حرف وعادات أهل شفشاون المنقرضة أو المهددة بالانقراض ـ 1 ـ
جريدة الشمال – محمد القاضي ( عادات وتقاليد اهل شاون)
وبالنسبة لمدينة شفشاون الواقعة في أقصى الشمال الغربي للمملكة المغربية على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر، وهي ذات مناخ جبلي جاف على العموم، ترتفع فيها درجة الحرارة لتصل في بعض الأحيان إلى أكثر من أربعين درجة مئوية، وتنزل إلى دون الصفر أحيانا أخرى في فصل الشتاء. تبعد عن مدينة سبتة بمائة كيلمتر وعن تطوان بستين كيلمتر. أسسها علي بن راشد العلمي سنة 876هـ 1471م لتكون قلعة للمجاهدين الذين وجدوا في موقعها الاستراتيجي مكانا حصينا تتجمع فيه قوافلهم التي كانت تنطلق في اتجاه الثغور المغربية الشمالية للمقاومة ضد الاحتلال البرتغالي، فأصبحت دار إمارة ومركزا تخطيطيا للدفاع والهجوم ومأوى لأسر المجاهدين ومقر سكن لهم، وهو ما يعكس في واقع الأمر حقيقة الظروف الحربية التي واكبت بناء المدينة، فجاءت محمية من الخلف ومشرفة على باقي الممرات والمداخيل المؤدية إليها من الجهة المقابلة.
وكان استقرار مدينة شفشاون مرهونا بتحصين الثغور المواجهة للعدو، وبالسهر على تفقد أحوالها وتزويدها بما تحتاج إليه من عدة ورجال. وكانت هذه المراكز تحتاج دعما ماديا وبشريا، خصوصا أن البرتغاليين كانوا يسيطرون على أجزاء كثيرة من السهول القريبة من المدينة، وقد شن مؤسس المدينة التي أصبحت إمارة مستقلة تحت قيادته حربا لا هوادة فيها على البرتغاليين، وأعطى لنفسه حنكة الأمراء المستقلين، وأظهر كثيرا من الحزم، وساس منطقة حكمه سياسية جعلت المؤرخين فيما بعد يتحدثون عنه بكثير من الاحترام والتقدير، واستمرت إمارة الرواشد لنحو قرن من الزمان (من 876هـ إلى 969هـ/ 1471-1564م) وكانت تشمل مناطق من جبال غمارة وبعض البلاد.
• هجرة الأندلسيين :
عرفت المدينة ثلاث هجرات أندلسية، الأولى سنة 888هـ/1483م فأنشأت بها حومة (حي) الخرازين وحومة الصبانين. والثانية سنة 898هـ/1493م حيث حلت بها مجموعة من الأسر الأندلسية وكانت السبب في إنشاء حومة ريف الأندلس وكانت تغطي حوالي ثلث سكان المدينة. والثالثة كانت سنة 907هـ/ 1502م والتي نتج عنها إنشاء حومة جديدة بالمدينة وهي حومة العنصر.
وقد أحدث هؤلاء تطورا مهما في إعمار المدينة والحفاظ على الطابع الأندلسي في البناء والتشييد، ويلاحظ هذا في المساجد العتيقة والحمامات والفنادق والبيوتات الكبرى بفضائها المفتوح وزخرفة سقفها وأبوابها زخرفة أندلسية بالألوان الطبيعية ونوافذها المستطيلة والمربعة ذات الشبابيك الحديدية الرائعة الصنع، وزجاجها الملون تشبه في ذلك النموذج الشامي. ثم أبواب المدينة وأقواسها وأزقتها الضيقة ودروبها الملتوية، والجدران المصبوغة بالأبيض، كما أن حضارة الأندلس حاضرة في تطريز الألبسة النسائية والرجالية، وفنون النقش على الخشب وفن الدرازة والخرازة والخراطة والمطاحن، وقد عرفت المدينة عبر حقبها أن بعض الأسر الأندلسية كانت تختص بحرفة من الحرف وتشتهر بتجارتها كصناعة الصوف والحرير والجلد والنجارة وغيرها، كما أن هناك تقليد أندلسي (غرناطي بالخصوص) جميل هو ولوع النساء بالنباتات وخصوصا زراعة الحبق.
ومن المظاهر التي يتجلى فيها التأثير الأندلسي الموريسكي الملابس كالسلهام والصدرية والفراجية والتحتية والمضمة والحايك الذي كانت تستعمله المرأة في شفشاون عند الخروج، والسبنية والشربيل والريحية والأحزمة والحراز وأغطية الأفرشة والموائد والمخدات المطرزة بالحرير، والمائدة الأندلسية حاضرة هي الأخرى في الوسط الشفشاوني بأطعمتها المختلفة كالإسفنج، والتفايا، والتريد، والثردة، والدشيشة (السميد) والمجبنة والرغايف وبعض أنواع الحلويات، وحتى الأدوات المنزلية لا تخلوا هي الأخرى من أندلسيتها.
أما الموسيقى الأندلسية فإنها باقية بأنغامها وشداها تطرب الأسماع في المناسبات، بل ويقام لها مهرجان سنوي تحضره الوفود من جهات مختلفة من المغرب بل ومن خارجه فأطلقوا عليها أسماء عديدة؛ بنت الحمراء، غرناطة الصغيرة، فردوس المغرب الأندلسي، وديعة الأندلسيين بالمغرب.
وعلى العموم فإن مدينة شفشاون محروسة بالتقاليد الاجتماعية الصارمة في الطقوس والاحتفالات الدينية والاجتماعية. زارها الأديب أمين الريحاني سنة 1939م وكانت تعيش تحت الاحتلال الاسباني فوصفها قائلا:
“شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق… الصروح البيضاء، المفتوحة بتيجان الحصون، الحاملة خارجات وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية شكلا ومعنى –جملا وتفصيلا- في النقش والتلوين وقل الغناء، وإن أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان”.
وتبقى شفشاون كما وصفها الشاعر المغربي المرحوم محمد الحلوي:
شفشاون يا مهد الجهاد وقلعة = للدين كانت في القديم ولم تزل
يا فتنة الشعراء هل ينساك من = ملأت رؤاك عيونه وبك انشغل؟
من لا يزال بقلبه وعيونه = أعمى عن الإلهام في دنياه ضل
أنّى اتجهت رأيت سحرا ماثلا = ومتى نهلت اشتقت بعد إلى علل
في صمتها سحر، وفي نسماتها = عطر وفي شلالها كنز هطل.
يشكل المجتمع الشفشاوني جزءً من المجتمع المغربي، يشترك معه في مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والطقوس والحرف والمهن توارثتها أجيال بعد أجيال منها ما انقرض وتلاشى مع الزمان ولم يعد له وجود إلا في الذاكرة الشعبية والأمثال، بعدما داستها عجلات التطور، ومنها ما زال يذكر اسمه في بعض الأحياء والأزقة (الخرازين، الصبانين، الصياغين، الدباغين..الخ)، بل وحتى في أسماء العائلات العريقة (الصبان، الخراز، الدباغ، الدراز، الطبال، اللامين، اللحام، الغسال، الكراب، العطار، الخباز، الحايك، الصباغ، الغزال، الحداد، النجار، المؤدن، الفقيه…الخ). ومنها ما يزال يصارع التطور والحداثة من أجل البقاء، أو هي في طريق الاندثار والزّوال.
نقوم في هذه الدراسة بإطلالة على جزء من ذاكرتنا لمؤانسة ذاكرة النسيان، ونحن نعرف ببعض المهن والحرف المرتبطة بعادات وتقاليد ساكنة مدينة شفشاون، دون أن ندعي الإحاطة بها كلها.
ولابد من التذكير هنا بأن هذه الحرف والمهن هي تقليد عربي، بربري، يهودي، كانت موجودة بالأندلس وانتقلت إلى المغرب واستمرت على نفس المنوال، ومنها ما تطور حسب الظروف والمحيط الذي انتعشت فيه بعد اندماجهم مع السكان الأصليين فأثروا وتأثروا وانتظموا فيما بينهم، وكونت وحدة متكاملة ومندمجة تميزت بخصوصياتها من مدينة لأخرى ومن بيئة لأخرى ولله في خلقه شؤون. فالعرب كانوا يحترفون الفلاحة والغراسة ونسج الحرير والغزل والنسيج والتجارة فيهما، وبيع العطر والشمع واللبن والفاكهة والخضر والخبز. أما البربر فقد امتهنوا العديد من الصنائع مثل ظفر الحلفاء والقنب والحبال وصناعة المحاريث والسلال والبراذع والشطاطيب وحمل الماء والبناء، والفحم. أما الموالي فمن صنائعهم الحياكة والخرازة والنسج وسبك الحديد وصناعة آلات الحرب والنحاس وآلات الخيل وسرجه، وامتهنوا كذلك الصباغة والحجامة والتطبيب والطحن وخراطة العود، ونجارة الخشب وتسمير البهائم. ومن خدماتهم للمجتمع ضرب الطبول والبنود والقيام بالمساجد والآذان ورصد الوقت ودفن الموتى وحفر القبور وحراسة الأسواق ليلا وحراسة الفنادق وحمل السلع من بلد إلى بلد.
وامتهن من أسلم من اليهود بخياطة الملف والثياب وظفر القيطان ونسج العُقل والقلنصوات وصبغها والحجامة والدلالة في الأسواق وإصلاح النعال المخروزة. أما الموالي منهم فقد اشتغلوا بصناعة الصابون والفانيد وتشبيك الفداوش والشعرياء والتريد والمقروض، وتسفير الكتب وتزويق الخشب وتركيب المناسج وضرب الدينار والدراهم وحلي النساء وفرط الجمان وخدمة الزجاج وتصفية المعادن وصناعة القدور، ومن خدماتهم طبخ الأخباز والأسفنج والشواء وعصر الزيت وحملها وتخليص الرباع وتزليجها وخدمة الحمامات وسقاية الماء وكراء الأواني (ينظر ذلك بالتفصيل في كتاب (ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم) لمؤلف مجهول / تحقيق عبد القادر زمامة نشره في مجلة (البحث العلمي) العدد: الثالث والرابع، السنة الأولى- 1964م). وذكر ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة” أن نساء الأندلس اشتهرن بمهن مارستها هي الأخرى في المجتمع كالطبيبة والحجامة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والمعلمة والمستخفة والصانعات في المغزل والنسيج. (ص:19)….
(يتبع)