حقوق الـــجـــوار
الجمعة 10 فبراير 2017 – 16:31:16
يقول الله جلّ علاه: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا”، يرشدنا المولى جل جلاله بهذه الآية الكريمة إلى الخلال المشتملة على معالم الأمور من عبادته وحده والخضوع له خضوعا تاما، والإحسان إلى الوالدين بخدمتهما والقيام بمصالحهما والحذر من إلحاق أي نوع من أنواع الأذى بهما، والإحسان إلى صاحب القرابة من ولد وأخ وعم وخال ونحو ذلك بالزيارة والصلة والهدية والإحسان إلى اليتامى والمساكين من الأجانب بالصدقة والقول الجميل، والإحسان إلى الجار قريبا كان أو أجنبيا بالمحافظة عليه وكف الأذى عنه والإحسان إلى الصاحب والرفيق في سفر أو حضر، بمعاونته والإخلاص له وقضاء ما يحتاج إليه والإحسان إلى الضيف الذي يمر ببلدك أو ينزل في بيتك بإكرامه والعمل على توفير راحته، والإحسان إلى خدمك وغلمانك بحسن معاملتهم وتكليفهم مالا يشق عليهم، ثم بين سبحانه أنه لا يحب المتكبر المختال الفخور، الذي يأنف من أقاربه وجيرانه ويتعالى عليهم بمنصبه وجاهه.
فذلك الإرشاد الحكيم يعرف كل مسلم أن عليه حقوقا لربه وحقوقا لوالديه وحقوقا لأقاربه، وحقوقا لليتامى والمساكين من أبناء ملته، وحقوقا لجيرانه وحقوقا لخدمه وغلمانه، لو قام بها ورعاها حق رعايتها لأصبحت الأمة الإسلامية بأسرها أسرة واحدة قوية لا تنفصم عروتها ولا تنحل عقرتها، يتعاون أفرادها على تدليل عقبات هذه الحياة وتسهيل صعابها والتمكن من الانتفاع بها، بل لو التفت المسلمون إلى نوع واحد من أنواع هذه الحقوق هو حق الجار على جاره وقاموا به على وجهه لأصبحوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، لم يجد التأخر والانحلال إلى صفوفهم سبيلا ،ولقد ورد الشرع الإسلامي بوجوب مراعاة حقوق الجوار، وأكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من الحث على حفظ الجار، واشتدت وصية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الجار حتى قال عليه السلام: ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه”، وبلغ من عنايته صلى الله عليه وسلم ببيان تلك الحقوق أن قسم الجيران إلى ثلاثة أقسام فقال: “الجيران ثلاثة: “جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم ذو الرحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم، وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الإسلام وحق الجوار، و أما الذي له حق واحد فجارك الذمى له حق الجوار فقط”، وقد بين صلى الله عليه وسلم جملة هذه الحقوق التي تجب على الجار لجاره حين سأله بعض أصحابه يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: “إن استعان بك أعنته وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، و إن دعاك أجبته، و إن مرض عدته، وإن مات شهدته، وإن أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبناء لتحجب عنه الريح إلابإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيض بها ولده، ولا توده برائحة قدرك إلا أن تغرف له منها،” ثم قال صلى الله عليه وسلم: ” تدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلامن رحمه الله”.
فهذه هي حقوق الجوار بينها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم فليستفسر كل منا في نفسه وليفكر في ماضيه وحاضره، هل قام بها أو ببعضها أو بشيء منها لجيرانه؟ رحم الله تلك الأيام الخالية التي كان فيها ساكنوا كل ناحية كأنهم أهل بيت واحد يواسى غنيهم فقيرهم ويحترم صغيرهم كبيرهم ويعين قويهم ضعيفهم، ويسعى كل منهم فيما يصلح شأن الباقين كان شعارهم الألفة و المودة، لا يخطر ببال واحد منهم أن يؤذي جاره أو يسعى في إلحاق الضرر به، أما الآن فقد علمتنا المدنية الحديثة وأوحت إلينا الحضارة العصرية أن نتجاهل هذه الحقوق ونتغاضى عنها، ونزعم أنها لا توافق حالتنا ولا تتناسب وطبيعة الزمن الذي نعيش فيه، فترى العشرات من الناس يسكنون عمارة واحدة وتمضي عليهم السنة والسنتان دون أي يعرف واحد منهم الأخر أو يشعر بألمه أو يفرح بفرحه، وجرتنا هذه الحال المنكرة إلى التقاطع والتدابر والجفاء و الغلظة والشح و عدم المروءة، ووقعنا فيما يهدم بنيان وحدتنا من حقد الفقراء على الأغنياء وحسد المحرومين لذو المال والثراء وتربص بعض الناس دوائر السوء بالاخرين، وانتشار اللصوصية وتفشي الأمراض الخلقية، فلا حول ولا قوة إلا بالله وكما بين صلى الله عليه وسلم حقوق الجوار ذلك البيان بالغ في التنفير من إذاية الجيران حتى نفى حقيقة الإيمان عمن يوذى جاره، أخرج الشيخان مرفوعا: “والله لا يومن والله لا يومن والله لا يومن، قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هذا؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه؟ قال شره”، فالإيمان الذي هو غاية المؤمن وعليه يتوقف إكرام الله له في الدنيا والآخرة لا يتم ولا يكمل إلا إذا آمن جاره أذاه وشره، ومن ذا الذي يسمع هذا الحديث الشريف ولا يتجنب إلحاق الأذى بجاره محافظة على كمال إيمانه وطلبا لنجاة نفسه من عذاب الله، وفي الصحيح قيل يارسول الله: فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتوذى جيرانها، قال: هي في النار، قيل يارسول الله: فلانة تصلى المكتوبات وتتصدق بالاثوار من الأقط ولا توذى جيرانها، قال هي في الجنة”، فجعل إيذاء الجيران مبطلا لثواب الأعمال الصالحات وترك الإذاية لهم سببا لقبول الأعمال والفوز بدخول الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم في ءاخر خطبة خطبها بالمدينة: ” ومن آذى جاره من غير حق حرم الله عليه ريح الجنة ومأواه النار، ألا وإن الله تعلى يسأل الرجل عن جاره كما يسأله عن حق أهل بيته، فمن ضيع حق جاره فليس منا”، وأخرج الشيخان مرفوعا: “من كان يومن بالله واليوم الأخر فلا يوذى جاره، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”، وأخرجا أيضا: ” من كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره”، قالوا ومن الإكرام كف الأذى وبذل الندا”، وأخرج أبو الشيخ مرفوعا: “من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله”، وأخرج أحمد و الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال عليه السلام: لأن يزنى الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزنى بامرأة جاره، قال فما تقولون في السرقة؟ قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينصح أصحابه بالصبر على أذى الجار وعدم مقابلة إساءته بمثلها، من ذلك ما رواه الطبراني و أبو داوود وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه على شرط مسلم، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا جاره فقال له اصبر، فجاء ثانية وثالثة فكان يأمره بالصبر، فلما جاء الرابعة قال له اطرح متاعك في الطريق، ففعل الرجل ما أمر به فجعل الناس يمرون به ويسألونه عما نابه فيقال لهم له جار يؤذيه، فكانوا يقولون لعنه الله فاثر ذلك في قلب جاره فأتى صاحبه وقال له رد متاعك، فوالله لا أعود لما يؤذيك، وعلى سنته صلى الله عليه وسلم جرى أصحابه رضي الله عنهم، روي أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال له: إن لي جارا يؤذينى ويشتمني ويضيق علي، فقال له إذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه، ولم يشر عليه بالانتقام لنفسه حتى ينحصر الشر في أضيق دائرة، ولأن تناسى الإيذاء كثيرا ما يؤدى إلى ندم المؤذي ورجوعه باللوم على نفسه، مصداقا لقوله تعالى: ” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”، وصح حديث: ” من جملة من يحبهم الله رجل كان له جار يؤذيه فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت”، وعن الحسن البصري” ليس حسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار الصبر على أذى الجار”، وفي تاريخ المسلمين الأولين من مراعاة حقوق الجار ما يدعوا إلى العظة والاعتبار، من ذلك ما روى أن بعض الصالحين شكا كثرة الفيران في بيته، فقيل له لو اتخذت لك هرا لكفاك شرها، فقال أخشى أن تسمع الفيران صوت الهر فتهرب إلى بيوت الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.
لو قارنا بين ما كان عليه سلفنا الصالح وبين ما نحن عليه في هذا الزمان لوجدنا أن صلتنا بهم قد انقطعت، فإننا لا نرى الآن إلا تناكرا وتباغضا بين الجيران ولا نحس إلا افتنانا في أنواع الأذى وتنافسا في إحداث الفتن وعدم الاعتداد بحقوق الجوار، وفي الحديث: ” كم من جار يتعلق بجاره يوم القيمة، يقول يا رب سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله”.