلاديين. وقد بلور ذلك في إطار أعمال رصينة حاولت تلمس حيثيات الاحتلال البرتغالي لأجزاء من التراب الوطني، مركزا على فهم أسبابه العميقة وعلى رصد آلياته الاستيطانية، ثم على تتبع نتائجه البعيدة المدى على مسار تطور الأوضاع بضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية. وفي كل ذلك، ظلت أطروحات الأستاذ بوشرب وأعماله تنهل من رصيد بيبليوغرافي غني ومتنوع، أساسه إلمام واسع بمظان الكتابات الأسطوغرافية الكلاسيكية المغربية والبرتغالية للمرحلة المعنية ثم للفترات الموالية والراهنة، وكذلك تنقيب في وثائق محلية وأخرى برتغالية لازال القسم الأكبر منها غميسا وموزعا بين دور الأرشيفات الإيبيرية بوجه خاص. وبذلك نجح الأستاذ بوشرب في تعزيز الدرس الجامعي حول موضوع ” الغزو الإيبيري ” وفي تدعيم المكتبة الوطنية برصيد هام من الأعمال التنقيبية التي لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها عند محاولة فهم ملابسات الصراع المغربي البرتغالي عند فجر مرحلة الاكتشافات الجغرافية الأوربية الكبرى، وذلك في أبعاده الاقتصادية والعسكرية والسياسية والحضارية المتشعبة.
في إطار هذا الاهتمام الأكاديمي المتجدد، يندرج إصدار الأستاذ أحمد بوشرب لكتابه ” المغرب وإفريقيا في سياق كشوف العوالم الجديدة ” ( باللغة الفرنسية ) وذلك سنة 1992، في ما مجموعه 43 صفحة من الحجم المتوسط وبلغة علمية راقية أضفت قيمة متميزة على هذا العمل. والكتاب – في الأصل – عبارة عن نص محاضرة كان قد ألقاها المؤلف بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوم 26 نوفمبر 1992، في إطار أنشطة كرسي التراث المغربي الإفريقي المشترك، وحرص معهد الدراسات الإفريقية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط على نشر مضامينها بالنظر لتقاطعها المباشر مع جوهر الاهتمامات والانشغالات العلمية للمعهد المذكور. والحقيقة إن هذا العمل، يقدم أهم خلاصات الاجتهادات التي سبق للمؤلف أن طورها في إطار دراساته الجامعية المتعددة. فهو بذلك يمنح للقارئ إمكانية الوقوف على الخطوط العامة لتخريجات الأستاذ بوشرب وحول أطروحاته المركزية بخصوص موضوع الغزو الإيبيري، كما أنه يكشف عن مختلف أوجه غنى المادة المصدرية والوثائقية وكذا عن تعددها وعن آليات استغلالها وتوظيفها ليس فقط لرصد أوضاع المغرب خلال القرون الحديثة، ولكن – كذلك – لتوضيح السياقات الدولية التي تحكمت في المسار العام للأحداث خلال المرحلة المذكورة.
لقد استهدف المؤلف من وضع هذا الكتاب، تأكيد وجهة نظره حول تكامل الغزو البرتغالي للمغرب – الذي انطلق عمليا باحتلال سبتة -، مع الاكتشافات الجغرافية الأوربية التي همت منطقة غرب إفريقيا، وكذا على ارتباط هذه الوقائع مع بعضها البعض وعلى تفاعلها مع مجمل الأوضاع الجيوستراتيجية العامة والتي تحولت معها الثغور المغربية إلى نقاط ارتكازية أساسية بالنسبة للغزو البرتغالي لكل منطقة غرب إفريقيا. لذلك، فقد حاول المؤلف تبيان أوجه علاقة ذلك التفاعل والتأثر المتبادلين مع الأهمية التجارية القصوى التي أصبحت تكتسيها السهول الساحلية المغربية بالنسبة للبرتغاليين عقب بداية هيمنتهم على الطرق التجارية الأطلنتية وتنظيم التجارة مع منطقة غرب إفريقيا. فلكي يحصل البرتغاليون على التبر والعبيد بمراكز بلاد السودان الغربي التي شيدوها بعد اكتشافهم للمنطقة، كان عليهم عرض مجموعة كبيرة من المواد المغربية التي كان يجمعها وكلاء الملك البرتغالي من مختلف الموانئ المغربية مثل آسفي وأزمور. من هذه المواد يمكن أن نشير إلى الحبوب والخيول والحنابل والحياك والنحاس. ولكي يفرض البرتغاليون نفوذهم على هذا المجال الجغرافي الإفريقي الواسع، فقد سعوا إلى احتكار المناطق المكتشفة بمنع كل أشكال التنافس الأوربي حولها، كما سعوا إلى خنق الموانئ المغربية والقضاء على تجارة القوافل الصحراوية وذلك عقب اتصالهم بزعماء مملكة مالي وسعيهم الحثيث إلى تحويل الطرق التجارية من المناطق الصحراوية المغربية إلى المراكز البرتغالية المشيدة على الساحل الإفريقي وخاصة مركز أرغين المشيد بالساحل الموريتاني.
وإضافة إلى هذا الرصد التاريخي لتطور الوقائع، اهتم المؤلف بتوضيح مظاهر الاستفادة البرتغالية الواسعة من هيمنتها على الثغور المغربية المحتلة – وتحديدا ثغور منطقة الشمال مثل سبتة وأصيلا وطنجة وثغور منطقة دكالة وعلى رأسها أزمور ومازغان – في علاقة ذلك بالنجاح الكبير في استكشاف منطقة غرب إفريقيا. وإذا كان المؤلف قد ركز طويلا على تبيان مختلف مظاهر هذا النجاح، فإنه قد انتبه – في المقابل – إلى أن هذه الاستفادة لم تكن أبدية، ذلك أن الشرفاء السعديين الذين انطلقوا خلال القرن 15 م من منطقة سوس، قد نجحوا في إفشال المخططات البرتغالية بالمنطقة، ليس فقط على المستوى العسكري والسياسي ولكن – كذلك – على المستوى التجاري، وهو الوضع الذي وصفه المؤرخ البرتغالي كودينهو ب ” انتقام القافلة من الكرافيلا “، وضع أدى إلى إلحاق ضربات عسكرية موجعة بالمصالح البرتغالية بأكادير وآسفي وأزمور وأصيلا والقصر الكبير. وفي نفس السياق كذلك، لم يغفل الأستاذ بوشرب الوقوف عند انعكاسات تنامي عمليات التهريب الواسعة التي عرفتها مختلف أرجاء الإمبراطورية البرتغالية وكذا ازدياد خطورة عمليات القرصنة التي استهدفت الأسطول البرتغالي ونجحت في تقويض الكثير من عناصر قوته وهيمنته على البحار والمحيطات المكتشفة. وفي الأخير، قدم المؤلف خلاصة الانعكاسات الخطيرة التي ترتبت عن الاحتلال البرتغالي لأجزاء من بلاد المغرب ومن إفريقيا السوداء، انعكاسات لا يمكن إلا التأكيد على مسؤوليتها المباشرة في تأزيم أوضاع هذه المناطق وفي تأجيج تناقضاتها البنيوية وفي استنزاف خيراتها المادية والبشرية بشكل ظلت تعاني من تبعاته السلبية إلى يومنا هذا.
وعموما، يتضح أن الكتاب يقدم معلومات مكثفة حول موضوع الغزو الإيبيري لبلانا، بشكل يسمح بالاطلاع على مجمل خلاصات اجتهادات الأستاذ بوشرب في هذا المجال ومن ربطها بجهود الباحثين المغاربة المعاصرين والهادفة إلى إعادة التأسيس لتوجهات علمية بديلة في التعاطي مع قضايا الاحتلال البرتغالي لأجزاء من أراضينا خلال القرون الحديثة. وعلى مستوى آخر، يمكن القول إن خلاصات الأستاذ بوشرب حول تطور أوضاع المغرب خلال الفترة التاريخية المعنية، تبين أم الأمر لم يكن مرتبطا بمشاكل سياسية وعسكرية محصورة في الزمان وفي المكان، بل بقضايا دولية كبرى ظل المغرب يمتلك بعض عناصرها ومفاتيحها الأساسية التي تحكمت في التطورات العامة للأحداث بمنطقتي حوض البحر الأبيض المتوسط وغرب إفريقيا..