النفاق ..
جريدة الشمال – محمد كنــون الحسني (النفاق )
الجمعة 22 دجنبر 2017 – 16:31:11
النفاق هو الخداع وإظهار غير ما يبطنه الإنسان وهو نوعان: أحدهما نفاق الاعتقاد وذلك هو النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ويبطن ما يناقض ذلك أو بعضه، وهذا النوع من النفاق هو الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرءان بذمه وتكفير أهله والإخبار بأنهم في الدرك الأسفل من النار، لأن المتصفين به كانوا يعلنون الإيمان بألسنتهم ويخفون الكفر في قلوبهم ويقصدون من التظاهر بالإيمان خداع المسلمين ليشاركوهم في مغانمهم ويتخلصوا من القتل، ويتخذوا من إيمانهم الذي تظاهروا به ستارا يدسون من ورائه الدسائس ويثيرون الفتن بين المسلمين، وقد كشف الله سترهم وعرفهم للمؤمنين بسيماهم وأنزل فيهم سورة بأكملها تسمى سورة المنافقين، وأنزل ثلاث عشرة آية في سورة البقرة ذكر فيها خداعهم وكثيرا من قبائحهم، وفضح شرورهم وبين أنواعهم في معظم سورة براءة، وهذا النوع من النفاق ليس مرادا من حديثنا لأن الخصال المذكورة فيه قد توجد في غير المنافق في اعتقاده، وإنما المراد من النفاق في الحديث النوع الثاني من النفاق وهو نفاق العمل، وهو أن تكون علانية الإنسان حسنة وسره سيئا، وعلامات هذا النفاق كثيرة منها هذه الخصال المذكورة في هذا الحديث وهي أربع ويزاد عليها خامسة وهي الخيانة في الأمانة، وقد دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: “إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان” فتحصل من مجموع الروايتين أن خصال النفاق العملي خمس فمن وجدت فيه تلك الخصال كان منافقا تام النفاق، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق لا يزال موصوفا حتى يدعها، فإذا كان لا يجاهد نفسه كي يبعدها عنه ولا يبالي بها بعد إنذار الله له وتشديد رسوله ولم يتب إلى الله منها فليبشر نفسه بخاتمة السوء والعياذ بالله، وتلك الخصال هي:
• إذا حدث كذب أي إذا حدث غيره بحديث تظاهر بالصدق فيه وهو كاذب في الواقع، وذلك من أشد أنواع الخيانات ومن أخبث خصال النفاق، وقد روى أحمد وغيره مرفوعا: “كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت به كاذب”، وسئل صلى الله عليه وسلم أيكون المومن كذابا؟ قال لا، ثم تلا ” إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ “.
• قوله: “وإذا وعد أخلف”، هذه الخصلة الثانية من خصال النفاق وهي أن يعد المرء أخاه وفي نيته أن يخلف وعده، ولا يكون منافقا ذلك الذي يعدك وهو مصر على الإنجاز بما وعد ولكن عرض له مانع قهري اضطراري من أمور القدر الذي لا يعلمه إلا الله، وقد انتشرت هذه الخصلة بين الناس في هذا العصر حتى قل أن تجد من يوفي بوعده، وخلف الوعد من أفحش أنواع الكذب وأسوأها شرا في الحياة، وهو مظهر للاستخفاف بالناس لأن من كان يحترم غيره لا يخلف وعده له.
• قوله: “وإذا خاصم فجر”، هذه الخصلة الثالثة من خصال النفاق وهي أن يفجر الإنسان في خصومته أي يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا، فإذا كان الرجل ذا قدرة في الخصومة سواء أكانت خصومته في أمر دنيوي كالخصومة في الأمور المالية أو في أمر ديني كالخصومة في المسائل الخلافية، فانتصر للباطل وحاطه بشبه حتى يخيل للناس أنه حق واجتهد في إضعاف الحق حتى يخرجه في صورة الباطل، كان فعله من أكبر المحرمات وأخبث خصال النفاق والفجور في الخصومة، أثر من آثار الكذب لأن من كان كاذبا في حديثه وتمرن على الكذب حتى صار من سجاياه وطبائعه لا يتورع عند خصومته من الكذب والتدليس ولبس الحق بالباطل وقلب حقائق الأمور، وإلى كونه من ءاثار الكذب فهو باب من أبواب الفجور، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم “إياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور” وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على شدة بغض الله لمن فجر في خصومته وتعمد إخراج الحق في صورة الباطل أو أعان على ذلك، ففي الصحيحين مرفوعا: “إن أبغض الرجال إلى الله الألد، أي الشديد الخصومة بالباطل، الخصم، أي المولع بالخصومة الماهر فيها الحريص عليها”، وأخرج أبو داوود عن ابن عمر مرفوعا: ” من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع”، وفي رواية له أيضا: ” من أعان على خصومة ظلما فقد باء بغضب من الله”، وأخرج أيضا وابن حبان في صحيحه مرفوعا: ” مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذنبه”، والمعنى أنه وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا سقط في بير مهلكة فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على الخلاص”، وأخرج الطبراني مرفوعا: ” أيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة”، وأخرج أيضا وغيره مرفوعا: “من أعان على خصومة لا يعلم أحق أو باطل فهو في سخط الله حتى ينزع”، وأخرج أيضا مرفوعا: “من أعان ظالما فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقـد خرج مـــن الإسـلام”.
• قوله: “وإذا عاهد غدر”: هذه الخصلة الرابعة من خصال النفاق وهي عدم الوفاء بالعهد إذا كان فيما يجوز شرعا، فمن غدر في عهده كان متصفا بخصلة من خصال المنافقين، وقد أمر الله سبحانه بالوفاء بالعهد ونهى عن نقضه والغدر فيه فقال: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا . “، وقال:” وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ “، وفي الصحيحين مرفوعا لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ويدخل في ضمن العهود التي يجب الوفاء بها جميع عقود المسلمين التي تقع فيما بينهم إذا تراضوا عليها كعقود المناكحات والمبايعات وغيرها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله تعالى مما عاهد عليه العبد ربه كالنذور المشروعة وغيرها.
وهذه الخصال الأربع التي ذكرت في الحديث الشريف هي أعظم خصال النفاق ويزاد عليها الخيانة في الأمانة سواء أكانت بين العبد وربه كالتكاليف الشرعية التي ائتمن الله المكلفين عليها أو أمانة بين العباد بعضهم مع بعض كالودائع فمن ائتمن على وديعة وجب عليه ردها إلى صاحبها وإلا كان منافقا مجرما أثيما، قال تعالى: “إن الله يأمركم أن تؤذوا الأمانات إلى أهلها” وقال: “لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون”.
إن النفاق العملي يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية ومنه خشوع النفاق وهو أن يكون الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع، عن عمر رضي الله عنه قال: “من أظهر خشوعا للناس فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق”، وقال أيضا: “من تخلق للناس بما ليس خلقا له شانه الله”، ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملا ويظهر أنه قصد به الخير وهو إنما عمله ليتوصل به إلى غرض سيئ، فيتم له ذلك ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكي عن المنافقين أنهم ” اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ” وأنزل في اليهود قوله سبحانه: “لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ “فكل من قصد بعمل الخير غرضا سيئا كان عمله نفاقا ووبالا عليه، أخرج الطبراني في الأوسط مرفوعا: “من تزين بعمل الآخرة وهو لا يطلبها ولا يريدها لعن في السماوات والأرض”، وأخرج أيضا مرفوعا: “من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه ومحق ذكره وأثبت اسمه في النار”..