كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
الخميس 16 فبراير 2017 – 12:37:08
لا شك أن الاقتراب من العوالم الإبداعية للفنان التشكيلي خليل الغريب قد أضحى أمرا محفوفا بالمخاطر. ولا شك أن التوثيق لتجربة هذا الفنان الصوفي يظل أمرا غير مكتمل الأركان، مادام القبض بتفاصيل حصيلة المنجز قد تحول إلى لهاث وراء السراب، سراب عوالم خليل الغريب التخييلية، وسراب وجوهه المتدثرة بقيمة الفناء، وسراب أعماله المحكومة بمنطق الاندثار والتلاشي. ولا شك – كذلك – أن كتابة تاريخ الممارسة التشكيلية المعاصرة بمدينة أصيلا، لا تكتمل بدون الانكباب لتشريح مسارات تجربة خليل، في علاقتها بتفاعلات المحيط، وفي سكينة الوسط المحلي الأصيل الذي أثثه خليل بعوالمه وبنيازكه وبأجرامه وبكائناته وبمتلاشياته الجزئية التي يفرزها وسطها المحلي بمدينة أصيلا.
لقد قـيلَ الشيء الكثير عن تجربة خليل الغريب التشكيلية، وكتبت عنه أعمال مستقلة، بل وحظيت بالكثير من معالم الاحتفاء هنا وهناك، داخل الوطن وخارجه. ومع ذلك، فقد استطاعت التجربة أن تثير نزوعا متزايدا لدى مريدي “المصرية” العتيقة للمدينة القديمة لأصيلا، من أجل تحويل رصيد المنجز الإبداعي/المادي والتأملي/الفلسفي والوجودي/الصوفي لخليل إلى مجال مشرع أمام القراءات المسترسلة، وللتأمل المتجدد، وللاستنطاق الجمالي. وفي كل مرة نقترب فيها من عوالم خليل التشكيلية، إلا ونشعر باتساع الهوة بين نزوع الباحث وبين تلابيب صفة “التلاشي” التي تضفي على تجربة خليل الغريب ميسمها الأصيل، وأصالتها المخصوصة. ولعل هذا ما انتبه له العديد ممن اشتغل نقديا، في شكل دراسات مستقلة أو حوارات متخصصة، حول التراث التشكيلي لخليل، مثلما هو الحال مع الراحل إدمون عمران المليح أو مع الشاعر عزيز الحاكم. فخليل أوسع من أن تختزل تجربته في إطار هذه الرؤية الجمالية أو تلك، عبر هذه الأدوات التقنية أو تلك، ثم في إطار هذا الملمح المدرسي أو ذاك.
وكيفما كان الحال، فالأمر أضحى يكتسي صعوبة بالغة منبعها شخصية صاحبها أولا، ثم – ثانيا – ولاؤه المطلق لحميمياته المخصوصة التي أبدع أشكالا راقية في الاحتفاء بها وفي أنسنتها وفي إضفاء عليها صفة الوجد الصوفي المخلص في حبه لخصوبة المحيط المادي ولطراوة الوجوه ولغنى التراث الرمزي/اللامادي للمدينة. وبهذه الصفة، أضحى خليل يعكس تمثلات راقية لتفاصيل الهوية الثقافية المحلية لمدينة أصيلا، ليعيد عبرها تركيب عناصر البهاء الذي تصنعه ميولاته الفردانية في الخلق وفي الإبداع وفي تحقيق متع لامتناهية عند تشريح بنية “الزوال” ومعالم “التلاشي” وثوابت المتغير، ومتغيرات الثابت في سلوك الفرد والجماعة داخل فضاءات أصيلا العميقة، أصيلا السكينة والانسجام.
لكل ذلك، لن يكون غريبا أن يعود مثقفو المدينة ومبدعيها إلى التأمل في نسق الإبداع داخل عوالم خليل الغريب، ليس بهدف إنجاز الدراسات النقدية التخصصية، ولا بهدف التوثيق لانسيابية التجربة ومنعرجاتها، ولكن – أساسا – بهدف اختراق هذه العوالم وتعميم متع القراءة ودهشة الخلق والإبداع. ولعل الحافز المركزي في ذلك، يرتبط بهذا التقدير الكبير الذي يتزايد – باستمرار – تجاه تجربة فريدة تستحق أن تصنف في طليعة إحدى أرقى التجارب التشكيلية، ليس فقط داخل مدينة أصيلا، ولكن على مستوى الامتداد الوطني والعربي الواسع والمتشعب.
في هذا الإطار، يندرج صدور ديوان “تمتع بالمحو” للشاعر المهدي أخريف، سنة 2015، في ما مجموعه 143 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، في شكل نصوص شعرية مستوحاة من أعمال خليل الغريب. هي قراءة شاعرية لتراث تشكيلي تطلب أمر صقله ونحت معالمه عقودا زمنية طويلة، فيها الكثير من الصبر ومن الأناة ومن “الصنعة” التي لا يمتلك أسرارها إلا فرسانها الكبار. لم يركز المهدي أخريف في عمله الجديد على إبراز الأبعاد التقنية الموجهة لنظيمة الخلق والإبداع لدى خليل الغريب، بقدر ما أنه جعل أعمال هذا الفنان تتحول إلى كتاب مفتوح لقراءات مسترسلة ولتأملات لامتناهية، تعيد تجسير الهوة بين الشعر والتشكيل، وتعيد الاحتفاء من موقعها بقدسية الانتماء للمكان ولرموزه ولأصالته ولمعالم الخلود داخل متاهاته، أي متاهات خليل الغريب.
لقد استطاع المهدي أخريف تطويع مضامين أعمال خليل، عبر خلق حوار مفتوح لمناجاة روح كائنات خليل الغريب المندثرة، وعبر ابتكار أرضية لكل القراءات المتجددة التي تتيحها أعمال خليل. هي أرضية تضفي سمة التميز على رصيد مجمل منجز هذا الفنان الكبير، وتعيد بث قيم الانتشاء بمكتسبات العشق الصوفي للبيئة المحلية ولرمزية حضور غنى مكونات الفضاء الفطري العام داخل بنية الاستثمار الجمالي لدى خليل ومتاهاته التي لا تشبه إلا نفسها. وإذا أضفنا إلى ذلك، قوة اللغة الشاعرية التي وظفها المهدي أخريف في هذا العمل المتميز، وحرصه على تضمين إضاءات نثرية لتحديد معالم الأرضية التي أشرنا إليها أعلاه، أمكن القول إن الأمر يتعلق بإضافة نوعية لمجال تنظيم الاشتغال على عوالم التشكيل لدى خليل الغريب في علاقتها بحصيلة عطاء التميز والتجديد والجرأة داخل تحولات المشهد الثقافي المحلي بمدينة أصيلا، بالقراءة وبالتحليل وبالتشريح.
هي عوالم “المصرية” التي أنتجت التجربة ورعتها وحولتها إلى ورشة مفتوحة لتلقيح المنجز التشكيلي لخليل. ولقد استطاع المهدي أخريف إعادة تقييم تجربة خليل في علاقته بهذه “الورشة” المفتوحة على التلاشي، عندما قال في كلمة شاعرية عميقة: “المصرية الخليلية بوعنانية في الأصل. سرداب فوقي في ميناء. مستقل بذاته. له أدراجه الموصلة إليه حيث البهو فالغرفة السردابية وقد صارت اليوم خلاء بعد عمران. والسبب: غربة الزمن والسكن.
كانت المصرية ملعبا لطفولة إيمان (زوجة خليل) في سنوات الستين ثم ارتقت إلى مرتبة زاوية بحلول خليل بها قبل زواجه وبعد. اتخذها منذ منتصف السبعين من القرن الماضي مقرا لإقاماته المتقطعة صيفا وشتاء قادما من طنجة حيث الإقامة الدائمة. صارت مرسما ومختلى. وفي الوقت نفسه مكان اللقاءات الحميمة بأصدقاء محليين وغير محليين يأتون إليه في فصل الصيف من الغرب الأوربي ومن الشرق الأقصى. ولا أحسب هذه المصرية تنسى الجلسات والسهرات المظفرة المطولة حتى الصباح أحيانا بحضور أدباء. رسامين ونحاتين ممن كانوا يدعون إلى المشاركة في اللقاءات الثقافية لجمعية قدماء الإمام الأصيلي في منتصف السبعينيات وما بعده من القرن الماضي.
في المصرية ولدت نصوص الموت الصفراء شديدة التفرد بصفتها ثمرة لرحلة تأمل ومكابدة ومشاهدات جعلت خليلا يحول كل ما تقع عليه عينه أو تمسه يده من وجوه من مراكب من أرصفة في المون. من طيقان. من أجسام إلى هياكل من عظم لا يزول. مشكلة من اصفرار محض هو اصفرارها الأصلي المظهر في أحلام التجلي…
مع بداية الثمانينات من القرن العشرين احتضنت المصرية عهدا تشكيليا جديدا جدة كاملة. انتقل من خلاله خليل إلى صوغ كون ما بعد فني تشكيلي ينتمي إلى مجرة من خارج عالمنا هذا. في وسعي أن أطلق عليه توصيفا تيماتيا عاما هو: “أعمال الفناء” وهي ذاتها الأعمال والمقترحات الإبداعية التي لم يتوقف خليل إلى اليوم عن المضي بها في مناح ومناخات من التنوع والإرهاف مما يستعصي تماما على المقاربة والتصنيف مبنى ومعنى…” (ص ص. 25-27).
هي أعمال خارج التصنيف، وقـراءات خارج التقييـم، وتأمُـلات خـارج الأبجديات الجاهزة. هي أعمال تحسن الإنصات لذاتها ولا تستجيب إلا لغواية ذاتها ولصوت خليل الخفيض ولسكينة “العين والإبرة”، أولا وأخيرا.