بمناسبة أربعينية الفقيد الهاشمي الطود.. رجل الوفاء الغائب الحاضر
الخميس 01 دجنبر 2016 – 12:56:16
الهاشمي الطود.. أشهر من نار على علم، رجل يشكل لوحده إحدى منارات حركة التحرر المغاربي لعقود النصف الأول من القرن 20. الهاشمي الطود.. ابن هذه التربة الطيبة التي أنجبت أحرار الوطن ورجالاته الأفذاذ. الهاشمي الطود.. سليل المدرسة الخطابية التي علمتنا معنى العزة والكرامة والاستماتة في الدفاع عن الحق مهما كلف ذلك من ثمن. الهاشمي الطود.. اختزال لهويتنا التحررية الجماعية كما صنعها روادها في ساحات الوغى وفي دروب الجهاد وفي فيافي السجون والمنافي. الهاشمي الطود.. عنوان جحود الوطن في حق أبنائه الأوفياء، مادام بعض لقطاء العمل الوطني قد أصر على مجازاته عند فجر الاستقلال عن وفائه لوطنه بجريمة اختطاف الوالد، الشهيد عبد السلام الهاشمي الطود.
رحل عنا العقيد الهاشمي الطود في إحدى صباحات شهر أكتوبر الماضي (2016)، مخلفا لوعة كبرى في نفوس كل محبيه ومريديه وأصفيائه، وقبل ذلك، مخلفا سيلا جارفا من تعابير الحزن على هذا الرحيل الذي اقتلع هذه الدوحة المعطاءة من حضن تربتها الخصبة. كان حزنا معمما، هيمن على البعيد قبل القريب، وعلى الخصم قبل الرفيق، وعلى المتآمر قبل الوطني. فالكل كان يتقاطع في الاعتراف بفضل الرجل في تأطير شرارة الثورة المغاربية الكبرى ضد الاستعمار، حسب ما كان يخطط له الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. كانت صحوة الروح، مضمخة بلهيب أنوال، وببركات دهار أوبران، وبميسم الوفاء والإخلاص في الانتماء لهذه التربة الطيبة التي أنجبت تجارب على تجارب، ومسارات على مسارات، وتضحيات على تضحيات، لكي تبقى شعلة الوطن متقدة، ولكي يبقى للكرامة ألقها الذي لا معنى للحياة بدونه.
رحل الهاشمي الطود وحلمه مكسورا، بعد أن عجز عن تحقيق أغلى متمنياته، والمتمثلة في الكشف عن جريمة اختطاف والده في الظروف التاريخية المعروفة لمرحلة فجر الاستقلال السياسي. رحل رافعا صوته ضد بؤس المرحلة، وضد جحافل الإجرام التي تدثرت بالعمل الوطني وبجيش التحرير في غفلة عن زمن الأوفياء. رحل الهاشمي الطود، وخفافيش ظلام الوطنية المفترى عليها، لازالت تبسط سطوتها على الكثير من مجالات الفعل السياسي الراهن، لتنخرط في مؤامرة الصمت وتزييف الذاكرة، بعد أن أنهت مؤامرة تكميم أفواه أتقياء الوطن، بالاختطافات وبالسجون وبالمعتقلات السرية وبالإعدامات الجماعية. اسألوا أرواح شهداء المرحلة، لتطلعوا على تفاصيل جرائم آخر الليل، اسألوا عبد السلام أحمد الطود وإبراهيم الوزاني ومحمد إبراهيم القاضي وحدو أقشيش وشباظة تركي سعيد، واللائحة طويلة…
لم تشفع للهاشمي الطود سيرته النضالية في فلسطين منذ سنة 1947، عقب تلبيته لنداء الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بهذا الخصوص، ولا أدواره الكبرى في تأطير متطوعي “جيش تحرير المغرب العربي”، ولا مهامه التسليحية والتنظيمية بأقطار عربية شتى، أهمها مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر، ولا أدواره إلى جانب قيادة الثورة الجزائرية عقب انطلاقتها يوم فاتح نوفمبر من سنة 1954، ولم يشفع له إخلاصه للقيم العليا للانتماء الوطني، لم يشفع له كل ذلك لدى فيالق منافسيه السياسيين من أجل الانتقام منه شر انتقام. فكيف يجازى أوفياء الوطن بهذا الشكل؟ وكيف يستميت الجاحد في دفاعه عن نهجه الظالم ضد كل من يخالفه الرأي؟ ولماذا انتقم هذا الجاحد المتدثر – عن باطل – بعباءة العمل الوطني والمقاومة وجيش التحرير، من الأب بعد أن فشل في الوصول إلى الابن؟
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الفئة الباغية قد نجحت في إخراس أصوات الحق، فإن الصبح سرعان ما بزغت أنواره من جديد. عاد الهاشمي الطود إلى وسطه الحميمي، ليطل بروحه الطاهرة على مدينة القصر الكبير مساء يوم 19 نونبر 2016، بمناسبة تنظيم فعاليات اللقاء التأبيني الذي يصادف ذكرى أربعينية وفاته. كان اللقاء حميميا وحمل الكثير من عناصر التقدير والوفاء، لذكرى رجل أعطى فأوفى، صاحب فأخلص، جاهد فضحى. كان لقاءا للاعتراف بسيرة الرجل وبالقيمة الإنسانية الكبرى لتراثه النضال الزاخر، حسب ما عكسته مجموع الكلمات والشهادات التي ألقاها المشاركون في اللقاء والذين جاؤوا من جهات مختلفة، من داخل المغرب ومن خارجه، ويتعلق الأمر بكل من الأساتذة محمد يعلى وأسامة الزكاري وحسن العلوي البلغيثي ومحمد البوعناني وعلي الإدريسي وجمال الخطابي ومصطفى مشيش العلمي وبهاء الدين الطود وسعدي يوسف ومحمد علي الطود وعبد السلام الغازي، إلى جانب العشرات من الشهادات ومن الكلمات التي توصل بها منظمو اللقاء على أساس نشرها في أعمال تصنيفية لاحقة.
هي أعمال للوفاء لذكرى واحد من آخر رجالات المدرسة الخطابية، وكأني بروحه تنتصب عاليا لتسائل جبننا ولتستفز ضعفنا ولتحفز هممنا. أشعر – الآن – أن العقيد الهاشمي الطود، وهو في ملكوت الرحمان، ينظر إلينا نظرته الطفولية الوديعة والرائعة، ولسان حاله يردد ما علمه إياه “معلمه الأكبر” من دروس الإباء والشموخ: اللهم اشهد أني قد بلغت، اللهم اشهد أني قد بلغت… لك الرحمة والمغفرة وأنت بين يدي خالقك، وتأكد أننا لن ننساك أبدا في كل حركاتنا وسكناتنا. أنت حضننا الواحد/المتعدد، فلتسترح روحك في أمن وسلام.