تقديم:
يسرّ هيئة جريدة الشّمال، أن تعيد -من خلال هذه الحلقات- نشر هذا النّص السّردي المتعلّق بقصّة فتاة مغربيّة كانت لها مكانة في البلاط الإسماعيلي، نسجتها من خيوط التّاريخ والخيال، الدّكتورة آمنة اللوه رحمها الله، والذي نالت به جائزة المغرب للآداب عام 1954م.
(6)
تابع…
مـع الـفـرات
عاشت خناثة قريرة العين بولدها معقد آمالها ومناط أحلامها، غير أن الحياة لا تخلو من مكدرات؛ فإن هذا الولد الذي أصبح مصدر غبطة أمه وهناءتها قد غدا مع الأيام مصدر أتعاب ومنغصات يجرها عليها من طريق غير مباشر. فقد كانت الضرات لا يحفلن كثيرا بالسيدة الجديدة ولا بمنزلتهـا السامية عنـد مولاهن حاسبات أن أمرها لا يعدو أن يكون سحابة صيف، فتمضى كما مضت أخريات. بيد أن رأيهن قد تغير منذ رأین ولدها عبد الله يدرج في مهاد العز ويتقلب في أحضان النعيم، وأمير المؤمنين يخصه بعناية ليست لغيره ويدلله “اكثر من اللازم”، على رأيهن. قالت قائلة منهن: إنه يريده ولي عهده، ومن يكون بذلك أحق من ابن خناثة ! وقالت أخرى: إنها من الصحراء، والعرق دساس (تشیر إلی أن أم إسماعيل صحراوية أيضا، وقالت عربية من الشاوية: لم يبق لي لمع بعد اليوم، كنت أمنّي نفسي أن أرى ابنى محمدا يخلف أباه، ولكن الدهر قلَّب والبرق خُلب … ويل لك يا خناثة ! وويل لابنك من ابني ! وقالت أخريات مثل قولها، فأجمعن أمرهن وفزعن ذات ليلة إلى كبراهن يسألتها الرأى والمشورة، فقالت لهن: هون عليكن فان حبلي طویل و کیدي متين … فلن تلبث أن ترين أم عبد الله تخرج على بعير يحملها وابنها الى سجلماسة إلى غير رجعة !
إن كيدهـن شـدیـد
ولم تكن خناثة نائمة عما يكاد لها، لقد شعرت بذلك وتوجست منه خيفة، إلا أن أخوف ما تخـاف هو أن يتحول عنها قلب الحبيب فإنه إذا تحول فلا مرد له. فباتت على حذر ثبث العيون وترهف السمع وترصد الأرصاد… حتى إذا كانت ليلة جاءتها صديقتها خناس بنبإ مهول نزل عليهما كاصاعقة، قالت تقصه:
- إنهن یا مولاتی یدیرن مكيدة ما دبر مثلها في الإسلام، أمدهن بها الشيطان الرجيم، فما أرانا ننجو منها یا سیدتی !
-
ما دبرن ؟ قولى ويحك !
-انهن دسسن على مولانا من يزين له بنت ملك فرنسا اللّعين لويس الرابع عشر !
- أو ترينه يفعل ؟
ـ أجل، إنه قد فعل، فقد جهز سفارة ستخرج غدا أو بعد غد قاصدة ديار الإفرنجة لهذا الغرض.
-أأنت متأكدة مما تقولین یا خناس ؟
-كل التأكد يا مولاتي، أبلغني إياه فيروز الصغير الذي يقف على رأس أمير المؤمنين، وأنـت تعلمين – سيدتى – أنه في صفنا صدوق أمين.
- فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.
خطة
مضت هنيهة وهول الخبر قد عقد السنتهما لا تتكلمان. وأخيرا
قالت الملكة:
- ومن هم أفراد السفارة ؟
-
على رأسهم القائد عبد الله الروسي ومعه مرجان الكبير وخواجة الترجمان.
إذن من حسن الحظ أن يكون بينهم خواجة الذي طالما أسدى إلينا الخدمات ولا أظنه يبخل اليوم بما تطلبه منه.
- حقا مولاتى، انه خير من يساعدنا وينقذنا من هذه الورطة. واذا أذنت لي دبرت معه الخطة.
لك ذلك، واحترسي.
- وفي تلك الليلة تسلل خواجة إلى حديقة القصـر… فهمست إليه الوصيفة بخطة ودسّت في يده ورقة مكتوبة وقالت: اجتهد أن يكون ما في هذه الورقة نص الكتاب السلطاني التي لويس… وإذا نجحت كانت لك يد طولى عند مولاتی۔
في قصر فرساي
خرجت السفارة في الموعد المضروب… ولما حلت بالديار الفرنسية وجدت أنباء الخطبة قد سبقتها وتناقلتها الألسنة بين محبذ ومنكر، ولزم رجال البلاط جانب التحفـظ أول الأمر ثم سايروا هوى عظيمهم الـذي أظهر القبول وبوادر الموافقة، وحتى الأميرة المخطوبة سرها أن تضع التـّاج الإفريقي على جبينها، وازدهاها أن تكون زوجة امبراطور عظیم خضعت له جبابرة أوربا وذلت أمامه رقاب ملوك العصر… فكان كل شيء مهيئا لإجابة الطلب وتلبية الرغبة.
فأقيمت حفلة رسمية بقصر فرساي المشهور لاستقبال البعثة المغربية طبق المراسم المتبعة شهدها رجال الدولة وكبار القوم. وكان لويس قائما في صرحه الممرد وعن يمينه الملكة وخلفهما الأميرة المخطوبة
الـرسـالـة
تقدم السفير المغربي في معية ترجمانه بالرسالة، فإذا نصها بعد الديباجة: “… الى عظيم جنس الفرنسيس لويس الرابع عشر، السلام على من اتبع الهدى وباعـد طريق الغي والردى.
أما بعد، فقد وجهنا اليك خديمنا الأرضى القائد الأنجد عبد الله الروسي في زمرة من خدام أعتابنا الشريفة وقصدنا بذلك أن نزيد العلائق بيننا وثوقا والـود رسوخا. وأنت تعلم أننا معشر المسلمين لا ينهانا ديننا عن ود من يوادنا بل هو يأمرنا أن تلقي السلم إلى من ألقاهـا لنا، وقد ظهر لنا من بعض أعمالك أنك رجل عاقل ترغب في مواصلتنا ومودتنا فرغبنا نحن أيضا في مواصلتك ومودتك بل رعبنا في مصاهرتك ومناسبتك. لذلك وجهنا إليك سفيرنا المذکور کي يتولى عن لساننا خطبة ابنتك جوليت التي ارتضيناها قرينة محظية لنـا إكراما لك ورفعـا لقدرك بين ملوك الأجناس. وقد فوضنا لسفيرنا المذكور أن يتولى عنا ما يتم به ذلك … والسلام على من اتبع الهدى”.
يريدها محظية
قدمت الرسالة بنصها العربي ثم ألقى الترجمان مؤداها بالفرنسية.. غير أن الحاضرين لحظوا انفعالا مفاجئا من الملك والملكة اذ أخذا يتساران في حركات عصبية… ثم لم يلبث أن انفض الحفل وتفرق الجمع في جو متوتر.
خرج القوم يتعثرون في أذيال الحيرة يذهبون مذاهب شتی فی تفسير ما حدث … ثم اتضح بعد حين أن الملك والملكة غضبا أشد الغضـب مـن لهجة الرسالة الجافة ولا سيما ما ورد فيها من أن المولى إسماعيل أراد ابنتهما جوليت «قرينة محظية». وزاد الطين بلة أن الترجمان الماكر تعمد أن يترجمها ترجمة لفظية أي «صاحبة سرية». فكبر الأمر على لويس وعد اتخاذ ابنته سرية إهانة شنيعة لم يستطع معها كظم غيظه حتى إنه هم بطرد السفير، ولكنه خاف العاقبة الوخيمة فاكتفى بأن أجاب بأن الطلب مرفوض رفضا باتا.
وحينما سمعت مكناس بالحادث استاءت له أشد الاستياء واعتبرته من تجبر الكفر على الاسلام ومن تكبر لويس المغرور المعتوه، ولم يبت تلك الليلة قرير العين في القصور الإسماعيلية إلاّ ملكتنا وصاحبتها اللتان حمدنا الله علـى أن كفـاهما القتال وردّ سهام الكيد في نحور الصويحبات.
عبد الله
إلا أن هذا الكيد جعل خناثة تدرك أن منزلتها السامية في الدولة تعرضها دائما لسهام الدس وأحابيل المؤامرات. فرأت أنها مضطرة للدفاع عن نفسها وولدها، ولم تكن من قبل تتمنى أن ترى ابنها يخلف أباه، ولكنها لما رأت الضرات يبيتن لها السوء قررت أن تنهز معهن بدلوهن وتقلب لهن ظهر المجن، فصارت تغذى ابنها بلبان الملك وترشحه لعرش المغرب. وهناك شيء آخـر خفي كان يدفع بها دائما إلى مثل هذه التصرفات وهو حرصها على الاحتفاظ بتلك السيادة التي نشأت عليها بالصحراء وركبت غاربها إلى هذه الديار وتسنمت ذروتها في البلاط فصممت على ألا تنزل عن سنامها ما بقي فيها عرق ينبض.
وأما عبد الله فقد شب وأدرك شأو الرجال، تفتح ذهنه للمعارف والآداب فأقبـل عليها فى شغف يأخذها عن أمه وعن أساتذة القصر. ثم ما عتم أن بزغ نجمه ولمع اسمه فاشتهر بين ‘خوته الأمراء بحب الفروسية والميل إلى المخاطرة وعظائم الأمور.