بمناسبة ذكرى مرور 94 سنة على تدشين مسرح إسبانيول بتطوان (2) -25/11/1923 – 25/11/2017 –
جريدة الشمال – بقلم الباحث الزبير بن الأمين ( تدشين مسرح إسبانيول بتطوان )
الثلاثاء 05 شتنبر 2017 – 15:35:44
أولاً : شُيِّد المشـروع على مساحة تبلـغُ 1200 متر مربع، على بقعة أرضية عارية كانت تُستغل قبل بناء المسرح من أجل تقديم الأشرطة السينمائية الصيفية الصامتة، تحمل اسم “سينما بارك Cinéma Park”. وتم استغلال هذا الفضاء السينمائي الصيفي خلال منتصف شهر غشت 1919، حيث قدم أول شريط توثيقي بالصور الجميلة لمناطق الحدود الكندية بعنوان “Pierre el diablo”، واستمر يشتغل صيفا حتى سنة 1923. ويغيب اسم هذا الفضاء (سينما بارك) عن معظم الباحثين المغاربة والإسبان الذين تناولوا الكتابة لاحقا عن موضوع السينما وقاعاتها بمنطقة الشمال المغربي، فلا نجد عندهم ولو إشارة بسيطة لهذا الاسم باستثناء ما ذكره الأستاذ أحمد مدينة في مجلة “الأنوار”، عدد يناير 1946، والأستاذ رضوان احدادو في بعض أبحاثه القيمة عن المسرح بشمال المغرب، المنشورة بجريدة “الشمال” الأسبوعية، مما يدل على أن البحث الجاد في حاجة إلى مزيد من التعمق والنبش والتنقيب وسبر الأغوار بدقة، لاكتشاف الكثير من الحقائق المغيبة والمنسية في الذاكرة الفنية لمدينة تطوان، ولغيرها من المدن المغربية التي ازدهر بها المسرح والموسيقى وسائر الفنون خلال أوائل القرن الماضي.
ثانيا: حددت الميزانية المخصصة للمشروع في 400.000 بسيطة وهو مبلغ كبير، مقارنة مع مبالغ مشاريع تلك المرحلة، بينما ارتفعت كلفة بناء مسرح “سيرفانطيس” بطنجة والمشيد قبله إلى 750.000 ألف بسيطة، وهذا الارتفاع الاستثنائي في اعتقادنا عائد إلى كون مسرح سيرفانطيس استعملت وأنجزت فيه الكثير من الرسومات والتزويقات والمنحوتات والمنقوشات سواء من داخله أو من خارجه كديكورات فنية لكبار الفنانين الإسبان والإيطاليين.
ثالثا: تعود ملكية المشروع للسيد “ضون دوروطيو دي كارلوص Don Doroteo de Carlos”، صاحب الشركة والمقاولة الهادفة إلى إقامة مسرح كبير يخصص فقط للعروض المسرحية والسينمائية والموسيقية لمختلف الفرق الفنية.
رابعا: اعتبار السيد “خوصي كوطييريث ليسكورا José Gutierrez Lescura” مصمم عدد من المنشآت التي أشرفت عليها بلدية تطوان في كثير من المناسبات، هو المهندس المسؤول عن المشروع. وكان له الفضل سابقا في تصميم مستشفى باب التوت عام 1919، وفي تخطيط عدد آخر من المؤسسات العمرانية الجميلة بعاصمة الشمال كمدرسة الصنائع بباب العقلة سنة 1928…. وغيرها.
خامسا: اتساع حضور المدينة الثقافي والفني، وعدم قدرة استيعاب فضاء مسرحها الأول للجماهير المتزايدة، تطلَّب ضرورة إنشاء مسرح جديد يكون أوسع حجماً، وأرقى بناء، وأجمل هندسة، حيث تقول جريدة الإصلاح في هذا الصدد، وفي نفس عددها السابق 109: «أنه نظراً لضرورة توفر المسرح في المدن العامرة من أجل الترويح عن النفس، ونظراً لافتقار تطوان لمسرح يسع عددا وافرا من سكانها يكون أكثر اتساعاً من المسرح الموجود فيها… والذي لم يعد يكفيهم لكثرة الازدحام… فضلا عما كان يقاسيه الجمهور من الضنك في الجلوس لقلة إتقان محلات جلوسه، وعدم وجود الشروط الكافية لراحة العموم، دبت الغيرة في نفس الإسباني الأديب “ضون دوروطيو دي كارلوص Don Doroteo De Carlos” المعروف كثيراً عند أبناء هذه المدينة، فبادر إلى إنشاء شركة خاصة ثم قام ببناء مسرح جديد من أجل توسعة هذه المدينة على الطراز الحديث كبقية المسارح الكبيرة في البلدان الأوربية والعربية الراقية».
سادسا: إذا كان مسرح “سرفانطيس Cervantes” الشهير بمدينة طنجة الدولية قد تطلب أكثر من سنتين ونصف من البناء حيث وضع الحجر الأساس في 02 أبريل 1911، وافتتح رسميا يوم الأحد 13 دجنبر 1913، فإن “مسرح إسبانيول” بتطوان رغم حجمه الواسع، ونفقاته الكبيرة أيضا لم تستغرق الأشغال به سوى سنة وبضعة أشهر، محطماً بذلك رقماً قياسياً في الإنجاز خلال فترة بداية العشرينات من القرن الماضي، حيث كان يستحيل ويتعذر خلالها بناء مثل هذه المشاريع الضخمة، المتطلبة للمعدات الفاخرة خصوصاً وأن معظمها، كان يُستورد من إسبانيا أو من ألمانيا وبلجيكا…
كتبت الجرائد المحلية وغير المحلية – قبل حفل الافتتاح وبعده – عن هذه المعلمة الفنية العظيمة، فوصفتها وصفاً دقيقاً سواء تعلق الأمر بواجهتها الخارجية أم بمحتوياتها الداخلية. وسوف نحاول من جهتنا تقديم الوصف الخارجي أولا، ثم ننتقل إلى الوصف الداخلي اعتماداً على ما رصدته ونشرته تلك الصحف من أجل تقريب القارئ إلى مشاهد جميلة ومتباينة لهذه البناية ذات الطراز الرفيع، الفريدة من نوعها، والتي ما زالت تحظى إلى وقتنا بهذا التفرد والتميز، والاهتمام أيضا من طرف الساكنة والجمعيات والمؤسسات الثقافية والفنية والاجتماعية…، والعناية اليومية من لدن إدارة السيد الحسين بوديح التي تديرها رغم ما يهددها في كل لحظة من أخطار التوقف والاختفاء كما حصل لأخواتها بمدينة تطوان وبالمدن المجاورة كطنجة، والعرائش، والقصر الكبير وغيرها من المدن المغربية.
احتل موقع البناية مكاناً استراتيجياً لقربه من شارع لونيطا “Luneta” التجاري (المصلى القديمة)، وبفضل هذا الموقع شكل المسرح بداية الامتداد جنوباً نحو توسعة حي El Ensanche (الأوربي). وجاء ملاصقا لدار البريد والتلغراف آنذاك (معهد سيرفانطيس اليوم)، ومقابلا في نفس الوقت للسوق المركزي (القديم) المجاور لساحة الفدان مما يدل على أن الاختيار كان موفقاً، حيث التدفق البشري على هذه المؤسسات والمراكز، وعلى شوارعها وممراتها لا يعرف الفتور في كل ساعة من ساعات النهار، وبالتالي ليكون التواصل يوميا مع المسرح ومع مستجدات ما يعرضه سريعاً وسهلا وحميما.
أضحى مسرح إسبانيول بعد تشييده يطل على شارعين، شارع محمد الطريس حيث الواجهة الأمامية الهامة. وشارع معركة أنوال حيث الواجهة الخلفية المحتوية على بابين خاصين باستقبال الوافدين من أهل التمثيل والفنون المختلفة، ونقل وسائل ومعدات عروضهم بكل سهولة.
أما الواجهة الكبرى المُشَكَّلَة من طراز فني ذي معمار مغربي أندلسي فتمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على طول 34 متراً. وتضم ثلاثة أبواب: بابان لولوج مدرجات القاعة العمومية العليا، وباب متميز في الوسط طوله ثمانية أمتار خاص بدخول الشخصيات الرسمية والمدعوين والمتفرجين من الطبقة الثرية الذين يفضلون أداء تذاكر الفرجة في الطابق السفلي الممتاز لاتساع فضائه وكراسيه الفاخرة المريحة.
هذا الباب العريض قبل ولوجه لابد للمتفرج من أن يرتقي بضع أدراج من الرخام الأبيض الصافي ليجد نفسه أمام أبواب فخمة متلاصقة جمعت في تركيبها بين الزجاج الفاخر والخشب القوي وهيئت على أشكال هندسية فنية بديعة. عندما تفتح في وجه الجمهور فكأنها تشكل باباً واحداً عريضاً يمتد على 18 متر.
وبعبور الأبواب الرئيسية، يستقبلك بهو باذخ مزين جدرانه وسقفه بمرايا وثريات ثمينة، ما زال المسرح يحتفظ رغم مرور سنوات طويلة – على إصلاحات 1943 – بآثار جمالها وأناقتها. والبهو يتوزعه ممران اثنان: أحدهما على جهة اليمين والآخر على جهة اليسار، وكلاهما يفضي إلى القاعة الكبرى أو الصالون الفسيح “” ذي المقاعد المريحة الفخمة تسع حوالي 600 متفرج . وتفيد جريدة شمال إفريقيا أن هذه الكراسي الفاخرة تم شراؤها وجلبها من مدينة برلين الألمانية.
أما جريدة “صدى تطوان” فتضمن عددها 3245 وصفا لهذه المقاعد قبل تركيبها بأيام قليلة، جاء فيه ما يلي: «صنعت مقاعد القاعة السفلى من خشب شجر الجوز المصقول “Pulido Nogal”، كل مقعد يحمل مقبضين أحدهما على جهة اليمين، والآخر على جهة الشمال، وهو مستقل عن باقي الكراسي، وله نابض أو “زنبرك” يجعله باستمرار واقفا غير ممدد في حالة عدم جلوس أي متفرج عليه».
أما أرضية القاعة الكبرى فكانت مكسوة في البداية بالخشب درءاً لبرودة فصل الشتاء القاسية، وحماية للمتفرج وتخفيفاً عنه، ثم أزيلت في مرحلة لاحقة وعوضت بأرضية رخامية أو من الكرانيت.
وعلى أفق الواجهة الأمامية العليا لخشبة المسرح يلاحظ المشاهد رسوماً جدارية فنية ثمينة أبدعتها أنامل الفنان الإسباني الكبير ماريانو بيرتوشيMariano Bertuchi ، ترمز كما يقول الكاتب الإسباني Ignacio Alcaraz Cánovas إلى استقبال الشعب المغربي للإسبان، الذين حملوا معهم رسالة الحداثة والتمدن، والدعم المعنوي والمادي لمستقبل الشعبين. أو كما اختار الباحث José Antonio Pleguezuelos Sánchez في كتابه: “Mariano Bertuchi los colores de la luz” (ماريانو برتوشي ألوان الضوء) عنوانا لهذه الرسومات بهذه الصيغة: “ Farándula que llega y Marruecos la recibe” (فن المسرح يصل والمغرب يستقبله). حيث يبدو مشهد المسرح المتنقل في أفق رُبـى إسبانيا متجليا في عربة الممثلين الكوميديين تتقدمهم شخصية “كريسبين Crispin” الذي ينحني بقبعته محييا مجموعة من المغاربة على اختلاف طبقاتهم ومستويات حرفهم حين وقفوا أمامه، وكأنه بتحيته لهم يعرض عليهم تسلم رسالة التمدن والحضارة والفن التي جاء الإيبيريون مبشرين بها من إسبانيا إلى المغرب.
إذا تأمل المشاهد من داخل القاعة الرسومات فسيلقى على يساره وقف الإسبان (أصحاب رسالة التمدن) وعلى اليمين وقف المغاربة (المتلقون)، وتبدو وراء المجموعتين مناظر ومشاهد لمدينتي غرناطة وتطوان، وهو رسم وشعار يخفي بين ثناياه كثيرا من المفاهيم الخادعة التي روج لها الاستعمار من أجل تبرير سيطرته على بلادنا لنهب خيراتها باسم الحماية، وبعث الأمة، والنهوض بها، والعمل على تمدنها…
إن أهم ما يميز هذه المعلمة من الداخل كونها لا تتوفر على أعمدة ولا تقف عليها. وهذا يفسر أن مسرح إسبانيول بُني على أسوار وروافد قوية، كلها مصنوعة من الحديد والإسمنت، تطلب وضعها في مكانها المناسب إلى رافعات حديدية ضخمة جلبت من إسبانيا لأداء هذه المهمة. وبذلك قامت جميع أشكال البناء على استعمال الحجارة والإسمنت المسلح بالحديد بكثافة، الشيء الذي يمنحه المتانة، ويقلل من حوادث الحريق، من جهة، ويتيح للمتتبع من جهة أخرى، فساحة الرؤية وامتداد البصر في كل أطراف المسرح.
إن المتأمل لخشبة المسرح يجدها رحبة فسيحة وواسعة (El escenario espacioso) قادرة على تحمل إعداد وتقديم أضخم الأعمال المسرحية التي عُرضت بمسارح مدريد الكبرى خلال تلك الفترة، والتي كانت فرقها تزور تطوان ومدن شمال المغرب بدعوة من إدارة الحماية، أو عن طريق تعاقد شركة تدبير شؤون مسرح إسبانيول معها.
ولعل ما يلفت الانتباه بصورة سريعة هو سقفه العلوي الداخلي الممتد على مساحة 800 متر مربع، مشكل وسطه على صورة كوة يبلغ محيطها 6 أمتار، صنعت من الزجاج البلوري الرائع. كلما أضيئت ازداد معها فضاء المسرح بهاء وجمالاً وتناغماً.
وقد نجح التقنيون المختصون بتجهيز المسرح كهربائياً في اعتماد شكل الإضاءة الخافتة والخفيفة، مما كساه رونقاً وتناسباً مع أنوار المصابيح الحائطية وأضواء خشبة المسرح المتنوعة الباهرة. ولا يظهر توهجها إلا حين يُرفع الستار عنها.
لقد جُهِّز المسرح منذ البداية بأحدث التقنيات الحديثة المتعلقة بالعروض السينمائية حيث تم في الغرفة الصغيرة المستقلة بالطابق العلوي وضع ثلاث آلات منذ البداية لتشغيل الأفلام السينمائية المختلفة وتقديمها للجمهور، كما تم ربطها بوسائل إطفاء الحرائق الطارئة.
وجاءت القاعة الكبرى على شكل نصف دائري. وعلى جهة ممريها غير المرئيين يمينا وشمالا تشكلت ثلاث عشرة حجرة صغيرة camarines خاصة بارتداء وتغيير الممثلين والممثلات لملابسهم وتزيينهم من أجل أداء أدوارهم في الفرجة المناسبة. وقريب منها تتوفر حجرة صغيرة لحفظ ملابس المتفرجين.
ومما يجب معرفته أن بناية المسرح كانت أولا تعتمد في تزويدها على مياه البئر المحفور بأعماق الجزء التحتي، حيث لم يكن بعد – خلال بداية العشرينيات – قد بدأ العمل بتوزيع شبكة المياه الصالحة للشرب على مباني شوارع الإنسانتشي القليلة العدد في تلك الفترة.
كان مسرح إسبانيول في بدايته يسع تقريباً لألفي (2000) متفرج يستطيعون متابعة العروض الفنية بطمأنينة وراحة تامتين. وقد أشارت جريدة الإصلاح إلى هذا الرقم عند وصفها لحفل التدشين، وبذلك كان أكبر حجما من مسرح سيرفانطيس وأكثر استيعابا منه لعدد المتفرجين.
إن ما يبرر اقتناع الباحث بكون شكل مسرح إسبانيول كان كبيرا وعظيما، هو شهادة الإجماع الكلي يوم الافتتاح بتأكيد الصحافيين الإسبان أنفسهم على أن البناية الجديدة، تعد معلمة رائعة ومتميزة، ليس لها مثيل ولا شبيه بكثير من المدن المغربية وحتى بكثير من المدن الإسبانية.
لقد تعددت الأوصاف الجميلة من كاتب ومن صحافي إلى آخر، فوُصف المسرح على صفحات الجرائد المحلية بالعظمة والفخامة (Grandioso)، وبالروعة والجلال (Magnífico)، وبالبهاء (Regio)، وبالأناقة (Elegante)، وبالرصانة والرزانة (Discreto)، وبقلة الزخرفة والتزويق المكثف (Nada de ormentaciones amazacotadas). ووصف كذلك بالتعابير التالية: “أكثر جمالاً وحداثة” (más bello y mode
o)، “أعظم مسرحاً” (más teatro)، “كل شيء فيه جميل ومتناغم” (todo es bello, bien entonado).
لم يصل مسرح سرفانطيس (Cervantes) الدولي بمدينة طنجة المشيد قبله بعقد من الزمن (1913) رغم تكاليفه الباهظة، ولا مسرح الملكة فكتوريا (Reina Victoria) الصغير بتطوان المشيد سنة 1914 إلى درجة أناقته وجماله وحداثته، بتأكيد قول الكاتب الصحافي الشهير: خوان بارثلو “Juan Barcelo” الذي عاش فترة مراحل بنائه وحضر وقائع افتتاحه. ومن خلال مقاله المنشور بجريدة صدى تطوان “El Eco de Tetuán” ننقل نص عباراته في المقارنة بين المسرحين:
« Más teatro, más bello y más mode
o que el Cervantes »
«أعظم مسرحا، وأكثر جمالا وحداثة من سرفانطيس»
أو كما يقول في عبارة أخرى:
« no se parece a ningún teatro de España, ni por su arquitectura, ni por su distribución, un estilo mode
o quizás francés ».
«لا يماثله أي مسرح بإسبانيا، لا من حيث المعمار ولا من حيث التوزيع الهندسي، شكل حديث قد يقارب الأسلوب الفرنسي…»
باختصار يمكن القول بأنه ذو طابع مختلف عما ألفته حركة بناء المسارح بإسبانيا في بداية العشرينات من القرن الماضي، يميل ويقترب أكثر إلى النمط الفرنسي في شكله المعماري. لذلك جاء بناؤه أكثر جمالا وحداثة وفخامة، فهو تحفة رائعة ساحرة…
وقد حرصت إدارة المسرح حرصا شديدا على حفظ جماليته، فتعهدت برعايته التامة، وصيانته المستمرة، وإيقاف كل من سولت له نفسه المس بتدنيس هذا الصرح الجميل، أو بتعكير جو الفرجة فيه.
فسنت قوانين صارمة منذ افتتاحه تحد من حركية المتفرج التي لا طائل من ورائها وهو بداخل حرمة قاعات المسرح، قصد معاقبته عند الإخلال بها، مثل طرده أثناء إحداث الضجيج والتشويش على المتفرجين، ومنعه منعا كليا من التدخين إذ وضعت إعلانات تحمل أشكالا من الغرامات. فبالنسبة إلى المتفرج المتلبس بالتدخين في الشرفات والمقصورات عليه أداء 25 بسيطة، و15 بسيطة للمدخن بالقاعة الكبرى، و10 بسيطة للمدخنين بالمدرجات العليا. مما يعكس صورة جليلة أرادها أصحاب المشروع لبـنايتهم بأن تظل باستمرار مكانا محترما ومقدسا لتقديم الفرجة الفنية على اختلاف ألوانها.
ومع ازدياد شهرته، صار مسرح إسبانيول يحتل حيزا مهما في صفحات الصحف المحلية المنشورة باللغة العربية أو الإسبانية، فتهرع بدورها إلى نشر إشهار عن أنشطته الفنية، أو التعليق عليها، بما في ذلك الصحف الوطنية عند ظهورها منذ بداية الثلاثينيات كجريدة الحياة، والحرية، والريف ثم الوحدة المغربية، والشهاب، والأمة، ومجلة الأنيس، والأنوار…
هكذا كان مسرح إسبانيول في بداية تدشينه، أما اليوم فرغم أن أبوابه لا تزال مفتوحة لتقديم العروض السينمائية، وقيام المؤسسات والجمعيات الثقافية والفنية بتنظيم أنشطة وملتقيات ومهرجانات مختلفة، فإن محيطه تحول إلى سوق يثير الحزن والأسى. فقد ازدحم على بابه الباعة المتجولون وأفسدوا بهاء واجهته الجميلة، ومنعوا بشكل غير مباشر الوصول إلى فضائه الداخلي الذي لا يزال يحتفظ بالكثير من معالمه البديعة.
وفي هذا السياق كتب الأستاذ فيصل الخطيب أحد أبناء هذه المدينة متأسفا على أوضاعها من تصرف الباعة المتجولين قائلا: “لقد صارت مدينة تطوان الحاضرة العريقة، محتلة احتلالا واقعيا مروعا من الباعة المتجولين في كل مكان، مدمرين نسيجها الحضاري ورونقها العمراني وتجارتها المشروعة، وسلامة بيتها، وسلامة وأمن سكانها…”
ونظل من جهتنا نردد ما يلي: كيف يمكن لمدينة صنفت ضمن التراث الإنساني العالمي منذ منتصف التسعينات، واختيرت أخيرا من قِبل منظمة اليونسكو كأول مدينة مغربية للإبداع في مجال الصناعة التقليدية والفنون الشعبية، أن تكون على هذه الحال، وهذا التسيب، وأن تتعرض فضاءاتها ومعالمها التراثية البديعة إلى هذا التدمير السريع وهذا الاجتثاث غير الحضاري؟
ثم هل ستبقى هذه المعلمة – ورغم هذه الظروف – صامدة للاحتفاء بذكرى مئويتها الأولى وهي قائمة الذات؟ أم أن عوادي الزمن ستفتك بها وتحيلها إلى ذاكرة النسيان؟ .