الهاشمي الطود.. ﺫاكرة المرحلة
الجمعة 28 أكتوبر 2016 – 17:41:13
لا أستطيع تمالك نفسي في التعبير عن تـأثُري الكبير بفاجعة رحيل المجاهد الهاشمي الطود يوم 16 أكتوبر الماضي، ولا يمكنني التعبير عن هول الألم الذي ألم بكل معارف الرجل وأوفيائه ومريديه. إنه ألم ناجم عن الاعتزاز الكبير الذي يحمله العارفون بخبايا حركات التحرير المغاربية بسيرة الرجل العطرة وبنضاله المثير في محطات عديدة غطت مساحات واسعة من أقطار العالم العربي. وتعود دوافع هذا الاعتزاز وهذا التقدير الكبيرين إلى مجموعة من العوامل المرتبطة بشخصية الهاشمي الطود أولا، ثم إلى طبيعة العلاقات الإنسانية العميقة التي جمعتني وإياه ثانيا.
فالرّجُل أكبر من أن تختزل سيرته في مجرد محطات وتقلبات غطت جل عقود القرن 20، ولا مجرد مهام ووظائف اضطلع بها هنا وهناك، ولا – كذلك – مجرد رقم داخل فضاءات مدينة القصر الكبير. إنه سيرة الشموخ النضالي تحت لواء مدرسة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، مدرسة الإباء والعزة والكرامة التي استطاعت أن تقهر آلة الاستعمار، بنفس القدر الذي استطاعت – معه – أن تربك حسابات سياسيي مغرب “إيكس ليبان”، بعد أن تبنت رؤية مغايرة لترتيبات تحقيق استقلال المغرب، وبعد أن وضعت تصورا بديلا لم تهادن فيه أحدا، بأفق واضح أساسه الاستقلال التام والفعلي لكل مكونات الفضاء المغاربي الموحد في واقعه وفي مصيره وفي انتظاراته.
ومعلوم أن المُجاهد الهاشمي الطَود قد دفَع ثمن هذه المواقف باهضًا، حيث تكالبت ضِدّهًُ الآلَة الحزبية الرهيبة وفرق ما سمي – آنذاك – ب “جيش التحرير”، فوجد نفسه في أتون حرب لم تكن حربه، وصراع لم يكن – أبدا – أفقا له في العمل التأطيري والتعبوي الوطني التحرري. وقد استطاع هذا التآمر أن يترك جروحا عميقة على نفسيته، إﺫ بقي يحمل آثارها وندوبها إلى يومنا هﺫا، وخاصة عندما استفحل الأمر باختطاف الوالد عبد السلام الطود، ثم الخال عبد السلام، والتنكيل بالأسرة الصغيرة بمدينة القصر الكبير، وتقديمه لمحاكمة صورية بعد التحاقه بالوطن ببضع سنوات تحت مبررات واهية، استهدفت تصفية الحساب مع التركة النضالية للمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ومع امتداداتها السلوكية والمواقفية التي جسدها الهاشمي الطود ورفاقه، سواء بالقاهرة أو بمختلف أقطار المغرب العربي.
ولد الهاشمي الطود سنة 1930 بمدينة القصر الكبير، حيث تابع دراسته الأولية ب “المدرسة القرآنية” التي كان يشرف عليها الأستاذ الغالي الطود. وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية، انتقل إلى مدينة تطوان لمتابعة الدراسة الثانوية ب “معهد مولاي المهدي” الذي كان يديره الشيخ محمد المكي الناصري. وبعد التخرج من هذا المعهد، التحق ب “المدرسة البوليتقنية” بتطوان، حيث أتم تكوينه بالسنة الأولى من قسم المعلمين. وبذلك انتهت مرحلة تكوينه الأولي بالمغرب، إذ انطلق – مباشرة بعد ذلك – في رحلة الهجرة الطويلة نحو المشرق العربي، مشيا على الأقدام، وهي الهجرة التي حملته إلى مدينة القاهرة سنة 1945.
وفي هذه المدينة، تابع دراسته بثانوية “الحلمية”، حيث حصل على شهادة الثانوية العامة سنة 1947. ونظرا لما كان يحمله من أفكار تحررية فطرية ومن حماس نضالي شبابي كبير، فقد تفاعل مع كل الأحداث السياسية التي كان يعيشها العالم العربي آنذاك. في هذا الإطار، وبعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بتقسيم فلسطين يوم 29 نوفمبر من سنة 1947، وعقب النداء الذي وجهه الأمير الخطابي إلى كل العرب والمسلمين للجهاد ورد العدوان الصهيوني على الأراضي المقدسة، استجاب الهاشمي الطود ورفيقه محمد إبراهيم القاضي لنداء الواجب الجهادي، تحت وقع تعبئة نفسية حماسية منقطعة النظير.
فالتحق بوحدات المتطوعين العرب بتاريخ فاتح يناير من سنة 1948. وهي الوحدات التي كان يشرف عليها الشهيد أحمد عبد العزيز على الجبهة المصرية. ومن هذا الموقع، كان له شرف المشاركة الميدانية المباشرة في الكثير من المواجهات المسلحة ضد قوات العصابات الصهيونية داخل منطقة قطاع غزة. وفي أواخر سنة 1948، وبأمر من الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، عاد من الجبهة إلى القاهرة، رفقة الشهيد محمد إبراهيم القاضي، لينضما معا للبعثة العسكرية المغاربية الأولى إلى بغداد، حيث التحقا بالكلية العسكرية الملكية ابتداء من تاريخ 17 أكتوبر 1948.
وفي أواخر شهر يونيو من سنة 1951، تخرج برتبة ملازم ثاني، تخصص مدرعات، وعاد إلى القاهرة واضعا نفسه، إلى جانب رفاقه في البعثة، تحت أمرة الأمير الخطابي، رئيس لجنة تحرير المغرب العربي، في خدمة مشروع ثورة التحرير المغاربية.
وانطلاقا من هذا الموقع، حفظ له التاريخ الكثير من الإسهامات الرائدة في دعم النضال التحرري المغاربي، من خلال العديد من المبادرات المتميزة، لعل أبرزها على الإطلاق الإشراف المباشر على تكوين المتطوعين المغاربيين وإرسالهم إلى الجبهات، وتجميع العتاد والأسلحة ونقله إلى جبهات القتال وخاصة بالجزائر، والتنقل عبر كل دول المغرب العربي للإشراف على إنشاء القواعد التنظيمية للحركة التحريرية المغاربية، وتحمل مسؤولية تسيير معسكرات التداريب، … إلى غير ذلك من المهام النضالية البارزة التي تحفظها الذاكرة التحررية بكل الأقطار المغاربية خلال مرحلة خمسينيات القرن 20. وفي سنة 1952، كانت للهاشمي الطود أدوار مركزية في تنظيم “مؤتمر ضباط المغرب العربي” بالقاهرة، وهو المؤتمر الذي أعلن فيه عن وضع الخطة العامة لتحرك “جيش تحرير المغرب العربي”، بعد إرساء هياكله التنظيمية وضبط آليات تحركه، وتوضيح مواقفه، تحت الإشراف العام للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. وبعد إبرام اتفاقية “إيكس ليبان” سنة 1956، وانسحاب القطر المغربي من الثورة التحريرية المغاربية، استمر الهاشمي الطود في العمل داخل “جيش تحرير المغرب العربي” في مقاومة يائسة أحبطها تحالف “إيكس ليبان”، من خلال عمليات تآمرية مضادة، من أبرزها تسريب معلومات إلى السلطات الفرنسية عن وصول الباخرة آتوس المحملة بالسلاح إلى المناطق المحاذية للشواطئ المغربية الجزائرية واستيلاء الفرنسيين عليها، ثم الشروع في تنفيذ مسلسل رهيب من الاختطافات والتصفيات في حق العديد من المناضلين الأحرار، وخاصة ممن كانوا على ارتباط بالأمير الخطابي، من أمثال محمد إبراهيم القاضي وشباطة تركي سعيد وحدو أقشيش والنقيب بربر، وغيرهم من الشهداء الأبرار.
وفي شتنبر من سنة 1960، عاد نهائيا إلى المغرب للاستقرار به، والتحق بصفوف القوات المسلحة الملكية برتبة نقيب، لكنه اعتقل سنة 1965 من طرف السلطات العسكرية بتهم واهية وملفقة وسخيفة، مثل المشاركة في حرب فلسطين، والاتصال بالزعماء العرب المشاركين في مؤتمر الدار البيضاء سنة 1965، والتعاون مع عناصر مناهضة لنظام الحماية في المغرب، وتوزيع منشورات على الضباط الشباب لإفساد عقولهم، وإصدار أحكام مخففة على المقاومين المغاربة بصفته قاضيا للتحقيق في المحكمة العسكرية، … إلى غير ذلك من التهم “الصفراء” التي كشف التحقيق ثم الحكم – لاحقا – عن زيفها وعن تهافتها وعن طابعها التآمري.
هذا جزء من فيض مسار حياة المجاهد الهاشمي الطود، لا شك وأننا اختزلناه إلى أضيق مدى ممكن. ويقينا إن الاطلاع على كل خباياه وعلى كل تفاصيله ومنعرجاته، سيقدم مادة خامة ثرية تسمح بإعادة النظر في الكثير من يقينيات العمل الوطني لمرحلة النصف الأول من القرن الماضي. لذلك، فإني أجد نفسي محظوظا بالاشتغال على تجميع ذاكرة الرجل في عمل سير – ذاتي وتوثيقي شامل سيرى النور في القادم من الأيام، إن شاء الله. لقد مكنني الاشتغال لسنوات طويلة على ذاكرة هذا المجاهد الفذ من اكتشاف عناصر الوفاء الإنساني في أبهى معالمه، وفاء المناضل الصلب والوطني الغيور، ووفاء الإنسان النبيل الذي جعله يتحول إلى أحد أعلام العمل الوطني التحرري، ليس فقط على المستوى القطري، ولكن على امتداد كل خريطة العالمين المغاربي والعربي.
إنها سيرة للتأمل وللاستثمار، سيرة تشكل مفاتيح أمام مؤرخي المرحلة لإعادة تجميع شتات دروس عطاء المدرسة “الخطابية”، مدرسة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الأصيلة.