في الطريق إلى مداغ كان القاعد الماشي منشدا إلى بلاغة سيدي الغزواني ؛ وهي بلاغة منيرة /منورة ..قال سيدي الغزواني :
أرجع البعض أصل التفلسف إلى الدهشة وأصل التصوف إلى الحيرة، فالدهشة في أصل التفلسف شعور بالغريب الشاذ، والحيرة في أصل التصوف شعور بالعجيب الخارق، لكنهم اعترفوا باشتراكهما في المحبة واختلافهما في الحكمة: فكان التفلسف محبة الحكمة وكان التصوف حكمة المحبة. وهكذا تباين أفقهما النظري وانقسم منهجهما المعرفي إلى طريقين : طريق البرهان وطريق العرفان. يتوسل الصوفية لبلوغ مطلوبهم بالذكر و يتوسل الفلاسفة لبلوغ مآربهم بالفكر، الفلاسفة يطلبون الفكرة والصوفية يطلبون الفطرة، مقاصد الفلاسفة نظرية عبارية ومقاصد الصوفية عملية اعتبارية…الجهد الفلسفي مداره التأمل والتصور، والجهد الصوفي مداره المشاهدة والشهود، ارتبط فهم الوجود عند الفيلسوف بالعقل والحدس وارتبط إدراك الوجود عند الصوفي بالقلب والكشف… حياة الصوفي عبور ومعراج روحي، وحياة الفيلسوف تطلع عقلي …الرؤية الوجودية عند الصوفي كلما اتسعت ضاقت العبارة، وعند الفيلسوف كلما اتسعت اتسع نطاق التدليل..أشكلت الكثرة الأنطولوجية على الفيلسوف فردها إلى مبدإ واحد، وأشكلت على الصوفي فردها إلى مبدإ الوحدة، قلق المآل يدفع الصوفي إلى البحث عن الخلوة من أجل التقرب ليرجع بعدها إلى الجلوة.. وقلق السؤال يدفع الفيلسوف إلى العزلة والتوحد من أجل التأمل ليعود بعدها إلى المجتمع .. يحذر الفيلسوف النوابت، ويحذر الصوفي الثوابت، الحضور الصوفي ضد الغفلة، والحضور الفلسفي ضد النسيان، حضور الصوفي يستمد من حضرة القدوة، وحضور الفيلسوف يستمد من حضرة المثال أو من العقل الفعال…
وحين يشتد الخلاف بينهما، تتقد المناظرة وتسمو المذاكرة:
فيبادرالفيلسوف: أنتم أهل تقليد واتباع ونحن أهل عقل وإبداع ..
فيرد الصوفي: عقلكم عادة ونحن باتباعنا نخرق العادة فسيرنا يقتضي الخروج من العادة إلى روح العبادة..
يقول الفيلسوف: الحق عندنا وجوبي..تسند إليه جل القيم..
فيرد الصوفي: الحق عند نا وجودي.. وبه قام كل شيء واستقام..
يبادر الفيلسوف: مقصودنا أن الحق هو رأس القيم الأخلاقية.. والأخلاق عندنا أحكام وقيم إنسانية كونية ينبغي العمل بها..
يشير الصوفي: ومقصودنا هو عين الحق ونحن أهله والأخلاق عندنا مكارم إلهية ينبغي التحلي بها..
يقرر الفيلسوف: في مذهبنا العوالم إما طبيعية أوميتافيزيقية إذ لا يعقل أن يكون ما يخالف قوانين العقل والطبيعة…لذا فالعالم عندنا يمكن أن يخضع لتدبير المتوحد..
يقول الصوفي : العوالم في مذهبنا لا حصر لها بالوصف وبالعدد ففي متسع الإمكان الإلهي يمكن ما لم يكن ويكون ما لا يمكن في حصر العقل البشري.. لأن كل العوالم عندنا تخضع لتدبير الإله الواحد..
يستنتج الفيلسوف: إذن أنتم أهل جبر ونحن أهل حرية واختيار..
يقرر الصوفي : العبد في ظاهره ذو اختيار، والقدر باطنا عليه جري ومن عجائب الجبار، أن يجبر العبد على الاختيار.
فيعقب الفيلسوف: أقصد أن الحرية عندنا مشكلة نشأت عن العلاقة مع الخلق..
يرد الصوفي : وعندنا، الحرية هي منزلة العبودية في الخالق..
يقول الفيلسوف: الحقيقة عندنا لا تنفصل عن الوجود والماهية والعلاقة أو بما هي مطابقة الفكر للواقع نكتشفها بالقياس أو الاستقراء الكسبي..
فيجيب المتصوف: الحقيقة عندنا هي الوجه الباطني للشريعة وتدرك بالسير على منوال الطريقة وبالكشف الوهبي..
يقول الفيلسوف: إن حقائقكم انغمست في الشبهات، فأتت أقوالكم متضادة وأفكاركم متناقضة، فلم ترتفع عن قلبكم الحيرة بل ارتقيتم في سلمها ارتقاء وانحدرتم انحدارا..
فيقول الصوفي: وأنتم انغمستم في أشباه الحقائق، فأتت أقولكم مشتبة في دليلها وتأويلها واطمأننتم بالظن إلى ظاهركم بينما أنتم غارقون في أصالة نفوسكم في الشك والقلق والريبة، لذا حيرتنا في ذات الحق يقين وحيرتكم في أنفسكم تخليط وتغليط..
يضحك الفيلسوف ويقول: دعنا من هذا؛ ولنفكر معا في القضية الأساس؛ إن النقل يحتاج إلى قواعد عقلية ومبادئ منطقية أي إلى أساس عقلي حتى يفهم ويعلم..
يبتسم الصوفي ويقول: إن هذا الذي تسمونه عقلا ليس أقل حاجة من النقل إلى التأسيس وهذا الأساس عندنا هوحقائق القلب والغيب وعلى رأسها الإيمان..
يتعجب الفيلسوف ويقول: الواقع عند الفيلسوف هو مجال الحوادث الناتجة عن علاقة الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات صعودا أو نزولا..
يؤكد الصوفي: والواقع عندنا محل لتجليات النَّفَسِ الإلهي الساري في كل شيء تنزلا وتنزيلا..
يقول الفيلسوف العلل عندنا أربعة: مادية وصورية وفاعلة وغائية، وعندكم واحدة فاعلة..
يرد الصوفي : العلل عندنا أحوال مرضية معلولاتها أدواء قلبية وسموم معنوية…
يقول الفيلسوف: الدين في مذهبنا نقل يقابل العقل وشريعة تقابل الحكمة، ووحي يقابل الوعي، وتكليف يقابل الحرية..
يقول الصوفي الدين عندنا شريعة وطريقة وحقيقة، يجمع كل ذلك العلم والعمل بالكتاب والسنة تعلقا وتخلقا بالإنسان الأكمل، بغية الظفر بالسعادة الأبدية.
هذا النوع من الحوار الذي يسميه المتفلسف مناظرة ، ويسميه المتصوف مذاكرة أوجبت اتفاقهما في كون أمر الإنسان أشكل عليه إن في علاقته بنفسه أوبالعالم أوبالله، غير أن هذا الاتفاق أوجب اختلفاهما في كيفية حله؛ سواء من حيث الأصول والفروع أو من حيث الوسائل والمقاصد:
يقول الصوفي معبرا عن حله: الكمال عندنا محمدي والسعادة أحمدية بإفاضة النور المطلق من الحضرتين على الجوانح والجوارح فننهض للمشاركة في الخير حبا ورحمة وكرما وإحسانا للخلق..
أما الفيلسوف فيقول: أما عندنا فالكمال مدني دنيوي فردي واجتماعي يتحقق بالعدل والنصفة أي باعتدال شؤون النفس والمجتمع والدولة…
يستخلص الصوفي: إذن الوجود عندنا ينفعل بالجود..
ويستنتج الفيلسوف: أما الوجود عندنا موجود واللاوجود غير موجود…
أيها السادة والسيدات، أيها الحضور الكريم:
إذا كان مطلوب الإنسان الكمال والسعادة؟ كيف يحقق ذلك؟ كيف يتدبير الفيلسوف المتوحد وجوده؟ وكيف يتحد المتصوف الموحد بوجوده؟ هل الوصول عندهما مظنون وهل اتصالهما وهمي؟ ما هي نقط المفارقة والمعانقة بين مذهبيهما؟ كيف يمكن تلقيح وتنقيح التجربة الفلسفية بالتجربة الصوفية والتجربة الصوفية بالتجربة الفلسفية للارتقاء بالفكر والفعل والشعور والوجدان، أي للارتقاء بالإنسان من إنسان العادة والتقليد إلى إنسان الحرية والإبداع أي إلى ما يتممه ويكمله ؟ ألا نحتاج في هذا الوقت بالذات إلى معراج مزدوج عقلي وروحي لبلوغ ذلك الكمال؟ ..نظن أن هذه الندوة التي تنظمها جمعيتنا الفتية ـ هي خطوة بسيطة لكنها ضرورية في سلم ذلك المعراج الطويل… فلنترك المجال لأهل الاختصاص ليحدثونا عنه… وليشعل كل منا شمعة قلبه وعقله بدل أن يلعن الظلام.. والسلام .
قال القاعد الماشي معلقا على بلاغة سيدي الغزواني :
انا عشقي صار للزاويه.. والزاويه ترفع مقامي ..سيدي جمال شيخ الزاوية .. عرفني أسرار مدامي
نذكر ونجدد اذكاري.. بها نقضي كل اوطاري.. سيدي جمال راضي عليا.. نور لي طريق التربية..
عبد اللطيف شهبون