“رجال شوامخ عرفتهم”.. في المكونات والسمات ..
السبت 28 ماي 2016 – 13:44:00
أحرزَ الباحث المتألق في الأدب المغربي د. جمال بنسليمان على جائزة عبد الله الجراري في الفكر والأدب في دروتها الثالثة (2015- 2016) عن مجمل أعماله. وأكد د. عباس الجراري، رئيس اللجنة العلمية للجائزة، في كلمة ألقاها مساء الجمعة 13 ماي الجاري بمناسبة حفل تسليم الجائزة بالرباط، أن أعمال الباحث الدكتور جمال بنسليمان وتآليفه تتسم بالجدة والعمق والثراء؛ وهو ما يجعل صاحبها يستحق هذه الجائزة. وبهذه المناسبة، اخترت أن أقدم، في هذا المقال، تأملات ونظرات في أحد الأعمال التي أنجزها بنسليمان ونشرها؛ وهي: كتاب “موسوعية البحث العلمي عند أعلام المغرب في القرن العشرين.. عباس الجراري نموذجا” (منشورات النادي الجراري – 29- مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى، 2004 م)، وكتاب “عطر المجالس.. زهر الآس نموذجا” (مطبعة المتقي بريتنر، المحمدية، الطبعة الأولى، 2011)، وكتاب “رجال شوامخ عرفتهم” (مطبعة المتقي بريتنر، المحمدية، الطبعة الأولى، 2014).
وسيكون مدار الحديث في هذه القراءة عن الكتاب الأخير الموسوم بـ “رجال شوامخ عرفتهم”، باعتباره آخر الأعمال التي رأت النور للباحث جمال بنسليمان وليس أخيرها. يسلط المؤلف جمال بنسليمان، في هذا الكتاب الذي يقع في 173 صفحة من القطع الكبير، الأضواء الكاشفة على مسارات سبعة رجال من رجالات العلم والمعرفة ممن جمعته بهم لقاءات وعلاقات؛ وهم: إبراهيم المزدلي (صص 11- 43)، وسعيد الفاضلي (45- 57)، وعباس الجراري (59- 82)، وعبد الجبار السحيمي (83- 108)، وعبد الصمد العشاب (109- 133)، وعثمان جوريو (135- 148)، وعلال الغازي (149- 165). يعلن المؤلف، في مفتتح الكتاب، عن الغاية / الباعث الذي دفع به إلى الكتابة والتأليف في هذا الصنف قائلا: “لقد تحركت في هذا العمل بمعرفة وحب للحاضرين الباقين على قيد الحياة متعهم الله بجمال الصحة وبارك في أعمارهم وأعمالهم، والمغادرين الذين رحلوا إلى دار البقاء أسكنهم جلّ وعزّ جنة الفردوس خالدين فيها أبدا.
تحركت بكل ألق حتى تتجدد دورة الحياة شعاعا جديدا يتنور كالأحجار الكريمة، مع رجال مغاربة شوامخ ربطتني بهم سلاسل متينة من الحب الصادق، والإعجاب الجميل، والقرابة الحقيقية، تذوقت معهم نسمات صيف منعشة أوصلتني إلى الاغتراف من مائهم الزلال الرقراق… إن الكتابة عن سبعة رجال من وطني الحبيب (….) إجراء إنسانيّ بهدف العبور إلى مرافئ الاطمئنان والحق والجمال والفضيلة… كتابة تنم عن ثقافة الاعتراف برجال أقحاح عاشوا بداخلي منذ أن وعيت ذاتي…” (ص 9).
ويعترف الكاتب في المفتتح ذاته بأن قرار اختيار سبعة رجال والكتابة عنهم وعن طبيعة العلاقة التي جمعته بهم لم يكن بالأمر السهل اليسير؛ بالنظر إلى جملة من الاعتبارات، على رأسها: “أن الكتابة في هذا اللون من التأليف تعتبر مغامرة محفوفة بالمخاطر والمزالق والمسالك الوعرة، وتحتاج إلى دليل حاذق وخبير حفريات، قادر على القبض على خطوط الانفلات، والوصول إلى حقيقة الشخصية، واستكشاف الغامض منها وغير المألوف وغير المعروف، بحسّ موضوعي ووعي صادق، بعيد عن كل انحياز أو تعصب أو مجاملة” (ص 8). ومن ثمّ، فإنني سأسعى في هذه السطور إلى الوقوف عند المكونات التي تقوم عليها هذه “البورتريهات الأدبية”، وأيضا السمات التي طبعتها.
أولاً- في المكونــات: سار المؤلف جمال بنسليمان، في كتابه الموسوم بـ”رجال شوامخ عرفتهم”، على أسلوب موحد وخطة محددة ومرسومة؛ فقد حرص على الالتزام بعناصر ومكونات ثابتة في كل بورتريه من البورتريهات السبعة التي يتضمنها الكتاب، إذ يلقي في البداية نظرة عامة عن الشخصية ثم يتخلص إلى ذكر لقائه الأول بها والظروف التي أحاطت بذلك اللقاء ثم يدرج عينة من الإنتاج العلمي أو الأدبي للشخصية سواء منها ما كان منشورا ومتاحا للقراء أم ما كان مخطوطا ويختم في الأخير بشهادات في حق الشخصية المعنية على ألسنة معارف وأصدقاء سواء أ كانت تلك الشهادات منشورة من قبل أو أن المؤلف يحصل عليها من لدن أصحابها لتدرج لأول مرة في هذا الكتاب. بخصوص المكون الأول الذي يقدم فيه المؤلف نظرة عامة عن الشخصية، فإننا نجده على سبيل المثال في حديثه عن د. إبراهيم المزدلي يقول: “إبراهيم المزدلي اسم ألمعيّ بحمولة إسلامية وتاريخية، اسم تنبع من مكونيه الرئيسين مناقب ومحامد ومزايا وصفات ونعوت وعلامات؛ منها: قمة البذل، ورحابة الصدر، وجمال الاتزان (…) لقد صنع إبراهيم لمسار حياته طريقا موشوما بأكثر من وشم، لا مكان فيه للمحدبات والمقعرات، طريقا سافرت بين أربعه المونقة المورقة التحديات” (ص 11). ويقول في حديثه عن د. علال الغازي: “لا أفشي سرا إذا قلت بأن علالا الغازي رجل شامخ بكل المقاييس، تعجز عن حصر صفاته ومناقبه المؤلفات والقواميس، رجل وضاح القسمات…” (ص 149). ويقول في حديثه عن ذ. عبد الصمد العشاب: “من الرجال الشموس الشوامخ الذين استمعت بمعرفتهم، وتذوقت عبق جهادهم الثقافي غير المرئي الذي يهبل بحدائق الجمال وثمار البرتقال وهي معقودة كالعناقيد، قوية بهية صامدة متماسكة” (ص 109). ويقول في حديثه عن د. سعيد الفاضلي: “اسم ألمعيّ حفر في الصخر منذ الطلقة الأولى للحياة التي وجدها شرسة وحادة مثل السكين. لم تكن طفولة سعيد تبشر بالأفراح والتلذذ والارتياح، والإحساس بطعم الأمان وعبق الاطمئنان” (45).
أما بخصوص المكون الثاني المتعلق بظروف اللقاء الأول الذي جمع بين المؤلف وبين الشخصية مدار الحديث في البورتريه، فإن القارئ يجد أن بنسليمان أولى هذا المكون الكثير من الاهتمام والعناية؛ ففي حديثه عن ذ. عبد الجبار السحيمي، يقول: “لقد عرفت السيد عبد الجبار، لأول مرة، في منزل خال والدتي زينب حفظها الله الكائن بزنقة “الجنين” في حي الجزاء (شارع محمد الخامس) بالمدينة العتيقة للرباط” (83). ويقول عن ذكرى لقائه الأول بالأستاذ العشاب: “بدأت حكايتي الحسناء مع الأستاذ الباحث محافظ خزانة عبد الله كنون بطنجة (عروس البحرين) تنسج خيوطها القمراء ولونها الأخضر الرائق المستطاب في شهر دجنبر من سنة 1990.
كان هذا التاريخ بداية جديدة في حياتي العلمية، بعد أن سجلت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (…) كنت ملزما على حزم الحقائب والسفر لاكتشاف الخزائن العامة والخاصة…” (109). ويقول عن ذ. عثمان جوريو: “عرفت عثمان جوريو، لأول مرة، وأنا تلميذ قطع الشوط الأول من دراسته الابتدائية بنجاح، بعد حصولي على الشهادة الابتدائية من مدرسة المحمدية الكائنة بـ”السويقة” في قلب المدينة العتيقة لمدينة الرباط” (135).
ويقول عن قصة معرفته ولقائه بالدكتور الغازي: “لقد كانت معرفتي الأولى بهذا المعدن النفيس في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة الرباط. كنت طالبا في سنتي الجامعية الأولى (1978- 1979) شعبة اللغة العربية وآدابها. تعرفت على الأستاذ الغازي في قاعة الدرس” (ص 149). وعن قصة تعرفه على الدكتور المزدلي، يقول المؤلف جمال بنسليمان: “لقد دخل هذا الاسم الجميل عوالم دنياي الجوانية في سنة 1990، عندما جاد الزمن ببخوره ومنحني بطاقة تهييئ شهادة دبلوم الدراسات العليا (…)” (13- 14). ويقول عن لقائه الأول بالدكتور سعيد الفاضلي: “كانت كلية آداب الرباط المكان الدافئ الذي احتضن أول لقاء. وحتى أكون دقيقا، كانت خزانة الرسائل والأطاريح الشاهد الرئيس على صحبة علمية وإنسانية رفيعة” (47).
وفي المكون الثالث من مكونات البورتريه الذي يقدمه جمال بنسليمان في كتابه الموسوم بـ”رجال شوامخ عرفتهم”، يسوق المؤلف عينات متعددة ومتنوعة من الإنتاج الأدبي والفكري للشخصية حسب مجال تخصصها.
وهكذا، نجده يقدم ضمن البورتريه الخاص بالدكتور عباس الجراري 11 مقتطفا من أقوال عميد الأدب المغربي في قضايا وموضوعات متنوعة بغية التدليل على موسوعية فكر الرجل واتساع آفاقه. كما يقدم المؤلف ضمن البورتريه الخاص بالدكتور إبراهيم المزدلي نماذج من إنتاجات هذه الشخصية العلمية الشامخة؛ وذلك “لمزيد من الإضاءة” (38). كما يضع المؤلف أمام القارئ ضمن هذا المكون المتعلق بالإنتاج ست عينات من الأعمال التي قدمها الدكتور الفاضلي “من طيب يراعه، ودرر آدابه، وجميل شعره، وأعلاق نثره” (51- 55).
ويقف القارئ في البورتريه الخاص بالأستاذ السحيمي على 13 عينة تمثيلية انتقاها المؤلف من إنتاج هذه الشخصية. وفي المكون الرابع والأخير من مكونات البورتريه لدى جمال بنسليمان، نجد أنه يورد في ختام كل حديث عن الشخصية المعنية شهادات في حقها على ألسنة معارف وأصدقاء. ففي البورتريه الخاص بالأستاذ السحيمي، أعطى الكلمة لكل من القاص إدريس الخوري والناقد محمد بودويك والفاعل الثقافي محمد بن محمد الخطابي والشاعر جمال الموساوي والقاص محمد الشايب والباحث الجامعي والمترجم حسن بحرواي والأستاذة الجامعية دة. نجاة المريني والقاص المصطفى لكليتي؛ هم – كما قال المؤلف- من “خيرة أدبائنا ومثقفينا”.
وفي البورتريه الخاص بالأستاذ العشاب، نقف عند شهادات لكل من الدكتور عبد الهادي التازي والباحث التونسي أبو القاسم محمد كرو والشاعر عبد الكريم الطبال والإعلامي خالد مشبال… وعلى الجملة، فإن المؤلف جمال بنسليمان حرص، في كتابه “رجال شوامخ عرفتهم”، حرصا شديدا على الالتزام بالمكونات الأربعة التي بنى عليها هاته النصوص التي تتوفر على كثير من السمات الجمالية والفنية والموضوعية أيضا، نقف في الحور الثاني من هذه القراءة عند بعضها.
ثانيا- في السمات: إن القارئ المتمعن في نصوص هذه البورتريهات يلمس أن المؤلف د. جمال بنسليمان استطاع أن يضمن لها الكثير من السمات الجمالية والفنية والموضوعية؛ منها: رشاقة العبارة ومتانة الأسلوب، إذ إن الكاتب صاغ هذه الدرر وفق أسلوب لغوي يمتح الكثير من البلاغة الرونق كما يتبدى بجلاء من خلال العديد الأمثلة التي أورتها أعلاه وغيرها كثير من التعابير التي حفل بها الكتاب. ومن السمات التي ميزت هذه البورتريهات، أذكر أيضا التسلسل الكرونولوجي في عرض المواد وتقديمها إلى القراء بكل سهولة ويسر؛ وهو سمة تظهر للعيان من خلال المكونات التي فصلنا عنها الحديث في المحور الأول من هذه القراءة، ما منح للنصوص قدرا غير من التشويق والإثارة بمعناها الإيجابي والمحمود. ومن السمات الأخرى التي حضرت في هذه البورتريهات ومنحت لها قيمة علمية وأدبية نذكر التدقيق الجيد والشديد في التواريخ والأحداث والأماكن. كما يملس القارئ للكتاب أن سمة أخلاقية تحضر في كثير من نصوص الكتاب، وتتمثل في الاعتراف بأفضال الآخرين؛ سواء أ كانوا أساتذة أم زملاء.
على سبيل التركيب: وبعد، إن كتاب “رجال شوامخ عرفتهم” للباحث الدكتور جمال بنسليمان يمثل، بحق، نموذجا من الكتابات التي تستحق القراءة، ويستحق صاحبها كل الثناء والتنويه؛ وذلك بالنظر إلى أنها تنطوي على قيمة معرفية أكيدة، كما أنها تحفل بالكثير من الجمالية الفنية.