كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” حرب الريف التحريرية ومراحل النضال ( 1 ) “
الجمعة 06 ماي 2016 – 11:32:39
صدرَ الجزء الأول من كتاب “حرب الريف التحريرية ومراحل النضال” للحاج أحمد البوعياشي سنة 1974، وذلك في ما مجموعه 460 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب – في حدود علمنا المتواضع – يظل أول مرجع تصنيفي حول السيرة البطولية لملحمة الريف الجهادية ضد الاستعمار وأذنابه بمنطقة شمال المغرب. فهو – بذلك – عمل غير مسبوق في مجال اهتمامه، سعى صاحبه من خلاله إلى التوثيق للتجربة النضالية للبطل محمد بن عبد الكريم الخطابي وإعادة قراءة العناصر الضرورية للدراسة عبر ربطها بوسطها المغربي الخالص وبقيمه الحضارية الكبرى التي راكمها الشعب على امتداد عقود زمنية طويلة.
لذلك، فقد اعتبر صدور هذا الكتاب حدثا علميا بارزا طبع ساحة النشر ببلادنا وجعل الباحثين الأكاديميين يعتمدونه كرؤى وكمنطلقات مرجعية أساسية في كل محاولات التأريخ لحرب الريف الجهادية، خاصة وأن مجال الدراسة كان – حتى ذلك الحين – حكرا على الباحثين الأجانب، في حين كانت الساحة الوطنية لاتزال تعيش تداعيات تجربة البطل ابن عبد الكرين الخطابي داخل المشهد السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال. وحتى بالنسبة للأكاديميين المغاربة، فالموضوع كان لايزال بكرا وخاضعا للكثير من الرؤى النوستالجية الحالمة التي اختلط داخلها الخيال بالواقع، الأسطورة بالتاريخ، الفضول العلمي بالاندفاع العاطفي، النزوعات الوطنية الصادقة بالطابوهات السياسية المرتبطة بإكراهات الراهن. لذلك، لم يكن غريبا أن يحتل الكتاب المكانة العلمية الرفيعة التي ظل يحظى بها حتى يومنا هذا، كما أنه لم يكن غريبا على الباحثين المغاربة المعاصرين أن يعتمدوه كأول بادرة توثيقية وطنية أعادت الاعتبار لدروس حروب الريف التحريرية، استنادا إلى معرفة دقيقة بالمجال المدروس، وإلى إلمام واسع بأهم مكونات الكتابات العربية الإسلامية، وإلى تنقيب دقيق في ركام هام من الوثائق الدفينة ذات الصلة.
وإذا كان المؤلف لم يوزع كتابه بين فصول قائمة الذات، فإنه اعتمد – في المقابل – على تصنيف موضوعاتي تدرجت فيه قضايا الدراسة حسب تسلسلها الزمني، وحسب ارتباطاتها الجغرافية والتاريخية والسياسية بالتاريخ الوطني العام. هكذا، وبعد الكلمة التقديمية التي وضح فيها المؤلف الحدود المنهجية لدراسته، انتقل لتفصيل الحديث عن سيرة الزعيم ابن عبد الكريم الخطابي، مركزا في ذلك على التعريف بأصول الأسرة الخطابية، وبقرية أجدير، وبقبيلة بني ورياغل مسقط رأس الزعيم، وبالبيئة العلمية والثقافية التي نشأ فيها ابن عبد الكريم، وبظروف إقامته بمدينة مليلية عند بداية مسيرته ثم بأسباب سجنه بهذه المدينة، وبأسباب احتجاج فرنسا لدى إسبانيا بسبب دفعها القبائل الريفية للعمل إلى جانب الألمان ضد المصالح الفرنسية. وفي سياق آخر، عاد المؤلف لتقديم جزئيات هامة حول الوسط الطبيعي والتاريخي لمنطقة الريف، من خلال الوقوف عند ظروف هجرة قبائل زناتة للريف، وعند المعطيات الطبيعية العامة المتعلقة بمنطقة الريف، ثم من خلال تعريفه بالحضارات التاريخية التي ظهرت على شواطئ المنطقة. في هذا الإطار، فصل الحديث طويلا عن ظروف تأسيس العرب لمدينة النكور ثم لمدينة بادس، وكذا عن الأدوار الجهادية والعلمية التي قامت بها المراكز الشاطئية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، معتمدا في ذلك على تتبع تقلب أحوال هذه المراكز التاريخية خلال عهد كل من الأدارسة والموحدين والمرينيينوالوطاسيين والسعديين.
ولتوسيع مجالات الدراسة، لم يكتف المؤلف بالوقوف عند ظروف احتلال الثغور الشمالية من طرف الإيبيريين منذ مطلع القرن 15 م، بل تجاوز ذلك لإثارة موضوع الحدود المغربية التاريخية والملابسات الاستعمارية التي مكنت الإسبان من احتلال منطقتي وادي الذهب والساقية الحمراء بالصحراء المغربية. وتحت عنوان مثير : “البندقية والبطولة ضمان الوحدة الوطنية”، عاد المؤلف لرصد أهم التجارب الجهادية التي بلورها أهالي الشمال عند مطلع القرن 20، وذلك من خلال التعريف بطرقهم الحربية، وكذا بالسير النضالية العطرة لكل من المجاهد محمد أمزيان والمجاهد محمد العزوزي والمجاهد عبد الكريم الخطابي ( الأب ). وفي آخر مواد الكتاب، أدرج المؤلف مادة توثيقية هامة حول سيرة المتمرد الروكي بوحمارة الذي حاول الخروج عن شرعية الدولة بفرض سلطته على منطقة الريف وسلخها عن الجسد الوطني، مستغلا في ذلك ضعف مخزن مولاي عبد العزيز واضطراب الأوضاع العامة بالبلاد عند مطلع القرن 20.
وعموما، وعلى الرغم من كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها على هذا العمل، فالمؤكد أن الحاج أحمد البوعياشي قد أغنى المكتبة التاريخية الوطنية بعمل رائد، اعتبر حصيلة ثرية لسنوات طويلة وشاقة من البحث والتنقيب الميدانيين، ومن التفحص العميق في أمهات المصادر العربية والإسلامية والمخطوطات المحلية والوثائق المخزنية الدفينة. وبفضل هذا المجهود نجح المؤلف في تقديم المعطيات التأصيلية الخاصة بالتجربة الجهادية للبطل محمد بن عبد الكريم، الشيء الذي اعتبر مفتاحا لفهم خبايا وحيثيات الصراع العنيف الذي قادته المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي في الشمال خلال مرحلة ما بعد التوقيع على عقد الحماية.