جماليات الكتابة في نصوص “أغسل وجه الماء”
الجمعة 03 يونيو 2016 – 10:26:17
يعدّ الأديب حسن اعبيدو من الأقلام الأدبية التي ظلّت، لوقت طويل نسبيا (زهاء ربع قرن)، تملأ الساحة الأدبية والثقافية في المغرب – وبالدار البيضاء ونواحيها تحديدا- بكثير من الدينامية والحيوية والنشاط؛ دونما أن تفكّر في إصدار أعمالها أو إنتاجها مطبوعا بين دفتي كتاب. وقد تحقّق، في مطلع السنة الجارية (2016)، أمل أو حلم طالما انتظره كثير من أصدقاء اعبيدو ومعارفه من الأدباء والنقّاد والمهتمين بالشأن الثقافي والجمعويّ داخل الدار البيضاء وخارجها؛ بل وحتى خارج حدود المغرب كله…
بعد أن أصدر هذا الأديب المتألق ديوان شعريا اختار أن يجمع فيه نخبة من النصوص (145 نصا) التي كتبها خلال فترات متفاوتة من مسيرته الأدبية، أطلق عليه عنوان “أغسل وجه الماء” (مطبعة اتفاق/ الدار البيضاء/ 2016). وفي هذه المقالة، اخترتُ أن أتحدّت عن سمات جمالية استوقفتني خلال قراءتي لهذه النصوص المتألقة والجذابة، إذ قليلة هي النصوص والكتابات الجديدة التي تستطيع أن تجذب اهتمام القارئ وتجلب انتباهه؛ لأن هذه القدرة (قدرة الجذب والجلب) تظل مرتبطة أشدّ الارتباط بحضور مكونات جمالية وسمات فنية معيّنة.
ومن هنا، يمكن القول إن هذه النصوص المضمنة في كتاب / ديوان “أغسل وجه الماء”، الذي نتشرف اليوم بتقديمه (أصل هذه المقالة ورقة ألقيت خلال حفل تقديم للكتاب يوم الأحد 20 مارس 2016 بالصالون الثقافي لمكتبة فرنسا بالدار البيضاء، بمناسبة اليوم العالمي للشعر)، تتوفر على جملة من هذه السمات الجمالية التي تشدّ القارئ وتجذبه إلى القراءة؛ أبرزها: التناص: إذا كان كثيرٌ من شعراء قصيدة النثر أو أغلبهم قد حرصوا، في النصوص التي يكتبونها، على الانفلات والثورة والقطع مع التجارب الشعرية السابقة ومع كل ما يمتّ إلى التراث الثقافي والأدبي العربي والإسلامي بصلة؛ فإن القارئ لنصوص الأديب حسن اعبيدو يلمس في كثير منها استحضارا واستلهاما لجوانب ومكونات متينة الارتباط بالتراث المشار إليه، وفق صورة / صور جديدة ومتجددة. وإذا أخذنا، هنا على سبيل المثال لا الحصر، مسألة التناص؛ فإننا نجد أن اعبيدو يستحضر في نصوصه التي بين أيدينا نصوصا من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي الشريف ومن الأقوال والأمثال السائرة في التراث المغربي وفي التراث العربي والإسلامي.
يقول اعبيدو في نص “قافلة”: “القافلة كسيحة لا تسير الجِمال تنبح والكلاب غيّرت مهنتها، فأصبحت تقرض الشّعر وترصّع الخطب وتلك الأمثال يضربها الزمنُ الأغبرُ” (ص: 38). وفي نص “مسبحة”: “ما الكون إلا مسبحة بيد عارف والكواكب حبّاتٌ تدور بين أصبعيْه تصل الرعشة منتهاها بين سبابة وإبهام زلزلت زلزالها كأنّها قلم بيد شاعر صبّت فيه أنهار الحال أسرارها فصمت ترك الورقة فارغة على عروشها حائرة ولا طاقة لحرف بأن يحدثك بأخبارها” (ص: 32)؛ وفي نص “حُبٌّ”: “إن أريد إلا الحب ما استطعت كلما صعدت سماء صدّني شواظ من هجر أمدّ يدي تهاجر أصابعي هذا الكف أعالج أقفال السماء بمفتاح الشعر أدير أدير فما يفتح أبوابه في وجهي غير اليتم” (ص: 33). وفي نص “عريٌ”: “الشجرة التي توهمتُها شقي أوعزت إلى أغصانها فجرّدتني من ما يواري سوأتي ثم استلقت على ظهرها تضحك قد اتخذتني هزؤا وأنا الذي انتخبتُها ظلي أهزُّ أمامها جذع قلبي فتساقط عليَّ منها رياحُ فضحي ويحي ويحي ويحي” (ص: 90)؛ وفي نص “ذئب”: “الذئبُ أكل أوتار الكمنجات، يا أبت فكيف يرقص التأويلُ على بياض النغمات؟ القوسُ يترنح بين يديك، يا أبت ولا نشيد إلا حيرة عيون البقرات تأكل الصمتَ وتقطع بسكين الانتظار رموشَها يا أبت، هذه بضاعتنا رُدّتْ إلينا كمنجاتٌ بلا أوتار وراقصاتٌ بلا أقدام وأهدابٌ تسدل على رموش من أشواك” (ص: 96)؛ ومن التراث الشعري العربي القديم، نقرأ في نص “سادية”: “ساديّ أنا.
كم أسعد حين ألهب ظهر الورقة؛ حتى يتفجر أنينها قصيدة تنشب أظافرها في لحم المتاه” (ص: 62). تلك أمثلة فقط من كثير من النصوص التي وردت ضمن هذا المجموع، والتي حرص فيها اعبيدو على الاقتباس من التراث العربي وفق توظيف جديد وخلاق يعطي الكثير من الدفق والجمالية للنص المقتبس. والحق أن سمة التناص تكاد تهمين على نصوص “أغسل وجه الماء”؛ فمن خلال عملية إحصاء لحضور هذه السمة النصوص يجد القارئ أن هذه السمة تحظى بنصيب وفير. وإلى جانب هذه السمة تحضر في نصوص الكتاب سمة أخرى لا تقل عن السابقة إبداعا وجمالية وهي: الميتا كتابة؛ فقد جعل حسن اعبيدو بعض النصوص تتمحور حول الحديث عن الكتابة ومتعلقاتها، إلى درجة أنه يبدو في كثير منها منشغلا بهاجس الإبداع والخلق الأدبي.
ويلمس القارئ، منذ كلمة المفتتح التي صدرها بها الكتاب ومرورا بالنصوص وليس انتهاء بالتدوينات التي يتقاسمها مع أصدقاء صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” بل حتى في هذه الكلمة قدّمها بين أيدينا قبل لحظات في هذه الجلسة، أن الحديث عن التجربة الشعرية وأسرار الكتابة يشكل الشغل الشاغل والهاجس الذي يؤرق بال الأديب المشاغب حسن اعبيدو… وهنا نورد، على سبيل المثال الحصر، نماذج من هذه السمة الجمالية التي منحت قدر غير يسير من المتعة على هذه النصوص؛ ففي نص “الشعراء”، يقول: ” الشعراءُ يتامى طردتْهم اللّغة فتوسّدوا ركبةَ المجاز فما قالوا ولا سألوا ولكن شبّه لهم هو الصمت غطاؤهم فقط يحرّكون الشفاهَ بالهلوسات متى جيوش الحمى اجتاحتْهم…” (ص: 17)؛ وفي نص “أحوالٌ”: “الشعراء حشوٌ في جملة الكون العارفون أدركوا السر فاختاروا أن يكونوا ضميرا مستترا لا يغريهم رقص القوافي المتغنجات كالغواني لا، ولا لباس المجاز وحده الحال عندهم يقول وحده يملك نحو التمييز بين الفاعل والمفعول” (ص: 51)؛ وفي نص “براءة”: “الحرفُ الذي يشبهني هو ابنُ زنا لا يلزمني لن أؤذن له في أذنه اليمنى لن أوثّق اسمه في ديواني…” (ص: 94)؛ ويأخذ هذا الانشغال لبوس السخرية في نص “عيد الأضحى”: “هؤلاء النسوة يأخذن الشعراء من اصطبلاتهم يشترينهم بثمن بخس ابتساماتٌ معدوداتٌ يعلّفنهم بشعير حرمان يسحبنهم إلى نهر التيه هنا يحلو الثغاء الشعراء يبعبعون مجازا يجترون قافية مردوفة موصولة بالفراغ وحين يأتي العيد تتزين النسوة يتخذن على الأرائك الزرقاء متكأ يشحذن سكاكينهن الرقيقة وكأيّ جزار محترف قُبلة واحدة تمر على العنق وتنتهي الحكاية ها هم الشعراء معلقون على الجدار الأزرق والنسوة يقطعن ما اشتهت عيونُهن استعاراتٌ للشي كناياتٌ للقلي وما تبقى من كلمات يصلح قديدا تنشره النسوة كلما أطلّت شمس من مخدعها تدسه في ثريد الضحكات يضربن عليه الدفوف ويحتفلن كلما حل يوم عاشوراء”. (ص: 56)؛ وفي نص “طائر”: “الشاعر كما الطائر الوجود عنده جناح مجاز وصوت شجى وقناص يتربّص به صبحا ومسا” (ص: 16).
ومن جماليات الكتابة في نصوص “أغسل وجه الماء”، نذكر سمة الحوارية: وظف حسن اعبيدو في عديد من نصوص هذا الكتاب هذه السمة الجمالية، إذ يقول في نص “الساعة”: ” كم الساعة –الآن- يا عمري؟ قالت المرآة: انظر إلى رأسك حلبة يتصارع فيها عقربان؛ الأول يهديك كل صباح شعرة بيضاء أو شعرتين، الثاني يحصد وجهك ويترك لنسور التجاعيد أن تأكل بقاياك وتأتي القصيدة آخر النهار كعطار يريد أن يصلح ما أفسده الزمان يكحل عينيك بمجاز حيرة ويمر على شفتيك بقلم الرعشة كم الساعة في العراق؟ كم هي في الرباط؟ كم مرّ على احتضار الفرات؟ كم بقي لأبي رقراق كي يلقي في الأطلسي آخر السكرات؟ كم الساعة –الآن- يا عمري؟ أدر معصمك وقل لي.. قال: الساعة موتٌ إلا دمعتين سترصهما القصيدة، بعد حين” (صص: 23- 24)؛ وفي نص “عازف”، ورد: ” قال الوليُّ: أيها المريد، خذ الناي واعزف قال المريدُ: أنا لا أعزف قال الوليُّ: أيها الناي، اضرب فم المريد قال النايُ: أنا لا أضرب فم المريد قال الوليُّ للرمل: افقأ عيون الناي قال الرملُ: أنا لا أفقأ عيون الناي قال الوليُّ للبحر: اعجن الرمل، وضعه يقلى في زيت النسيان قال البحرُ: أنا لا أعجن الرمل ولا أقليه قال الوليُّ للشاعر: اقتل البحر قال الشاعرُ: أنا أصطاد البحر بطعم المجاز، وأعجن الرمل، وأجعله يتقلب في مقلاة العشق، وأتلقفه بناي الرؤى، وأطعم فم المريد وكل عابر سبيل؛ حتى يعض أذن الوليّ، في كل حين، بنشيد جديد” (صص: 49- 50)؛ وفي نص “دواء”: “- ماجنٌ أيها الحرف، قال الساقي قالت الكأس: كلُّ فجور في محراب الشعر وكلُّ سفور هو هو ترياق بطعم الكيّ يرتّق شظايا الروح” (ص: 73)؛ وفي نص “نحوٌ”: “قال النحاة: الجملة مسند ومسند إليه قال العشاق: الجملة أنت، وما عداك حشو” (ص: 104)؛ وفي نص “معجزة”: “” قالوا: كيف تحيي القصيدة وهي رميم قلتُ: أزرعها جمرة بين يدي المؤوّلين” (ص: 108). وغير بعيد عن سمة الحوارية التي رأينا أنها تطبع عديدا من نصوص “أغسل وجه الماء”، يقف القارئ لهذه النصوص أيضا على سمة القصصية؛ فالمتأمل بعين فاحصة يجد أن نفسا قصصيا يسري بين سطور كثر من النصوص المضمنة في الكتاب؛ بل إنها هذه السمة تتعانق وتتواشج مع سمة الحوارية..
ولما كان التكرار، في سياقات معينة، يندرج في عيوب الكتابة ومثالبها ويمجّه القراء ويمقتونه؛ فإن حسن اعبيدو استطاع أن يجعل من التكرار، هنا في هذه النصوص، سمة جمالية أضفت الكثير من الإثارة والرونق وأسهمت في خلق نوع من الإيقاع للنصوص التي تضمنتها.
ففي نص “كحل”، يقول الشاعر: “عيني يمر عليها الخريف تساقط الأهداب تباعا تعتقها معصرة الريح ولا دمع يتلوها فأستريح عيني لا تتعاقب عليها الفصول وحده كحل الحيرة يمر عليها بمرود السؤال ولا رد إلا أن يلتهمك حوتُ الصمت وأنت كظيم أو تلقى في نار الخيبة فلا برد يطفئ رئتيك ولا سلام يستجيب” (صص: 37- 38)؛ وفي نص “حشو”: “لا حاجة للكون بالشمس متى أوقد الشعراء فانوس المجاز على إيقاعات ريح متمردة لا حاجة للكون بالشمس متى أشعل الفلاسفة خطاهم وهم يأخذون بيد الطريق إلى حيث يبلغ الخطو لذته لا حاجة للكون بالشمس متى أيقظ أهل الحال قلوبهم فأغناهم عن عبارات الشعراء وإشارات الفلاسفة فمتى جنّ الليل وطلع الشاعر من باب الجمال ونزل الفيلسوف من سماء البرهان وفاض صاحب السر من مشكاة التجلي استحيتِ الشمس ولبستْ خمار الغروب.” (صص: 84- 85). وقبل أن أختم هذه الورقة، أشير أن هذه النصوص المضمنة في الكتاب / الديوان تتوفر على سمات جمالية وفنية أخرى لا يتسع المجال للوقوف عندها هنا والآن؛ وذلك من قبيل سمة السخرية وسمة الانزياح وغيرها من السمات الجمالية التي منحت هذه النصوص قدرا غير متناه من الجذب والجلب.
على سبيل الختم: إن القارئ لهذه النصوص يخلص، بكل يقين ودون تردد، إلى أن كاتبها ومبدعها قارئ جيد ونهم لا يفتأ يغني رصيده الفكري والأدبي والثقافي واللغوي بالنهل والعلل من حياض المتون المؤسسة في الثقافة العربية والإسلامية. لكن اعبيدو لا يكتفي بهذه القراءات وحدها؛ بل يغنيها ويغذيها بجولات وسياحات استطلاعية في المحيط الذي يعيش فيه، وهو ما منحنا هذه النصوص / الدرر اللوامع والجواهر الفريدة عالية الجودة والغنية في المبنى والمعنى.