إن كون المسلمين في الأندلس قد تعايشوا مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى -خاصة منها اليهودية والمسيحية-، قد أضحى يشكل لدى القراء و عدد لا يُستهان بهم من الباحثين المسلمين وغيرهم إجماعا ثقافيا ومعرفيا، يُقدَّم في كثير من البحوث والندوات مقدمة من المقدمات التي يُبنى عليها التفاكر بخصوص إمكانية الحديث عن حوار للأديان والحضارات في ضوء استحضار التجربة الإسلامية في الزمن الأندلسي، ما يجعل أي قول مخالف لهذه الأطروحة نوعا من اللغط واللغو في الكلام، ولا يقابل هذا الطرحَ إلا كتاباتٌ هنا وهناك في السياقين الإسلامي والغربي حول كون الإسلام دينا لم يولِ الأغيار أي اهتمام، في خلط كبير بين النصوص الإسلامية المعيارية والسياقات التاريخية للمجتمعات الإسلامية، الأمر الذي يجعل الكتابة في الموضوع مع أخذ شيء من المسافة عنه أمرا مرغوبا فيه، لراهنيته أولا، وللدعوة إلى نوعٍ من إعادة قراءة التراث الأندلسي في ضوء حركية التاريخ؛ وباستدعاء العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تقدم أحدث ما وصل إليه العقل البشري بخصوص مناهج قراءة النصوص في ضوء سياقاتها.
هذا إلى جانب اعتبار الكم الهائل من النصوص التي كُتبت في العصور الوسطى من قِبل أرباب الثقافة والمجالات الأدبية المختلفة؛ و التي تقدم لنا إضاءات حول التجربة الإسلامية الأندلسية بخصوص التعايش والتحاور الثقافيين مع الديانات الأخرى، شأن كتب الشروط والوثائق، والفهارس، والبرامج، والطبقات، والمدونات النوازلية…
ولعل من مُلح القول تذكير القارئ بالكم الهائل الذي حُقق من التراث المذكور في العقدين الأخيرين، والذي يُعتبر معه من اللاجدوى العودة إلى خلاصات المؤرخين من المستشرقين الكلاسيكيين وغيرهم ممن لم يسعفهم الوقت والجهد للاطلاع على هذا الكم الهائل من المدونات، فهذه الخلاصات لا تصلح أن تكون نتائج تتسم بنوع من القطع والحسم بخصوص الموضوع الذي نحن بصدد الكلام عنه، بل العكس هو الذي يجب أن يكون، أعني إعادة قراءة التراث الأندلسي عموما، ومن ذلك مسألة التعايش والتسامح على وجه الخصوص.
أما بخصوص غرضنا في هذه السطور العجلى بخصوص الموضوع، فهي أن الأمر يستدعي أول ما يستدعي التمييز بين الإسلام المعياري الذي تمثله النصوص القرآنية وصحيح السنة، وبين التجربة الإسلامية التي تؤطرها النصوص مبدئيا، إلى جانب الظروف السياسية والثقافية والعرقية الفاعلة والمؤثرة في التاريخ؛ وما إلى ذلك مما يضيق المقام بالحديث عنه تفصيلا.
إن الإسلام المعياري قد قدم نفسه دينا مكملا للأديان الأخرى، مع اعتبار لها، ودعوة إلى اعتبار حرية الدين في نصوص قطعية كثيرة، يعرفها القراء.
لكن حين يكون الحديث عن الإسلام –التاريخي- فالأمر يختلف تماما، حيث يصعب ادعاء وجود تسامح وتعايش بين الديانات الثلاث، بنفس الدرجة التي يصعب معها القول ب-اللاتسامح- فيها، إذ لم يكن النص وحده من يؤطر ويوجه تعامل المسلمين مع غيرهم، وبيان ذلك أننا حين نتتبع ما تحصل بين أيدينا من التراث الفقهي المنتمي إلى عدوة الأندلس منذ الزمن المبكر للوجود الإسلامي إلى سقوط غرناطة، نجد أكثر من فتوى ورأي في القضية الواحدة. فالسماح للمسيحيين ببناء الكنائس وممارسة عباداتهم فيها، لم يعرف موقفا فقهيا واحدا من قبل فقهاء المذهب المالكي على امتداد القرون وفي مختلف مدن الأندلس وقراها وأرباضها، بل الذي حصل هو أن الفتوى الفقهية بهذا الخصوص كانت تستحضر الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية وموقع الدولة قوة وضَعفا، وبناء على هذا كله تصدر الفتوى، فحين تكون الدولة في وضع يسمح لها بإحكام القبضة على -أهل الذمة-، الذين كانوا في كثير من الحالات يُحرَّضون من قِبل “-المحاربين- الذين كانوا في حالة كر وفر مع المسلمين على امتداد تسعة قرون من الوجود الإسلامي في الأندلس، حينها تتجه الفتوى جهة إغلاق بعض الكنائس، والقطع بتحريم السماح ببنائها، لكن الأمر يختلف حين تكون الدولة في وضع لا يسمح لها بذلك -نموذج عصر الطوائف-، حيث تكثر التحديات، حينها يكون رهان القاضي الذي يصدر الحكم -والذي كان هو لسان الخليفة-، هو حفظ بيضة الأمة –الشرعية-، حتى لو اقتضى الأمر السماح لغير المسلمين بممارسة حقوقهم الدينية، وتقريبهم لمراكز القرار إن كانوا أطباء أو مهندسين أو فلكيين، أو غيرهم من الذين أسهموا من جهتهم في ازدهار مختلِف العلوم التي صَنَعت في الأندلس – كما في غيرها- حضارةً لا يزال العالمُ يذكرها ويشيد المنصفون بها، وفي هذا السياق نفهم تقريب المعتمد بن العباد للنصراني ششنند –Sisnando- حتى جعله مستشاره الخاص، واستوزار اليهودي ابن النغريلة من قِبل ملك غرناطة، وتولي أسرة بني حداي اليهودية مناصب عليا في بلاط بني هود في سرقسطة…
ختاما: إن المواقع كانت دائما وراء تبني المواقف في تعامل المسلمين مع غيرهم بخصوص مسألة التعايش والتسامح، أما النص المعياري فقد كان يُهرع إليه لتبرير الفعل في كل سياق من سياقات الوجود الإسلامي بالأندلس الشتى، ما يجعلنا نعتقد أن القول بالتعايش والتسامح إطلاقا، أو القول بعكس ذلك هو أمر لا يخلو من مخاطرة ومجازفة بالقول.
د. إبراهيم بوحولين