شكل رحيل الفقيد الناقد والمبدع عبد اللطيف الزكري في إحدى أيام سنة 2019، خسارة فادحة لمجال الكتابة والمعرفة والإبداع بمدينة طنجة وبعموم بلاد المغرب. فالرجل ظل، طيلة حياته، منارة للبحث وللتنقيب وللنهل من معين الدراسات النقدية المغربية المعاصرة، محققا تراكما نوعيا يستحق أن يكون مجالا متجددا ومفتوحا للقراءة وللتأمل، وهو التراكم الذي اصطبغ بأخلاق إنسانية رفيعة، جعلت من عبد اللطيف الزكري أيقونة فريدة في الإخلاص لمهنة الأدب ولعشق الكتابة وللولع بفضيلة البحث والسؤال، في تواضع جم وفي عطاء متدفق وفي عشق مسترسل وفي انشغال متواصل.
وفي التفاتة تعبر عن وفاء زملائه وأصدقائه ومعارفه لذكرى هذا الكاتب المتميز، أصدرت مجموعة من الهيآت الثقافية كتيبا توثيقيا احتوى على مجموعة من الكلمات التأبينية التي ساهم بها أصحابها في اللقاء التأبيني الذي احتضنته مدينة طنجة يوم 26 أكتوبر من سنة 2019. ويمكن القول إن هذه الشهادات تقدم باقة من المداخل المؤسسة لثقافة الحب والعرفان تجاه رموز الثقافة والفكر المحليين، ممن يصنعون بهاء المشهد الثقافي بمنطقة الشمال وبعموم بلاد المغرب. وللاقتراب من سقف محددات القيمة الثقافية والمعرفية للفقيد عبد اللطيف الزكري، نقترح الاستدلال بمقتطفات من الشهادات التي احتواها الكتاب موضوع هذا التعليق، ففي ذلك أبرز تعبير عن العمق الإنساني النبيل الذي احتضنت –من خلاله- نخب الشمال رصيد المنجز الثقافي والمعرفي للفقيد عبد اللطيف الزكري.
ففي شهادته المركزة، يقول أحمد هاشم الريسوني: “عبد اللطيف الزكري.. هذا الأديب المثقف المبدع الخلوق الصامت الزاهد المترفع الصادق الوفي المحتسب الأبي المسامح المخلص الأستاذ.. لو ذكرت باقي الخصال الحميدة لاحتوته وآزرته وكانت له وساما.. كم هو متعدد المحامد…” (ص. 5). وتقول هدى المجاطي: “كان المرحوم الدكتور عبد اللطيف الزكري رمزا من رموز الثقافة بطنجة العالمة، كان إنسانا خلوقا وباحثا مجدا وناقدا حصيفا، راكم تجربة علمية فريدة، شغله البحث وشغلته الرواية تحديدا العربية والعالمية. كل ما كتبه المرحوم عن الشعر المغربي الحديث والمعاصر، كان مستنده فيه المعرفة العميقة بأصول الإبداع ومناهج التلقي… كما كانت له مشاركات في النقد الروائي والقصصي وهي تدل على تمكنه وتبصره وحسن تأويله وجمال تذوقه. من الناحية السلوكية، كل من عرف المرحوم عبد اللطيف يشهد له بدماثة الخلق وصون اللسان وحسن تدبير الاختلاف. لم ير قط منفعلا أو مدافعا عن موقف بولاء أعمى، كان المرحوم مجردا من الاندفاع والادعاء وتضخم الأنا…” (ص. 7).
ويقول محمد المسعودي مناجيا روح الفقيد: “ماذا يسعني أن أقول بعد هذا، وهل تكفي هذه الشهادة للإشارة إلى فداحة فقدك، وعمق الأثر الجارح الذي خلفته في روحي؟ لا أملك إلا التسليم بقضاء الله وقدره.. ولا أملك لك صديقي “العميق الحميم” سوى الدعاء الدائم بالرحمة والمغفرة…” (ص. 15). ويقول عزالدين الشنتوف مستحضرا القيم العلمية الرفيعة للفقيد: “ما كنت مهادنا في المعرفة الأكاديمية، بل باحثا رصينا عميقا في أعمالك النقدية، وخاصة عملك القوي “وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة”، مدققا في اختيار المتون وملتزما بالرؤية المنهجية الصارمة…” (ص. 17). ويقول جمال السعيدي: “لن أضيف جديدا إذا قلت عن هذا الرجل رحمة الله عليه أنه قد أدى رسالته في هذه الدنيا كما يليق بأصحاب الرسالة، عارك الحياة بشرف عاري اليدين، فلم يتسلق ولم يتملق. عاش شمعة تحترق في صمت رويدا رويدا لتنير ما حولها، كان أبا طيبا في بيته وأستاذا مخلصا في أداء رسالته وقطعة مسك تعطر جلسته بين أصحابه، لم يبخل عليهم يوما من زاده المعرفي الغزير، ولا من مكتبته الزاخرة بعيون الأدب والفكر، كما لم يتأخر في حياته عن إسداء النصح الجميل حين يلجأ إليه طالب النصيحة…” (ص ص. 20-21).
ويقول الطيب بوعزة: “لا أتذكر صورته إلا وهو متأبطا كتابا، فقد كان قبل الكتابة في موضوع من الموضوعات يحرص على أن يطلع بتأن وعمق على مختلف المسارات الفكرية والأدبية التي تمكنه من تطوير رؤيته لذلك الموضوع، وتجويد رأيه فيه…” (ص. 22). ويقول عبد اللطيف شهبون: “جمع المرحوم عبد اللطيف في ذاته حقائق عظيمة، فهو مثقف بارز باللسان العربي المبين، منفتح على الثقافة الأجنبية، قارئ نهم للفكر والفلسفة والنقد، لكنه لم يسقط في استتباع أعمى، ولم يدافع عن منحى فرنكفوني في الإدارة والتعليم. ظل هادئا، صلبا على الحق” (ص. 28).
ويقول عبد الهادي المهادي مستحضرا اليوم الأول للقائه بالفقيد في نفس السنة التي رحل فيها إلى دار البقاء: “يومها التقينا وكأننا كنا نعرف بعضنا البعض منذ سنوات، فقد انطلقنا نتجاذب أطراف الحديث بشكل عفوي في قضايا اللغة والأدب والنقد، خاصة ما تعلق بعوالم الرواية العربية والعالمية. ومنذ ذلك الحين، وجدت فيه الإنسان الخلوق والناقد الحاذق…” ص. 31). وتقول كريمة الرحالي في تعبير بليغ عن الأسى من درجة الجحود الذي أضحى يميز المشهد الثقافي من خلال سيرة عبد اللطيف الزكري: “عانى الفقيد في صمت الكبار من التهميش والإقصاء، شأنه في ذلك شأن المبدعين والكتاب الذين أبوا الانتماء لغير ذواتهم، والولاء لغير إبداعهم وفكرهم، فاختار العزلة الواعية على الشهرة الواهية…” (ص. 33). وفي نفس السياق، يقول محمد بوعزة: “الصديق الحميم القاص والناقد عبد اللطيف الزكري –كما عرفته خلال هذا العمر الطويل- كان من طينة نادرة سواء كإنسان نبيل أو أديب متفرد. في المنظور الإنساني، كان إنسانا محبا للجميع، زاهدا في كل أطماع الدنيا التي تتصارع عليها النفوس الصغيرة. كانت نفسه كبيرة تتسع للجميع، بحجم مساحة الأفق الإنساني الذي يشترعه الإبداع الإنساني العظيم…” (ص. 37).
وبعد، فهذه الكلمات مجرد غيض من فيض عطاء المرحوم عبد اللطيف الزكري، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. هي سيرة العطاء بلا حدود، والإبداع المتسامي، والحب الأخاذ تجاه المحيط وحمولاته. باختصار، هي سيرة طنجة العالمة، طنجة الإبداع والخلود، طنجة العشق والسمو.
أسامة الزكاري