كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “تاريخ المغرب وإشكالية المصادر”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( كتابات في تاريخ منطقة الشمال )
الجمعة 12 يناير 2018 – 17:46:21
ونتيجة لذلك، عرف مجال النشر فورة استثنائية في الإصدارات المتخصصة الهادفة إلى العودة لتفكيك بنية المادة الوثائقية والمصدرية، وإلى توسيع دوائرها وأنواع مكوناتها، وإلى الانفتاح على تنوع مصادرها ومظانها، وإلى تحويلها إلى مختبر لسبر نتائج الجهد التنظيري منهجيا ومعرفيا المرتبط بتطور مدارس علم التاريخ عالميا، ثم تحديث ذهنيات قراءة المتون الإسطوغرافية المتنوعة، الكلاسيكية والمجددة، قصد إبراز تناقضاتها البنيوية وإعادة تنظيم الاشتغال على قضايا الطابوهات والمسكوت عنه المرتبطة بنظم حياة الفرد والجماعة وأنساقهما الفكرية والرمزية المتداخلة. فمن تاريخ الهامش، إلى التاريخ من أسفل، ثم التاريخ الميكروسكوبي، مرورا بنقد نزوات الإسطوغرافيات التقليدانية وانزياحاتها الوظيفية، تنهض مقومات الجهد الأكاديمي المبذول وطنيا للتأصيل لشروط كتابة تاريخية علمية ومجددة، جريئة ومبادرة، هادئة لكنها فاعلة، بطيئة لكنها مؤسسة.
في إطار هذا المسار العام، يندرج صدور كتاب “تاريخ المغرب وإشكالية المصادر”، للأستاذ مولود عشاق، سنة 2016، وذلك في ما مجموعه 96 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل، تجميع لسلسلة من الأعمال التنقيبية الرصينة الهادفة لتفكيك بنية المتن المصدري الإسطوغرافي التقليدي المغربي لعهود العصر الوسيط، بهدف تحويله إلى أرضية لإعادة النبش في البياضات وإعادة تركيب الوقائع وتجاوز منغلقات الكتابة التاريخية العربية التقليدية. ولقد حدد المؤلف الإطار العام لهذا النبش وآفاقه العلمية، عندما قال في كلمته التقديمية: “يجدر بنا بعد استجلاء بعض المكانزمات المتحكمة في نسيج واقع البحث التاريخي بالمغرب تحديد وضبط مورفولوجية المشاكل التي تكبح جماح مسيرته، وتحول دون انطلاقته، ولو أنه من باب المغامرة والمجازفة الإمساك بكل خيوط المشاكل التي تمثل قطب الرحى في بنية البحث التاريخي المغربي. لذلك فكل ما نود التوصل إليه في حقيقة الأمر مجرد فتح قوسين كبيرين حول أبرز المشاكل التي تطرحها المصادر التقليدية. لا مراء في أن المصادر التاريخية القديمة تتباين قيمتها الأفقية، وتتفاوت أهميتها العمودية، تبعا لطبيعة ومضمون ونوعية المادة التاريخية التي يستقي منها ويؤسس عليها المؤرخ فرضيات رواياته ونسغ بنائه التاريخي…” (ص. 12).
وللاستجابة لأبعاد هذا الأفق، كان لابد من إنجاز التصنيفات المصدرية الضرورية، قبل الانطلاق في مساءلة بنية السرد ووظائفه ومكوناته وأدواته ومنطلقاته وخلفياته. فالمؤرخ الإسطوغرافي التقليداني لم يتخذ مظهرا واحدا موحدا ولا صورة نمطية مستنسخة، بل ظل ينحو نحو اكتساب عدة صفات للتميز لا شك وأنها مدخل لفهم سر انغلاق متون العصر الوسيط المغربي وعدم تجانس بنية السرد والحكي داخلها، ليس –فقط- على مستوى أنماط التدوين، ولكن –كذلك- على مستوى الخلفيات الموجهة لفعل الكتابة وسقف الاجتهاد والتجديد داخلها. في هذا الإطار، كان لابد من التمييز بين فئة المؤرخين التي نقلت أخبارها عن الرواة والمؤلفين مع إضافة بعض البصمات الخاصة بدون ذكر المصادر والإحالات، وبين فئة ثانية حرصت على نقل أخبار الرواة بنوع من الأمانة والموضوعية بذكر الإحالات المسترسلة، ثم هناك فئة ثالثة من المؤرخين عمدت إلى نقل الأخبار والمرويات بطريقة اجترارية حرفية دون أن تكلف نفسها عناء التقصي والسؤال والتأكد من صحة الوقائع. وفي كل هذه الحالات، ظل الأستاذ مولود عشاق دقيقا في النبش في “التفاصيل الأخرى” البعيدة عن ذهنيات الاشتغال لدى المؤرخ الإسطوغرافي التقليداني، من خلال إثارة قضايا جوهرية عند مساءلة المضامين، من قبيل أسطورة تاريخ البطل، وغلبة إيديولوجية السلطة الحاكمة، وهيمنة الخطاب العجائبي، وطغيان النزعة العصبية، وسيادة النزعة المذهبية، وحضور الأسطورة والرؤيا والشعر والتاريخ والكرامة الصوفية في المتن المصدري، وأبعاد الجهل بالحقيقة التاريخية، وضوابط التعامل مع مشكلة “المؤلف المجهول”، ثم إشكالية استثمار الأحاديث النبوية الشريفة في ظل توزيعها الثلاثي بين أحاديث حسنة وأخرى صحيحة وثالثة ضعيفة، في علاقة ذلك بنزوع بعض المؤرخين نحو تأكيد الشرعيات واختلاق الوقائع وتبرير المواقف.
وبهذه القراءة العلمية الرصينة، استطاع الأستاذ عشاق تقديم عمل تفكيكي رائد، لا شك وأنه يقدم قيمة مضافة لحصيلة عطاء المدرسة التاريخية الوطنية التي نحلم باكتمال دورات نموها، كتعبير عن المنحى العام الذي أضحى يضمن انفتاح مؤرخي المرحلة على نتائج الجهد المبذول من أجل التأسيس لشروط التأصيل العلمي للبحث التاريخي الوطني المعاصر. لا يتعلق الأمر باستنساخ للمقولات الجاهزة المتمحورة حول أسطورة “إعادة كتابة تاريخ المغرب”، ولا بحرب افتراضية ضد الطابع النزوعي للكتابات العربية الإسلامية الكلاسيكية والكولونيالية المجددة، بقدر ما أنها اختزال للجهد الهادئ الهادف إلى الابتعاد عن لغة تقديس سلط “الأموات” الجاثمين على واقعنا الفكري الراهن، إلى جانب إسقاط القناع عن مهاوي التأويلات العائمة ذات الصبغة الإطلاقية الفضفاضة، قصد التخلص من شراك الزيف الإيديولوجي الوظيفي، بتعدد تعبيراته وبتجدد أدواته وبتلون خلفياته...