“بيت الحكمة” حقّقت نجاحا باهرا وخلّفت نقطة ضوء متلألئة في سماء الثقافة المغربية (3/3)
الخميس 23 فبراير 2017 – 11:15:25
انخرطَ الأستاذ “محمد بولعيش“، منذُ مرحلة مبكّـرة من حَيـاتهِ الفـكرية، في الفعـل الثقـافي والتـربـوي. وقـد عمـل، رفقـة زُملاء وأصدقــاء آخـريـن، على إطــلاق بعض المنـابــر الإعلامية؛ بدءًا من مجَلة “بيت الحكمة” وجريدة “الحوار الأكاديمي” ومرورا ببعض التجارب الأخرى وانتهاء بمجلة “نوافذ” الفصلية الثقافية، من خلال الترجمة وكتابة الرأي. وبالموازاة مع عمله التربوي والإعلامي، نشط الأستاذ بولعيش في صفوف بعض الهيئات الحزبية والنقابية. وبناء على هذا الحضور المشع، كان من الطبيعي أن تكون الكتاب السيري، الذي اختار ضيفنا أن يعنونه بـ”السير على الأشواك.. شذرات من حياة”، ثرية بالوقائع والأحداث والمواقف. وفي هذه الحلقة الثالثة والأخيرة من لقائنا مع مؤلف كتاب “السير على الأشواك.. شذرات حياة”، نتناول جملة من القضايا بالكتاب السيري سـالف الذكــر:
لم يحظَ النشاط الثقــأفي، وتحديدًا الإعلامي، الذي انخرطت فيه خلال وجودك أو منذ التحاقك للعمل والاستقرار بالدار البيضاء، بحضور مميز وكاف وشاف داخل الكتاب؛ فلم يتعد هذا الحضور إشارات سريعة جدا، على عكس باقي الأنشطة الأخرى.. فما السبب في هذا الضمور؟
كانت تجربتي “الإعلامية” متعددة ومتنوعة؛ لكنها لم تكن تجربة صحافية بالمعني المعروف. لقد كانت شكلا من التعاون مع بعض الجرائد اليسارية؛ مثل سلسلة “المواطن” (المواطنة، حرية المواطن، التجمع) و”الأفق”، حيث كنت أنشر مقالات سياسية أو حول المسألة النقابية، وكذلك الأمر مع جريدة “المستقل” وجرائد أخرى.. لكن التجربة الحقيقية في المجال الصحافي كانت مع جريدة “اليسار الديمقراطي”، التي صدرت لمدة نسبيا أطول ولو متقطعة والتي كان (ولا يزال) يديرها الرفيق العزيز محمد الوافي.. كان الخط التحريري لهذه الصحيفة الأخيرة يسير في اتجاه توحيد اليسار ومحاورة كل أطيافه راديكالية كانت أو إصلاحية، بأحزابه ونقاباته وجمعياته. وقد صدر عنها زهاء 25 عددا. فعلا، لم تحظ هذه التجربة بما تستحقه من اهتمام. وكما قلت لك في وقت سابق من هذا اللقاء، لا يمكنني أن أتحدث عن كل شيء وبالتفاصيل الواجبة، الله غالب.
أصدرت، رفقة الباحثين الأستاذين الراحل مصطفى المسناوي الإدريسي ومصطفى كمال، مجلة فصلية متخصصة في الترجمة في العلوم الإنسانية؛ غير أن هذه التجربة العلمية والإعلامية، التي لقيت الكثير من النجاح في أوساط الباحثين الأكاديميين، توقفت ولم يكتب لها النجاح والاستمرار… حدثنا عن هذه التجربة..
بعد نقاشات ثلاثية (الراحل مصطفى المسناوي ومصطفى كمال وعبد ربه)، اتفقنا على إصدار مجلة “بيت الحكمة”.
وكان الرفيق كمال قد خرج من السجن لتوه وهو الذي عرفني بالراحل، بالرغم من أنني كنت أعرفه عن بُعد باعتباره معتقلا سياسيا سابق؛ لكنني لم أحتك به عن قُرب.. اشتغلنا سويا بالترجمة الجماعية، كل عدد من المجلة سالفة الذكر خصصناه لشخصية فكرية أو أدبية أو.. كل واحد منا يتكلف بترجمة نص يمرره إلى الآخرين، لمراجعته وتصحيحه؛ حتى يستوي على شكله النهائي. وكان الثقل الكبير من العمل يتحمله الرفيق كمال، لأن عودته إلى العمل تطلبت وقتا ونضالا طويلين… (أصدرنا أعدادا حول بياجي ولاكان وباسكون وتشومسكي وسارتر وفوكو..).. وأذكر أن مجلة “بيت الحكمة” حققت نجاحا باهرا، إلى حد أننا أعدنا طبع بعض الأعداد ثلاث مرات وأقلها مرتين. وكانت الجامعات، في مختلف بقاع العالم، تراسلنا لنبعث إليها بعدد من النسخ. وفجأة، تتوقف المجلة دون سبب واضح يبرر التوقف ودون سابق إشعار، لم أرد الخوض في ذلك سواء مع الصديقين أو في الكتاب حتى لا يُظَن أنني أسعى إلى تحقيق غرض ما.. والحق أن التجربة كان بإمكانها أن تستمر لمدة أطول؛ لكن “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”. وقد خلّفت التجربة نقطة ضوء متلألئة في سماء الثقافة المغربية.
فما الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقف وراء تعثر هذه التجربة؟
لا أريد الخوض في هذا الأمر، خصوصا أن العمود الفقري للتجربة قد رحل عنا ولا أريد أن أزعج الموتى في قبورهم.
كيف نبع التفكير لديك في الانخراط في درب الإعلام الشاق معنويا وفكريا ونفسيا والمكلف ماديا وبدنيا؟ وما هي المكاسب التي نالها السي محمد من هذه التجربة؟
في الواقع كل هذه التجارب التي شاركت فيها لم تأت باقتراح مني، وإم مساهمتي فيها جاءت بمبادرة من رفاقي وأصدقائي الذين كانوا يعرفونني أو تعرفوا عليّ، فعرضوا عليّ مشاريعهم ناقشناها سويا، وعندما اقتنعت بجدواها انخرطت معهم فيها لبلورتها على أرض الواقع. وبالفعل، كان العمل يتطلب مجهودات مادية وجسدية ومعنوية في الإعداد والاتصال والمراجعة والتصحيح والمتابعة في المطابع والتوزيع.. وكما هو معلوم، لم أكن أنتظر مدخولا ماديا، لأن هذا العمل كنت أعتبره ذا صبغة نضالية أكثر من أي شيء آخر، إذ لم يدخل جيبي ملّيم واحد من عائدات هذه المشاريع؛ بل على العكس من ذلك كنت أنفق من قوت أسرتي لتستمر بعض التجارب الرائعة، التي توقفت للأسف. وإن الربح الوحيد من كل هذا العمل يتجلى في أمرين: أولهما هو أنني ربحت رفاقا رائعين وأصدقاء مخلصين، كما عرفت آخرين على حقيقتهم وتخلصت منهم. والأمر الثاني هو أنني راكمت تجارب مهمة صنعت شخصيتي وعلمتني وكوّنتني، وهذا ليس بالأمر اليسير يؤدي البعض ثمنا باهضا لتلقيه.
بالرغم من استقالتك / “انسحابك” من مختلف الهيئات التي كنت منخرطا في صفوفها من أجل النضال، فإنك ما زلت حريصا على الحضور المستمر والفاعل ضمن الفعاليات المدنية التي تتطلع إلى الدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب، آخرها المعركة المتعلقة بالدفاع عن استرجاع المقر التاريخي للإطار النقابي الطلابي (أوطم) بالرباط؛ وهو ما ينظر إليه كثير من المتتبعين بنوع من الاستغراب… فكيف ينظر السي محمد ذاته إلى هذه المسألة؟
قدمت استقالتي من هيأتين فقط حتى نبقى في إطار المعقول .. من الاتحاد المغربي للشغل (وضمنه الجامعة الوطنية للتعليم التي كنت نائب أمينها العام) في دجنبر 1996، بعدما اشتد الخناق عليّ وأصبحت مهددا في حياتي، ولم أكن أريد تيتيم أبنائي وكانوا في مقتبل العمر، وهم – كما زوجتي – في أمسّ الحاجة إليّ (وهذا ضعف بشري).. وقدّمت استقالتي من الحزب الاشتراكي الموحد، لأن تصرفات بعض قادته لا يمكن قبولها يساريا وديمقراطيا، ولأن فضحي لانزياحات الحزب عن أرضية مؤتمره جعلت قيادة الحزب “تلاحقني” وعددا من الرفاق إلى حد اتهامنا بالتواطؤ مع المخزن لتخريب الحزب، كما أوضحت ذلك في رسالة استقالتي من الحزب. ولست نادما على التجربتين معا؛ لأن مكاسبهما النضالية والعلاقات الرفاقية التي نسجتها مع المناضلين الصادقين لا تقدر بثمن.. إن انسحابي من الهيأتين لا يعني انسحابي من الساحة والتزام البيت لأندب حظي العاثر؛ فالنقابة وسيلة، والحزب مجرد أداة للفعل السياسي.. أما الساحة فواسعة كأرض الله فيها متسع لكل من يريد أن يناضل ويصطف مع الجماهير في أملها أن تتحرر وتحقق غدا أفضل، وممارسة السياسة لا تتم داخل الجدران والمكاتب وإنما في الشارع والساحات.
أنجبت قبيلة أنجرة، في العصر الحديث، ثلة من الأعلام والشخصيات التي برزت في كثير من الميادين: التدريس والتربية، والإدارة والتسيير والاقتصاد والقانون، والثقافة والفكر والفن، القضاء، والأعلام وغيرها من المجالات…؛ غير أن أغلب تلك الأسماء تظل منزوية في الظل أو مغيبة… فما مرد هذه المفارقة، في نظرك؟
لا يمكنني الحديث عما لا أعرف ولا يمكنني إصدار موقف أو رأي أو تقييم في حق أحد.. كل ما يمكنني قوله هو أني قرأت لبعض أبناء هذه القبيلة، وخاصة الأستاذ رشيد العفاقي والراحل سميّي محمد بولعيش، عن تاريخ أنجرة وطنجة والحياة فيهما، وهي كتابات جدية وجيدة.. في حكم العام والتعميم يمكن القول بأن الأجواء في البلاد لا تساعد على نشر الثقافة والتثقيف والإبداع؛ فالثقافة المنتشرة الآن في ربوع البلاد، بما في ذلك الشمال، هي ثقافة نواقض الوضوء والحيض والنفاس وزواج القاصرات والتكفير والتحريم والانغلاق والتحجر.
اخترت الاستقرار النهائي بالدار البيضاء؛ وهو اختيار ينطوي على نوع من الغرابة، باعتبار أن أبناء طنجة قلما يغادرونها نحو مدن “الداخل”، مثلما يجري على ألسنة كثير من “طنجاوة”.. فكيف استطاع السي محمد كسر القاعدة والعرف؟ وما الصورة التي تحضر بها المدينة الأصل وأنت تعيش في مدينة الاستقرار؟ وهل تمكنت من التكيف مع الأجواء المرتبطة ببيئة البيضاء؟
استقراري بالمدينة العمالية بامتياز الدار البيضاء لم يكن في البداية إلا اختيارا قسريا اضطراريا، وقد أشرت إلى ذلك في الكتاب.. لقد خرجت لتوّي من السجن، وبعد معاناة “سر واجي” مع وزارة التعليم وضعتُ أمام ثلاثة اختيارات: فاس وتجربة الدراسة الجامعية والاعتقال، الرباط مدينة المخزن والإدارة، البيضاء.. فاخترت الأخيرة التي لم أرتح إليها في البداية، بدليل أنني طلبت الانتقال منها مرتين؛ لكنني بدأت أكتشف فيها الوجوه الأخرى الإيجابية، واكتسبت فيها رفاقا وأصدقاء، وبها تعرفت على رفيقة حياتي، وفيها صلب عودي كمناضل يساري نقابيا وحقوقيا وسياسيا، فأصبحت مستحقا لـ”جنسيتي” البيضاوية باعتباري “مهاجرا” دون أن أفقد جنسيتي الطنجاوية الأصلية. ما لم يكن مشجعا لي على العودة إلى مدينتي الأصلية – بالإضافة إلى ما سبق ذكره – هو رؤيتي لعودة عدد من الأصدقاء إليها وكانوا شعلة من النضال والحماس، وقد صاروا بعد عودتهم رمادا لا يهتمون إلا بأمتار الأرض وأسعار اللبنات (الآجور) والإسمنت والرمل، فكنت أخشى أن تطالني العدوى فأفقد مبرر وجودي كآدميّ: النضال من أجل الأفضل..
يعزف السي محمد عن الظهور في الساحة الثقافية والأدبية في المغرب، بالرغم من التراكم الذي حققته على مستوى الترجمة والتجربة الإعلامية والمسار النضالي الحافل بالعطاء.. فما هي مبررات هذا الانزواء والعزوف عن الظهور في المناسبات الثقافية العمومية الرسمية منها والمدنية (وهنا أذكر أنك لا تتوفر على العضوية في اتحاد كتاب المغرب، على سبيل المثال)؟
لم أقدم أبدا طلبا للانخراط في الاتحاد سالف الذكر، لا تعففا ولا تواضعا، وإنما لسببين اثنين: أولهما أنني لا أعتبر نفسي كاتبا ولا مبدعا، فكيف أقدم طلبا للانتماء إلى مؤسسة لا أحس بأني من ضمن أعضائها ولا على شاكلتهم؟ وثانيهما أن الاتحاد لم يعد ذلك الجهاز المنخرط في النضال العام من أجل تحسين أوضاع البلاد والعباد، من أجل الحرية والفكر الخلاق وثقافة التغيير، وقد صدق بعض الأصدقاء حين أصبحوا يسمون اتحاد كتاب المغرب بـ”اتحاد كُسّاب المغرب”.. أما ما هو رسمي فإن الأوصياء على المنابر والمؤسسات الرسمية يستدعون من يتوسمون فيهم “الاعتدال” و”القبول”.. وعلى كل حال، أنا لن أهرول نحوهم ولن أطلب ودّهم، وقد أستجيب لدعوتهم إن ضمنوا لي حق وحرية التعبير عن مواقفي وآرائي بدون مقصّ أو سكّين.
في آخر اللقاء، ورد في ختام الكتاب/ السيرة (ص: 168) ما يلي: “هكذا كنت، هكذا أنا، هكذا سأستمر، أختار دائما الطريق الصعب، لا حبا في الصعوبة ولا سعيا وراء اختبار الذات؛ ولكن تكويني هكذا كان وهكذا بقي..”. فإذا سألنا السي محمد هل يمكن أن يسير على المنوال ذاته لو أنه أتيح له أن يعيد دورة الحياة من جديد؟
شخصيــًا، أنا معتز أيَما اعتزاز بتجاربي، بما عشته في مختلف أطوار حياتي، حتى المؤلمة منها، لأنني سأقول مع الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه: “لا شيء يجعل الإنسان عظيما غيرُ ألم عظيم”.. لست طاووسا حتى أنفش ريشي، ولست مدعيا بما ليس فيّ، فأنا مواطن بسيط عظيم بقدر احترامي لنفسي أولا وللآخرين الذين يستحقون الاحترام ثانيا، وبقدر دفاعي عن حقوقي بالشراسة اللازمة وقيامي بواجباتي على أكمل وجه ووفائي بالتزاماتي إلى أقصى حد ممكن.. أعرف قدري وقدر نفسي، وأقولها بكل غرور وافتخار: لو كتب لي أن أعود إلى البداية لفعلت ما فعلته وأقدمت على ما أقدمت عليه، لأن حياتي ليس فيها ما يعيبني ولا ما يبخس قيمة شخصيتي.