كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “دراسات في تاريخ المغرب”
الجمعة 29 يوليــوز 2016 – 11:29:25
صدرَ كتاب “دراسات في تاريخ المغرب” لمؤلف محمد رزوق سنة 1991، في ما مجموعه 183 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، وذلك في محاولة لتجميع خلاصات العديد من الدراسات والتنقيبات التي انشغل بها المؤلف على امتداد فترة زمنية طويلة من البحث الجامعي المتخصص. وإذا كان الكتاب يطرح قضايا عامة تتقاطع مع قضايا وطنية تهم كل بلاد المغرب بدون تمييز بين هذه الجهة أو تلك، فإن تركيزنا على إدراجه ضمن زاوية “كتابات في تاريخ المغرب”، يعود أساسا إلى كون المؤلف أصبح يعد أحد أبـرز المؤرخين المغاربة المعاصرين المتخصصين في دراسة إبدالات تاريخ الأندلس وعموم الأندلسيين خلال مطلع العصور الحديثة المؤطرة زمنيا بالفترة التاريخية الممتدة بين بداية القرن 15 وبداية القرن 18م. ولقد عكس هذا الاهتمام في العديد من الأعمال التي عرفت طريقها إلى النشر، وخاصة أطروحته المتميزة “الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 17 و18”.
لذلك، فـإن الاهتمام بالتّعـريف بأعمـال “محمد رزوق” يظل جُزءًا من العمل الواجب بذلـه من أجـلِ المُقـاربة التـوثيقية لمعالم ذاكرتنـا الأندلسية التي طبعت هويتنا الجماعية بميزتها الخاصة، والتي لازالت الكثير من معالمها قائمة إلى يومنا هذا. فالبعد الأندلسي في مكونات هذه الهوية المشتركة يعتبر عنصرا ناظما لعدة أنساق جمالية تطبع أداء أذواقنا الفردية والجماعية، ولنظم معيشية لاتزال قائمة في وسطنا العائلي الحميمي، ولمضامين لسانية مؤثرة في لغاتنا ولهجاتنا المتداولة. ونظرا لكل هذه الخصوصيات، فقد أضحى من اللازم اعتبار إبدالات التاريخ الأندلسي جزءا من تواتر وقائع التاريخ الطويل لبلاد المغرب، بل يمكن القول إن جسور التأثير والتأثر قد ظلت قائمة بين وقائع هذه الضفة وتلك، منذ الفتح الإسلامي إلى يومنا هذا.
ولعلّ قراءة تطور مسار تاريخ الضفتين سيكشف عن تقابلات عميقة عكسها الماضي المشترك، وجسدها وعي الناس وأشكال التعبير عن هذا الوعي. وبالنسبة لمنطقة الشمال في حدودها الجغرافية الحصرية الضيقة، فالمؤكد أن التأثيرات أعمق، وتيارات الفعل والتفاعل المتبادل أكثر قوة. لذلك كان من الطبيعي أن تترسخ صور تقابلية مثيرة في نظرة كل من سكان الشمال وسكان الأندلس تجاه بعضهم البعض، صور تصبح معها منطقة الشمال امتدادا لتراث حضاري أندلسي إيبيري خالص، وتصبح معها بلاد الأندلس امتدادا لتطورات حضارية إسلامية خالصة.
تتوزَع مضامين كتـاب “دراسات في تاريخ المغرب” بين أربعة عشر مادة تركيبية، ساهم بها صاحبها في ندوات أكاديمية وجامعية وطنية ودولية، أو نشرها في مجلات مغربية أو عربية متخصصة، اهتمت بقضايا من التاريخ العام المغربي، لكنها ركزت على قضايا طبعت التاريخ الإيبيري لمغاربة القرون الماضية. ففي المادة الأولى، تناول المؤلف قضية الرق في تاريخ المغرب، وانتقل في المادة الثانية للبحث في وضعية الجالية الأندلسية بالمغرب العربي وتحديدا بكل من تونس والجزائر. وفي نفس السياق، سَعَى المؤلف إلى توسيع دوائر بحثه بتقديم تأصيل تاريخي حول التواصل الثقافي بين أقطار المغرب العربي. وفي المادة الرابعة، انتقل المؤلف للبحث في جذور الدولة العصرية بالمغرب من خلال الاهتمام بتشريح المحاولات الجادة التي أنتجها القرن 19م بهذا الخصوص. وعلى مستوى آخر، قدمت الخامسة نبشا في تطور العلاقات المغربية الإسبانية خلال القرن 16م، وتحديدا خلال العهد السعدي الأول.
وللاقتراب من القضايا المنهجية في كتابة التاريخ الوطني، سعت المادة السادسة إلى التعريف بدور الكناشات في الكتابات التاريخية المغربية، واهتمت المادة السابعة برصد أوجه العلاقات العربية الإفريقية في القرن 16م، من خلال الاهتمام بالبحث في خبايا الوجود المغربي بالسودان الغربي. أما المادة الثامنة، فقد قدمت معطيات جديدة حول قضايا الجهاد البحري في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وقدمت المادة التاسعة قراءة في إحدى صفحات التاريخ المشترك بين اليمن والمغرب خلال القرن 16م من خلال الوقوف عند حيثيات التهديد العثماني للبلدين. وعلى نفس المنوال، اهتمت المادة الموالية بتقديم قراءة في إحدى الصفحات من التاريخ المشترك بين المغرب والخليج العربي خلال القرن 16م، من خلال التركيز على إبراز الطابع الموحد للتهديد البرتغالي للمنطقتين. واستكمالا لخلاصات هذه المادة، اهتم المؤلف بتقديم ملاحظات منهجية حول كتابة تاريخ الأمة العربية، من خلال نموذج تاريخ المغرب خلال القرنين 16 و17 الميلاديين. وفي سياق آخر، عاد المؤلف لإثارة قضية الشعوبية في التاريخ الإسلامي، كما قدم في المادة الموالية وثائق جديدة عن الحركة الفكرية في العهد السعدي. وفي آخر مواد الكتاب، نشر المؤلف وثائق جديدة عن أسرى مغاربة كانوا رهن الاعتقال بكل من مالطا وإسبانيا خلال القرن 18م.
وبهذه المواد المتنوعة والمتكاملة، قدم محمد رزوق خلاصات كبرى حول مجال اشتغاله الأكاديمي بالبحث في تاريخ المغرب خلال العصور الحديثة. إنها دراسات عميقة تجمع بين النفحات الأندلسية العميقة في ذاكرتنا المشتركة، وبين امتداداتها الوطنية الأصيلة، ثم بين ظلالها العربية الوارفة.