رجال صدقوا.. 1- الأستاذ العميد الدكتور محمد الكتاني
الجمعة 28 يوليوز 2017 – 18:33:21
تكلمت في مناسبات عديــدة عن شيخنا العلامة الـدكتــور “سيدي محمد الكتاني”، حفظه الله تعالى، عالما، ومربيا، ومفكرا إسلاميا، ووطنيا صادقا، غير أنه لم يتح لي أن أتكلم عنه إداريا ناجحا، لم تعرف كلية الآداب بتطوان من يقاربه في حسن التسيير والتدبير. فوددت هنا أن أجمع في عناصر سر نجاحه في تسيير كلية الآداب مدة خمسة عشر عاما. وهي في رأيي ستة أمور هي:
أولا
ً: حسن تقديره للرجـــال، ووضعه الرجل المناسب في المكان المناسب.ثانيا: عدم تأخيره للقضايا المهمة، ومن أجل ذلك فقد كان لا يستأذن عنده رؤساء الشعب، والمقتصد، والكاتب العام.
ثالثا: تقليله من الاجتماعات، وعدم ميله إلى الثرثرة، وتشقيق العبارات، فقد كان يعلم أن حسن الإنصات أجدى من كثرة الكلام.
رابعـًا: هدوءه واتزانه. فلم نره يوما رافعا صوته، ولا مخاصما أحدا.
خامسًا: تجربته المتنوعة، في القرويين، وفي التعليم انطلاقا من التعليم الابتدائي إلى التعليم الجامعي. فكان عارفا بمشاكل التعليم في المغرب، وبطبيعة الطالب المغربي. فإن من لم يجلس إلى مقاعد الدرس في المدرسة المغربية العمومية لا يمكنه أن يخاطب الطالب باللغة التي يفهمها، ولا أن يدرك احتياجاته، ولا أن يعرف طريقة تفكيره.
سادسًا: اطلاعه الواسع على ثقافة الأمة، وتاريخ المغرب، وعلوم العربية والدين. فإن من خلا من هذه، وهو يريد تسيير إدارة مغربية، أو مؤسسة عمومية، كمن يريد أن يسير مؤسسة فرنسية، وهو لا يعرف من تاريخ فرنسا إلا كونها بلدا أوربيا يرطن أهلها بلغة مختلفة عن لغتنا.
وكان من عـــادة شيخنا أن لا ينطق بكلام فيه إساءة لأحد من الناس مهما تكن خفية، ضئيلة، مع مراعاة مشاعر الموظفين، فكان لا يدخل مكتبا من مكاتب الكلية إلا بعد أن يطرق الباب، ويسمع الإذن بالدخول. فإذا كانت أيام الامتحانات، واضطر بعض الموظفين أن يمكثوا في الكلية بعد الفترة الصباحية طلب منهم أن يخبروا عائلاتهم، قبل ذلك، فإذا اطمأن إلى أنهم صنعوا ما أشار به عليهم، أحضر لهم وجبة غداء، ورابط معهم، فكان في أحايين كثيرة لا يعود إلى بيته قبل الساعة السابعة مساء.
وقـد اجتمَعَـت به أكثر من مرة بعد الساعة السابعة للنظر في فصول بحثي وأبوابه، فكان يجلس إلي باسما، لا يتأفف، ولا يذكر كثرة انشغالاته، وكونه في الكلية منذ الساعة التاسعة صباحا. فإذا فرغ الأساتذة والطلبة والموظفون من الامتحانات، رأيته يعطف على صغار الموظفين والأعوان، ويذكر جهدهم وصبرهم، وقد يكافئهم مكافآت جليلة من ماله الخاص. وقد وقع مرة أن بعض الطلبة أصابه إغماء أثناء الامتحانات، وعلم هو بذلك، فلما كان وقت الظهر ذهب خفية إلى المستشفى يزوره ويطمئن عليه قبل ذهابه إلى منزله، دون أن يُعلم بذلك أحدا، وما كنت لأعلم به لولا أن أحد هؤلاء كان من بعض قرابتي. وقد ذكرت هذه القصة يوما، وأهل بيته حاضرون، ففوجئت أنهم أيضا لا يعلمون بذلك، مع أنه كان قد مضى عليها أكثر من ربع قرن.
لـقد مَلكَ شيخنا قُلــوب النـــّاس بعلمهِ، وفضلهِ، وتضحياتهِ، وتَعفُفهِ، وقُـوّة شَخصيتهِ، وعَــدلهِ، وحُبّهِ الخيـــر للنـــاس أجمعين، فكان أنموذجا لكل من يريد أن يسير على هذا السبيل، وإسوة حسنة لمن يعتقد أن الصراخ، واللغط، والثرثرة، والطمع، والحماقة، لا تصنع مجتمعة ومتفرقة غير الفشل، والفضيحة، والاضطراب.
وبهذه الخصال الكريمة استطاع الدكتور محمد الكتاني أن يجعل من كلية ناشئة كلية تنافس أعرق الكليات في الوطن العربي، بل اعتبرت يومها مرجعا في الدراسات المغربية والأندلسية، حيث كان ينظم ملتقى كل سنتين يحضره كبار العلماء من المغرب، وأوربا، والوطن العربي، وتطبع أعماله، وتنشر أبحاثه، دون اعتماد تام على ميزانية الكلية، إذ كان يتدبر ميزانية ذلك، هو وشيخنا الدكتور حسن الوراكلي بالاتصال بأهل الفضل، وبمن يجلونهما ويقدرون علمهما من المسؤولين والكبراء. فتعلمنا منهما أن الإخلاص، والتعفف، وصفاء النية، وحب الخير لهذا الوطن، كل أولئك يقوم مقام الميزانيات الضخمة، التي يسيل لها لعاب من يحب أن تكون تحت يده دخول ميزانيات يصرفها حيث يشاء هو، لا حيث يشاء العلم، والدين، والضمير. وكان شيخنا ألمعيا، ثاقب النظرة، يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع، فيشملك بعطفه، ووده، وحلمه، وحسن خلقه، دون أن تحتاج إلى قول أو إشارة.
ومما أذكره في هذا الباب أنه استقبلني في مكتبه قبل الدخول إلى المدرج الذي شهد مناقشة رسالتي الأولى حول “مقاييس جودة الشعر عند نقاد القرن الرابع الهجري”، وكان المدرج مكتظا بالطلبة والأساتذة، ما بين جلوس ووقوف، وكانت لجنة المناقشة مؤلفة من السادة الأساتذة الدكتور محمد الكتاني مشرفا ومقررا، والدكتور أمجد الطرابلسي ـ رحمه الله تعالى ـ رئيسا، والدكتور حسن الوراكلي عضواـ والدكتور علي حمودان، عضوا، فطلب مني أن أدخل المدرج، وأن أجلس في المكان المخصص لصاحب الرسالة، وذلك في انتظار بداية المناقشة.
فوقع في نفسي كراهة ذلك، ووددت لو أنني أجلس بين جمهور الناس إلى أن تدخل اللجنة المدرج، فقد كنت أكره أن أكون محط أنظار الحاضرين، ولم تسعني مخالفته ، مع ذلك.
ويبدو أنه أدرك ما في نفسي، دون أن أقول شيئا، فقال:” لك أن تجلس بين جمهور الحاضرين إلى أن نلتحق بكم”. فكأنما أنشطت من عقال. لقد كانت قوة الأخلاق سر أسرار نجاح شيخنا في حياته العلمية والإدارية. ولعل الدرس الأكبر الذي تعلمناه منه هو أن قوة الأخلاق أقوى وأجدى من أخلاق القوة. فهي دائمة، وأخلاق القوة زائلة. وهي تملك القلوب، وأخلاق القوة توهمك أنك تملك النواصي، ولست تملك شيئا إلا توهم أنك تملك. وهي صفة العظماء، وأخلاق القوة صفة الضعفاء الذين يريدون أن يشهد الناس لهم بالقوة.
وهي علامة الصادقين، وأخلاق القوة علامة الْكَذَبَةِ الذين يكذبون على أنفسهم بتوهم القوة فيها، وعلى الناس بادعاء القوة فيهم، ثم يحتاجون بعد ذلك إلى تزيين قبح الكذب بمساحيق زائفة من نثارة الغباوة مخلوطة بادعاء الذكاء، وبقايا الأفكار ممزوجة بادعاء المعرفة، يضمون بعضها إلى بعض، ثم يضعونها في صندوق الساحر، لكي يخرج لهم من جيوبهم المملوءة ببقايا الطعام حمائم تطير، وأرانب تقفز، وأشخاصا يمشون في الهواء، طلبا لتصفيق المصفقين
.