بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الرئيس، السادة الأساتذة المحترمين، سيداتي سادتي:
تلقيت دعوة كريمة من الدكتور السيد “امحمد ابن عبود”، للمشاركة في هذه الندوة العلمية التي ينظمها «مركز الدراسات والتوثيق حول شمال المغرب»، تتناول مكتبات تطوان العامة والخاصة.
وإني، إذ اشكر الدكتور على هذه الدعوة الكريمة أكبر فيه هذا الاهتمام بهذه المؤسسة العلمية العتيدة -مكتبة تطوان- وباقي مكتبات المدينة العامة منها والخاصة، كما أثمّن هذا النشاط الدؤوب الذي يقوم به ضمن فئة مؤمنة ملتزمة… (إنهم فتية آمنوا بربهم، وزدناهم هدى…).
فهنيئا له بهذه الحركة العلمية، وهذا النشاط المتميز، وهنيئا لهذه المكتبة، وباقي المكتبات بهذا الاعتناء والمتابعة، والبحث في مدخراتها وتراثها، وهنيئا لتطوان بهذا المركز الذي ما فتئ من حين لآخر يقيم هذه الندوات، وهذه اللقاءات، وينتقي لها صفوة الباحثين والأساتذة من داخل الوطن وخارجه.
سيداتي سادتي: كان من الطبيعي أن ألبي هذه الدعوة، وأسجل للتاريخ شهادة لصالح هذه المعلمة – التي تشرفت بالقيام على إدارتها – تستند على عمل ميداني قمت به في حقبة زمنية، أعتقد أني اجتهدت فيها قدر المستطاع، لأدلي بدلوي، وأواصل الرعاية والصيانة لما استلمته من تراث إنساني متنوع، وما تكتنزه هذه المؤسسة من مدخرات ومعارف على اختلاف لغاتها، ودياناتها، ومذاهبها، وما تمتلكه من رصيد علمي هام، ومتنوع من الكتب والمخطوطات والوثائق والصحف والمجلات والدوريات والصور والخرائط والمسكوكات، لهذا تعتبر هذه المكتبة من جهة ثرائها وتنوع رصيدها في الرتبة الثانية بعد الخزانة العامة في الرباط، ولا يمكن لأي باحث أصيل في المجالات المتعلقة بهذه المنطقة من الناحية الجغرافية أو التاريخية أو الاجتماعية أو المرتبطة بالعلاقات المغربية الإسبانية والعالم الإيبيري واللاتيني أن يستغني عن زيارتها.
سيداتي سادتي:
بعد الاطلاع على برنامج هذه الندوة، وجدت الموضوع الذي اقترحته اللجنة المنظمة هو: “المكتبة العامة كما عرفتها”.
وبالرغم من أن الموضوع المقترح، لم يكن لي فيه رأي، ولا تدبير، فإني سأتناوله، مركزا على ما عرفته هذه المؤسسة أيام عملي بها من حركة واهتمام، أهّلها بأن تكون ضمن المشاريع المزمع إنجازها في إطار التعاون الذي تم الاتفاق عليه في اجتماع اللجنة المختلطة المغربية الإسبانية.
كان التحاقي بالمكتبة – باقتراح من الأخ الأستاذ السيد “المهدي الدليرو -” وهكذا تمت دعوتي من طرف السيد وزير الشؤون الثقافية الدكتور “سعيد بلبشير”، حيث استقبلني واتفقت معه على أن يكون تكليفا زائدا على عملي الأصلي كأستاذ بكلية أصول الدين بتطوان.
وفي يوم 16 يونيو 1982، تم تنصيبي كمحافظ لهذه المؤسسة في حفل رسمي بعمالة تطوان، كما تمّ في نفس اليوم تنصيب الأستاذ الأخ السيد “عبد الواحد أخريف” مندوباً لوزارة الشؤون الثقافية بالإقليم، وقد استمر هذا التكليف إلى 14 فبراير 1997، حيث استلمتُ رسالة شكر وتنويه من السيد وزير الشؤون الثقافية الأستاذ “محمد الأزماني” يعلمني فيها بانتهاء عملي.
ولنرجع إلى موضوع المداخلة «المكتبة العامة كما عرفتها». استلمت مهمتي – كتكليف إضافي كما قدمت- في ظروف متميزة كانت تعيشها هذه المعلمة الثقافية، ذلك أن الأخ الأستاذ “المهدي الدليرو” الذي كان محافظا للمكتبة، عينته الوزارة مندوبا لها في الإقليم الذي كان يضم إقليم تطوان وشفشاون والعرائش، في أول مندوبية لها بهذا الجزء من المملكة، وكان عليه أن يضطلع بهذا العمل في مرحلة إنشاء هذه المندوبية، بينما بقي محتفظا بمهمته الأولى كمحافظ للمكتبة التي شهدت في عهده تنظيما وتحديثا لأقسامها المختلفة، كما عمل – مشكورا – على جلب بعض الأطر المختصة، والمطلعة من المصالح الأخرى للإشراف على قسم المخطوطات والوثائق السلطانية، هذا القسم الذي عرف حركة وانتعاشا كان له الأثر على سمعة هذه المكتبة وإشعاعها، كما عرفت المكتبة في عهد الأستاذ “الدليرو”، حركة نشر لبعض الوثائق والفهارس؛ بحيث لم يجد الخلف الذي جاء بعد التحاق الأستاذ “المهدي” بمهمته الجديدة بالرباط أية صعوبة فيما يرجع لتنظيم الأقسام، وتحديثها، مع الرعاية التامة، والصيانة الكاملة، والغيرة على هذا التراث التي يسجلها التاريخ للأخ الأستاذ.
استلمت عملي بالمكتبة، فكان علي أن أحافظ على ما قام به سلفي، وأقوم على رعايته، وصيانته، والسعي في فتح آفاق جديدة لأشركها في اهتماماتي بهذه المعلمة، وقد سبق لي في مناسبة أن قلت: إنّ الاعتناء بهذه المؤسّسات وتعهدها بالدعم الكامل والرعاية الدائمة، دليل على مدى نضج الأمة، وتفهمها لرسالتها الحضارية، ولا يمكن أن نوقف هذه العناية والرعاية على الجهات المعنية فحسب – وإن كانت مدعوة إلى ذلك وقبل أي أحد- وإنما ينبغي أن يتعدى ذلك إلى كل من يحمل حسا حضاريا مهذبا، يدفعه إلى أن يساهم بدوره في تأمين هذه المسيرة الحضارية.
»وإننا برجوعنا إلى تاريخنا الذهبي، وماضينا العريق، وجذورنا الأصيلة، نری کیف كان أصحاب… من ذوي اليسار، والحس الحضاري، والطبع المهذب، يتبارون في انتشاء الخزانات العلمية، وتزويدها بأمهات المصادر، خدمة للمعرفة، والعمل على صيانتها، وتأمين سيرها، حتى تؤدي رسالتها على أكمل وجه، وهذا من العمل المبرور الذي لا ينقطع ثوابه إن شاء الله.
لقد تزامن تشريفي بالقيام على شؤون هذه المكتبة، إنشاء نواة للجامعة، متمثلة في كليتي العلوم والآداب الإنسانية بتطوان، وتحقق بهذه النواة المطمح الذي حملت همه الصفوة المستنيرة في هذه المدينة، التي بذلت ما في وسعها لتحقيقه، حتى كلل النجاح مسعاها ولله الحمد، ثم جاء بعد ذلك إنشاء الجامعة التي نرجو أن تكتمل كلياتها، وتتنوع حسب ميادين المعرفة.
لهذا، كان لزاما علي أن أعيد النظر في العمل داخل المكتبة حسب الظروف الجديدة.
وكانت المكتبة، تستقبل الأطفال والتلاميذ والطلبة والباحثين، وكانت كل فئة تجد مبتغاها، إلا أنه سرعان ما تبين للإدارة أنه لابد من إعادة النظر في ذلك، بعدما انتشرت المعاهد والإعداديات، فاضطررنا آسفين على الاقتصار على تلاميذ السلك الثاني من الثانوي، وطلبة الجامعة، كما اضطررنا فيما بعد إلى قصرها على تلامذة السابعة، وطلبة الجامعة، وقد راسلت السيد مندوب وزارة التربية الوطنية في ذلك، والسادة مديري الثانويات والإعداديات قبل القدوم على هذا الإجراء، بأن يعملوا على تنشيط المكتبات داخل مؤسساتهم، حتى يخف العبء عن هذه المكتبة، وحتى نوفر الجو الملائم الهادئ للأستاذ الباحث، والطالب الجامعي.
كما قمت بمساعي مع السلطات المحلية للبحث عن حل مشكل الاكتظاظ، والإقبال المتزايد، وذلك بتوسيعها وإعادة هيكلتها.
حضرات السيدات والسادة:
إن الفترة التي قضيتها في هذه المؤسسة، والتي عملت فيها قدر المستطاع على إبرازها، والتعريف بها، وتسهيل الخدمات لروادها، ما كانت لتنتج على أحسن وجه، لولا الخدمات التي تلقتها هذه المكتبة من جهات متنوعة، فلئن كانت وزارة الشؤون الثقافية لا تألو جهدا في الدعم، والرعاية، وتزويدها بما جد في عالم… وتعهدها، فإنه من باب الاقرار بالفضل لأهله، والاعتراف بالجميل، أن نسجل هنا الخدمات الجليلة، والدعم المستمر الذي كنا نتلقاه من السلطات المحلية، والمجلس البلدي، ذلك أنه كلما حزنها أمرا، إلا وبادرت بالاتصال بهذه الجهات التي ما خيبت ظنا، ولا أرجأت طلبا سواء؛ تعلق الأمر بمدها يد العون في إطار الإنعاش، أو تحملها لنفقات، وبذل مساعدات.
كما لا يفوتني هنا، وبهذه المناسبة، أن أثمن المساعدات القيمة، والخدمات المتميزة التي تلقتها هذه المكتبة من ذوي الأريحيات في هذه المدينة، الذين كانت لمساعدتهم أكبر الأثر في تأمين عملها، وتنظيم وثائقها، ومحتوياتها، وتجهيز مكاتبها، فإلى هؤلاء أرفع تجديد شكري، منوها بعملهم النبيل، والذي سبق للسيد الوزير أن نوه به في رسالة بعثها إليهم.
حضرات السيدات والسادة:
لا يفوتني هنا، أن أسجل أنه في مدة عملي بهذه المكتبة، وإشرافي على تسييرها، فتحت آفاق جديدة للتعاون والاهتمام بهذه المؤسسة، وذلك على المحيط الدولي في إطار مشروع التعاون المغربي الإسباني؛ حيث أدرج موضوع «إصلاح وتطوير المكتبة» ضمن برنامج عمل اللجنة، وقد قطع المشروع مراحل عدة، ابتداء من اللجنة المختلطة المغربية الإسبانية بتاريخ 25-24 أبريل 1995 بمدريد، إلى أن تم التوقيع على الاتفاق بين السيد وزير الشؤون الثقافية الأستاذ “محمد الأشعري”، وسفير إسبانيا بالمغرب السيد “خورخی دیرگدلا”، يوم الجمعة 12 فبراير 1999، بإعادة التهيئة والترميم للمكتبة العامة والأرشيف بتطوان. كما تمت اتفاقية شراكة للمجموعة الحضرية في دورتها لشهر فبراير 1999، حيث صادقت على بعض الاتفاقيات لتطوير عمل المجموعة الحضرية مثل: الشراكة مع وزارة الشؤون الثقافية، تتعلق بالمساهمة في إصلاح وترميم بناية المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان.
وإني أرى من المفيد لـ «مركز التوثيق والدراسات حول شمال المغرب» أن أذكره بهذه المراحل، والتي تمت أثناءها زيارة لي إلى بعض المؤسسات الثقافية بمدريد، نظرا لارتباط هذه الزيارة بمشروع المكتبة؛ حيث أبرزت في كل لقاء أو مؤسسة زرتها أهميتها، سيما وأن الوفد الإسباني الذي كان زار المكتبة قبل زيارتي لمدريد، ووقف على أقسامها كان من بين الذين اجتمعت معهم في وزارة الثقافة بمدريد.
فضمن برنامج عمل اللجنة المختلطة المغربية الإسبانية، قام وفد رسمي مكون من السادة: مدير «معهد سيرفانتيس» بتطوان، والسيدة المديرة المساعدة لأرشيف الدولة الأسبانية، ورئيس قسم البيبليوغرافيا بنفس الأرشيف، للاطلاع على وضعية المؤسسة، ودراسة محاور التعاون، وتحديد الأولويات، ومثل الجانب المغربي كل من السادة: مدير الكتاب والمكتبات بالوزارة، ورئيس قسم المكتبات، ومندوب الوزارة بتطوان، إضافة إلى محافظ الخزانة.
وفي أعقاب الزيارة الميدانية لأقسام المكتبة، لم يخف الوفد الإسباني إعجابه بالأهمية البالغة لمحتويات المكتبة، وكذا بالمجهودات المبذولة من أجل تسهيل سبل البحث للقراء والباحثين ضمن الإمكانيات المتاحة.
وبعد الوقوف مباشرة على قسم الأرشيف بالمكتبة، عبر الوفد الإسباني على اهتمامه البالغ بهذا الرصيد الهام والغني، خصوصا وأن الأرشيف الموجود بالمكتبة، والمتعلق بعهد الحماية يشكل أكثر من % 55 من مجموع الرصيد العام لهذا الأرشيف، والذي لا يوجد منه بمدريد إلا ما يمثل أقل % 45. وتوجت هذه الزيارة بإعداد محضر يتضمن النقط التي سيمثلها التعاون المرتقب.
ونظرا للأهمية القصوى التي يشكلها هذا الأرشيف أكد الطرف الإسباني على ضرورة التعاون قصد حمايته وحوسبته حتى يتسنى لنا جميعا الاستفادة من هذا الرصيد الموجود في المغرب أو من الجزء الموجود منه بإسبانيا.
وفي إطار تبادل الزيارات والاطلاع على أرشيف الدولة العام بإسبانيا تم اقتراح دعوة محافظ المكتبة والسيد مندوب الوزارة بتطوان للقيام بزيارة لمجموعة من المؤسسات الثقافية بمدريد قصد الاطلاع على ما وصلت إليه تجربتهم في هذا المجال وذلك في منتصف دجمبر 1995”.
وفعلا، فقد تمت زيارة عمل إلى مدريد، قمت بها صحبة الأستاذ السيد “حافظ الزواقي” مندوب الوزارة بتاريخ 19-22 دجنبر 1995، وذلك من أجل زيارة بعض المؤسسات الثقافية، والاطلاع على التجربة الإسبانية في هذا الميدان، وتتبع ملف التعاون المذكور، ففي اليوم الأول من الزيارة 1995/12/19 وعلى الساعة 9 صباحا، توجهنا إلى وزارة الثقافة الإسبانية؛ حيث اجتمعنا بالسيدة المديرة العامة المساعدة للأرشيف الإداري للدولة التي كانت في انتظارنا حسب البرنامج المرسوم للزيارة.
يتبع….
ذ. العلامة عبد الغفور الناصر