عرفنا الأستاذ محمد برادة أستاذاً جامعياً مرموقاً ، وناقداً ومترجماً لنصوص أساسية في مضمار الرواية والنقد الأدبي . نال درجة الدكتوراه من جامعة السربون بباريس حولَ موضوع ” محمد مندور وتنظير النقد الأدبي”، سنة 1973 . و كان من مؤسسي الدرْس النقدي والروائي في الجامعة المغربية. وعمل إلى جانب الأستاذ الناقد أحمد اليبوري على إحداث ” شعبة الأدب الحديث ” في مستوى الدراسات المعمقة بكلية الآداب بالرباط في بداية الثمانينيات، اختصت بدراسة الرواية العربية تنظيراً وتطبيقاً ، منفتحة على أهم ما أنجزه النقد الغربي من نظريات حديثة في مجال دراسة الخطاب السردي والروائي ابتداءً من الشكلانيين الروس، مروراً بأعمال رولاند بارت ( Roland Barthes) وتزبتان تودورف ) Tzvetan Todorov) وجيرار جونيت (Gérard Genette ) وجان ييف ـ تادييهJean) – Yves Tadié )، وصولاً إلى ميخائيل باختين ( Mikhail Bakhtine ) . أول عمل للأستاذ محمد برادة في مجال السرد كان مجوعته القصصية ” سلخ الجلد ” الصادرة عن دار الآداب سنة 1979 . أمَّا أول عمل روائي، فقد كان روايته ” لعبة النسيان ” الصادرة عن دار الأمان بالرباط سنة (1987) التي أفاد فيها من ثقافته النقدية في بنائها الفني. وقد اعتُمِدت من لدن وزارة التربية الوطنية لسنوات في مقرر مادة المؤلفات في أحد مستويات التعليم الثانوي ( من : 1955 إلى 2005 ). وتوالى بعد ذلك صدور روايات عديدة له، هي : ” الضوءُ الهارب “، نشر الفنك ـ الدار البيضاء ، سنة 1993 ـ ” مثل صيف لن يتكرر/ محكيات “، نشر الفنك، سنة 1999 ـ ” امرأة النسيان “، نشر الفنك، سنة 2001 ـ ” حيوات متجاورة ” سنة 2009 . ” موت مختلف ، دار الآداب ، سنة 2017. هذا بالإضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان : ” ودادية الهمس واللمس ” عن دار الفنك ، سنة 2004 .
أما رواية ” بعيداً من الضوضاء. قريباً من السُّكات ” ، نشر الفنك ( 2014 ) ، فهي الرواية السادسة ضمن رصيده الروائي الزاخر بالأعمال الروائية المتميزة سواء على مستوى البناء أو الدلالة. وقد دعا الكاتب الناقد السينمائي المغربي حمادي كَيروم في صفحته على الفيسبوك القراءَ المغاربة إلى قراءة هذا العمل الروائي المتميز ، وهي دعوة إلى متعة القراءة التي بتنا نفتقدها في الكثير من الأعمال الروائية التي تصدر سواء في المشرق أو المغرب ، كما دعا دعوة حارة السينمائيين المغاربة إلى تحويله إلى فيلم سينمائي لأنه يرى أنه يتوفر على شروط اقتباسه من “المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي”. والحقيقة أن الفيلم المغربي خلال سنوات عديدة كانت القصة فيه والسيناريو والحوار كلها للمخرج . وثمة أفلام قليلة اقتبسَ أصحابُها أعمالهم السينمائية من روايات مغربية .
إن رواية ” بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات ” تأخذ بتلابيب قارئها منذ الصفحة الأولى بلغتها المتدفقة السلسة المنسابة كماء سلسبيل ، وبأحداثها التي تأخذنا لنَنْغَمر في التاريخ المغربي الحديث في عهدي الاستعمار والاستقلال حتى بروز حركة 20 فبراير في غضون الحراك العربي وما رافقه وما تلاه من تطورات ، وذلك من خلال جيلين كلاهما مأزوم : جيل مخضرم عاش في العهدين ويمثله توفيق الصادقي المحامي ( ازداد 1931 بالرباط ) ، وجيل نشأ في عهد الاستقلال ، ويمثله شخصيتان محوريتان هما : فالح الحمزاوي المتخرج من كلية الحقوق بالرباط الذي يعمل محامياً متدرباً في مكتب الصادقي ، وهو من الذين يعرفون كيف يدورون مع الزمان ، رغم انتمائه إلى هيئات وأحزاب محسوبة على اليسار ( ازداد 1956 ) ، كما يمثل هذا الجيل الدكتورة النفسانية نبيهة سمعان المزدادة أيضاً ( سنة 1956 ) ، يضاف إلى هذين الجيلين الجيل الجديد ويمثله الراجي المزداد ( سنة 1975 ) المجاز في التاريخ .يعاني من العطالة كأبناء جيله ويقبل أن يعمل مساعداً للمؤرخ الرحماني الذي له اهتمام بتاريخ المغرب الحديث . وتتميز الرواية بتعدد الأصوات وتعدد اللغات ، والملاحظ أن الراجي يتولى السرد عن نفسه وغيره من الشخصيات الرئيسة في الرواية ، بينما يأخذ زمام السرد كل من الشخصيات الثلاث الرئيسة عن نفسها بضمير المتكلم . كما تتميز باستخدام الخطاب التَّراسلي والخطاب الشعري وتضمين النص الروائي بالثقافة والمعرفة ( التحليل النفساني الفرويدي ) على سبيل المثال في الفصل الخاص بالدكتورة نبيهة سمعان المتخصصة في هذا المجال. ثمة ملمحٌ فني آخر تتميز به الرواية هي لعبة الأسماء التي يعمدُ المؤلف إلى استخدامها كصنيع نجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب على سبيل المثال ، فالبطل اسمه سعيد، لكنه ليس بسعيد. هذه مجرد انطباعات أولية عن هذه الرواية الشيقة المكتوبة بأناملِ حِرَفي فنان في مجال الكتابة الروائية عالم بأسرار كتابتها، التي تُقدِّمُ لقارئها المتعةَ والمعرفة في نفس الآن.
د. عبدالجبار العلمي