– نبذة عن سيرة الكاتب:
د.حسن مسكين ، أستاذ المناهج الحديثة وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة. حاصل على دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها ودكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية .رئيس سابق لشعبة اللغة العربية ، عضو المركز الدولي للدراسات والأبحاث في علوم التواصل السياسي والجمعية المغربية لتكامل العلوم ، ومختبر دراسات الفكر والمجتمع .
له عدة مؤلفات ، منها : الخطاب الشعري العربي الحديث بين الإنجاز والتلقي (2004). الخطاب الشعري الجاهلي ، رؤية جديدة (2005). تحليل الخطاب : وقفات نقدية في مؤلفات مغربية (2007). مناهج الدراسات الأدبية الحديثة ( 2010 ).أزمة النخب العربية ، الثقافة والتنمية (2012). اللغة والفكر، دراسات نقدية ( 2014 ). الخطاب السياسي المغربي المعاصر (2016 ) . النخب العربية و الإسلامية ، قضايا الديمقراطية ، المثقف ، السلطة (2017). له عدة دراسات وأبحاث في أعمال جماعية. أشرف على العديد من الأعمال والمؤلفات الجماعية.
– ماذا تقرأ ولمن قرأ ؟
قراءاتي متنوعة ، بين ما هو فكري وثقافي وديني وأدبي ونقدي وقانوني وسياسي .
لقد ادركت و انا في مرحلة التحصيل الجامعي ، أن تنويع مصادر القراءة سيفتح لي افقا فسيحا للفهم ويقوي ملكتي في الاستيعاب ، ويمنحني تلك الطاقة اللازمة لمواصلة رحلة القراءة الممتعة والتلقي المفتوح ،غير المقيد بوجهة محددة او اختيار ضيق . لم يكن ذلك وليد تلك المرحلة فقط ، بل كان امتدادا لتوجه ظهرت ملامحه الأولى في المرحلة الثانوية ، حيث كنت أميل إلى كتابة مواضيع أدبية وفكرية ، متعلقة بالقضايا الكبرى والقيم الإنسانية السامية ، مثل الحرية والعدل والتسامح والاختلاف ، وغيرها من المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية والإنسانية السليمة.
لذلك كنت دائم البحث عن هذه المفاهيم الكبرى ، السامية في كل الحقول المعرفية والمجالات الفكرية والفلسفية والأدبية والنقدية ، التي تناولتها في بداية الأمر في تجربتي مع الخطاب الشعري الجاهلي ، الذي وجدت فيه دقة في التعبير وعمقا في الرؤية لقضايا الإنسان والحياة والموت والوجود.
ومع توالي السنوات وتعاقب مراحل الدراسة والتحصيل العلمي والمعرفي ، لاسيما في المجال اللغوي والأدبي والنقدي ، وبعد انفتاحي على تجارب الشعراء المحدثين ، العالميين ( بودلير ، رامبو ، سيدارسنغور…)، والعرب (مثل عبد المعطي حجازي ، سميح القاسم محمود درويش ، أحمد المعداوي المجاطي ، محمد الشيخي) ، وغيرهم بدا لي انها تستحق وقفات خاصة ، وقراءات صبورة ، أعمق من خلالها فهمي واستيعابي للشعرية الحديثة ، مقارنة بما تكون لي من رصيد هام عن تلقي الشعرية القديمة. ولا اخفيكم انه في هذه المرحلة بالذات كانت تتنازعني هاتان التجربتان الرائدتان في الإبداع ، خاصة انني كنت مولعا بقراءة أعمال الشعراء الرواد المغاربة . لكن يبدو أن الشعرية الجاهلية ، بما كانت تتميز به من فصاحة لغوية وعمق في التصور والرؤية التي كانت تصدر عن شعراء كثر متميزين، منهم شعراء المعلقات والمفضليات والأصمعيات والصعاليك وغيرهم من الرواد .
وقد توجت ذلك بإنجاز عمل تحليلي ، تناولت فيه التجربة الشعرية لهؤلاء الشعراء ، من منظور جديد ومقاربة مختلفة ، بينت فيها عناصر التشابه والاختلاف في هذه التجارب الإبداعية ، سواء ما تعلق منها بالأدوات الفنية ، أم ما تعلق بالرؤية والتصور. وقد كان هدفي من هذا العمل تعديل ذلك التصور المعياري والنمطي الذي كان مهيمنا في العديد من الأعمال التي قرأت وقاربت تلك التجارب اللشعرية في تلك المرحلة.
لمن تقرأ ؟
تتوزع قراءاتي بين معارف وعلوم وروافد عديدة ، قد يبدو ظاهريا أنها مختلفة ومتباعدة ، لكن الواقع أن بينها صلات تقاطع وتكامل ، أحاول باستمرار أن أحددها وأفهمها وأستوعب أصولها وخلفياتها ودلالتها وأهدافها ، لتيسر لي بعد ذلك توظيفها التوظيف المناسب في خدمة قضايا التنمية الموسَعة. أعني بذلك الروافد الآتية:
- الرافد الأدبي والنقدي قديمه وحديثه وراهنه :حيث عالم الإبداع والخلق والجمال ، إلى جانب عالم النقد الذي يعنى بمكامن الشعرية وقوانين الأدبية وكل ما يفيد في تطويرهما وتجويدهما ومعرفة خصائصهما وأهدافهما.
-
الرافد القانوني وعلم السياسة : ويفيد ضبط وتقنين السلوك والعلاقات ، صونا للمؤسسات واستمرارا لحياة الناس ، في ظل تنافس وصراع من يمثلهم على تلك القيم المادية والرمزية التي يوفرها المجتمع .
-
الرافد الفكري والثقافي : أي تلك المرآة التي تنعكس فيها إنجازات النخب وطرق تدبيرها لمختلف القضايا التي يقوم عليها وجودهم ويبنى عليها مصيرهم.
أقرأ للرواد العالميين المؤسسين ، الذين بصموا تاريخ الإنسانية بتجارب إبداعية وأعمال نقدية أصيلة ، وخالدة. في الشعر أقرأ لإمرئ القيس والنابغة وأوس بن حجر والشنفرى وتميم بن مقبل . كما أقرا أعمال الشاعر الهندي طاغور ، إضافة إلى أشعار أبي الطيب المتنبي ، ومحمود درويش وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ، وأحمد المعداوي المجاطي ومحمد الشيخي وإدريس الملياني .
لقد اسعفتني تلك القراءات المتنوعة في تحقيق عدة أهداف ، خاصة قراءة أعمال تهم مناهج نقدية حديثة ، برزت بشكل لافت في المغرب والبلاد العربية ، كرد فعل على هيمنة النقد التاريخي والاجتماعي والنفسي ، الذي ركز على عوامل إنتاج الإبداع بدل تحليل ودراسة الخطاب الإبداعي ذاته.
أما علاقتي بالأعمال السردية ، فبرزت بشكل خاص ، في مرحلة السلك الثالث ، حيث وجهت معظم اهتمامي لقراءة مجموعة من الأعمال الروائية والقصصية . حيث قرأت أعمال الرواد ، منهم الطيب صالح ، خاصة رواياته موسم الهجرة إلى الشمال ودومة وحامد وعرس الزين .وأعمال الوصَافة نجيب محفوظ زقاق المدق وقسر الشوك والسكرية واللص والكلاب، وأعمال عبد الرحمان منيف ، خاصة شرق المتوسط ، وحين تركنا الجسر ، والنهايات. وأعمال جبرا إبراهيم جبرا في عالم بلا خرائط ، والغرف الأخرى ، وشارع الأميرات.إضافة إلى أعمال محمد زفزاف الأفعى والبحر، و محاولة عيش ، والثعلب الذي يظهر ويختفي.
وفي القصة القصيرة ، قرأت لأحمد بوزفور الغابر الظاهر ،والزرافة المشتعلة ، كما قرأت لمحمد غرناط الصابة والجراد ، الأيام الباردة ، والبرج المعلق.
وبما أن غايتي من هذه القراءات المتنوعة ، لم تكن فقط تحقيق المتعة والإستفادة ، بل إنجاز دراسات وأبحاث ، سواء ما تعلق منها بمشروعي العلمي في محور الأدب والنقد ، أم ما تعلق منها بدراسات وأبحاث ، كنت أشارك بها في ندوات ولقاءات علمية ، فإنها غالبا ما تكلل بالنشر في مجلات متخصصة أو مؤلفات جماعية.
وقد خلصت من خلال تلك القراءات المتنوعة ، التي لم أهمل فيها معرفة أصول تلك المناهج النقدية الحديثة ، في منابعها الغربية ، خاصة الفرنسية ، حيث كانت اعمال كل من رولان بارث وجوليا كريستيفا وآلجيرداس غريماس وغيرهم من النقاد الجدد الذين تشبعوا بالنظريات البنيوية واللسانية والسيميائية ، تستهويني لما تقدمه من تصورات وأدوات دقيقة ، تساعدني على تكوين فهم عميق للنص و الخطاب ، وذلك بتوظيف مفاهيم جديدة ، لم تكن مألوفة أو رائجة آنذاك ، مثل القراءة والتلقي والتأويل والكتابة والاختلاف وغيرها من المفاهيم التي عملت على الاستعانة بها ، سواء في قراءاتي أم في دراساتي وأبحاثي للمنجزين الشعري والسردي. انتهيت من ذلك كله إلى أن فهم واستيعاب التجارب الشعرية والسردية الحديثة ، يمر عبر فهم قوانين الشعرية أو الأدبية القديمة ، واستيعاب المنجزالنقدي القديم والحديث . وهذا ما عكفت عليه منذ تلك الفترة ، وهو الذي رسخ علاقتي بالأعمال المؤسسة للنقاد الأعلام القدامى ، منهم عبد القاهر الجرجاني في كتابيه الرائدين أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز ، والآمدي في كتابه الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، والسكاكي في كتابه مفتاح العلوم ، وحازم القرطاجني في كتابه منهاج الأدباء وسراج البلغاء، وغيرهم من النقاد والبلاغيين الذين أسسوا لمرحلة مهمة من تاريخ النقد العربي. فالتكامل سمة أساسية قائمة بين هذه العلوم والمعارف. أما علاقتي بالقرآن الكريم فهي الأساس الذي فتح عيني ، من جهة على جمال وفصاحة وأسرار اللغة العربية ، فضلا عن مضمونه الغني الذي لا تنقضي أعاجيبه ولا تحد أسراره ، و ومن جهة أخرى أكسبني القدرة على التعبير وأمدني بطاقة القول وحبب إلي اللغة العربية الفصيحة ، وقوى من رصيدي التعبيري الذي أفادني كثيرا في مجال الكتابة. وهكذا لم أنقطع عن قراءته والتأمل فيه ، من خلال الوقوف، كل يوم عند آية واحدة ، أتأملها وأستخرج منها بعضا من الحكم الرباني والأسرار الإلهية ، أتزود بها في رحلة الحياة والتعامل مع الناس . وذلك بالاستعانة بالمعاجم اللغوية ، لاسيما لسان العرب لابن منظور الذي كان أول كتاب يزين رفوف مكتبتي ، وأنا مازلت طالبا في المرحلة الجامعية.
وقد تقوت لغتي كثيرا ، حينما سرت مواظبا على قراءة معظم أعمال الجاحظ التي كنت أجد فيها عوالم غريبة وعجيبة ، وطريقة خاصة في الكتابة الموسعة التي تحضر فيها البلاغة والنقد والأدب والسياسة والتاريخ والفكر وغيرها من فنون القول . وقد مارست علي أصنافا من الإغراء ، حتى كدت لا أفارقها. هذا فضلا عن محبتي الخاصة للمتنبي الشاعر الحكيم .
– لماذا تقرأ ؟
آمنت أن القراءات المفتوحة هي المفتاح الذي يمكن الباحث من ولوج عوالم المبدعين والنقاد والمفكرين ، لفهم تصوراتهم للوجود والحياة والموت والإنسان . وهي إلى جانب ذلك تمنح صاحبها عصارة تجارب هؤلاء المنتجين ، مما يمكنه من استثمارها في تواصله مع ذاته ومع الناس. القراءة المفتوحة تجدد الروح وتسمو بالنفس نحو مدارج عليا وتعيد الإنسان إلى صفائه الوجودي ، بعد ان تنزع ما علق فيها من ترسبات الزمن وكل ما يعكر صفاء الروح في وحدتها وهي تنشط بتلك القراءات المتواصلة الرمزية أو المتخيلة ، المستمدة من تلك الفضاءات الرحبة والأزمنة الممتدة.
إن هذا التعدد والتنوع في هذه العلوم والمعارف ، إنما يؤكد حقيقة أساسية هي أنها تنشد البحث عن الحقيقة ، حقيقة الوجود والإنسان والحياة والموت ، وإن كان ذلك من مرجعيات وتصورات ورؤى متنوعة وطرق ومناهج وأدوات متعددة ، تنطلق من أسئلة مفتوحة ومستمرة وأبحاث ودراسات متتالية مختلفة ، لكنها تصب جميعا في نهر المعرفة التي هي أعز ما يطلب .
لي في القراءة مآرب شتى ، أقرأ لأنفتح على العالم ، ولأتعرف على تجارب الآخرين ، بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والعلمية والثقافية . أقرأ لأعيش تجاربهم ، وأحلامهم وأمالهم وهمومهم ، وما يواجهونه من صعاب الزمن وضنك العيش . أقرأ لأواصل البحث عن سر الوجود وكنه الحياة وقد تشكل في فكرة نيًرة أو كلمة طيبة أو قضية سامية. أقرا لا لأبحث عن فردوس مفقود أو سعادة متوقعة ، فهذه أوهام نصنعها ونبني لها أوتادا ، سرعان ما نكتشف ، بعد رحلة قصيرة في واقعنا ، أنها كانت مجرد سراب ، نقفل منها عائدين إلى نقطة البداية ، هذه الأخيرة التي تجسدها بكل صدق ورمزية عملية القراءة المتواصلة والمفتوحة.
القراءة بالنسبة لي ، بحث دائم ومستمر عن الذات في سيرورتها وانفتاحها وحيويتها ، أي في كينونتها الحقة ، وقد تحررت من قيود التمثيل والتشبيه والمقارنة ، لتنتهي إلى الاختلاف والتميز والفرادة . نعم حين أقرأ أدخل في علاقة تماهي أو تصادي أو تشابه لحظي أو نسبي مع ذوات أخرى ، من صنع شاعر حكيم أو روائي نبيه أو قصاص بليغ ، لكنني وأنا أقرأ ، وأستنتج وأؤول ، أنسج عالمي الخاص ، أصنعه من بنات أفكاري وقد امتزت بتجارب واقعية ومتخيلة ، مادية ورمزية ، لأشيد لها إطارا حكائيا ، ومبنى لغويا ومحتوى إشاريا أو رمزيا ، يتجدد مع كل تجربة قراءة ، ويتخلق مع كل فعل كتابة . القراءة تضعني باستمرار في موضع متموج ومتحرك .
القراءة كما الكتابة جسر عبور ، من جهة نحو الضفة الأخرى وفهم الغير ، ومن جهة أخرى نحو كشف الذات وأسرارها الغابرة ، بعد ان تتحلل من الرقباء ، وتخط لنفسها طريق المكاشفة والبوح المفتوح والمتوهج و اللامتناهي .
الذات بعد أن تتشكل بفعل القراءة المنتجة ، تتحول من ذات فردية ، سيكولوجية ، إلى ذات مركبة ، متشعبة ، ومشبعة بتجارب الآخرين . إنها الذات القارئة المتلقية ، المؤولة التي ستغدو في لحظة ما ذاتا كاتبة في صيغتها الجديدة أو المفتوحة ، ترنو في كل قراءة إلى أن تصل إلى صورتها الأولى وبدايتها السحيقة ، وهي تتشوق وتتشوف لبلوغ ذلك ، لكنها لا تدركه ، فتعاود رحلة القراءة من جديد ، وهكذا إلى ما لانهاية .
القراءة بالنسبة لي مشروع حياة ، في مواجهة الغياب والفراغ والقهر والظلام ، وكل أشكال الموت . إنها سر وجودي والطاقة التي تمنحني متعة الحياة ، من خلال النظر والتأمل والفهم والتمثل وإدراك الموجودات والمتخيلات والرموز.إنها ذلك الرصيد المعرفي والفكري والأدبي والثقافي الذي يبقى راسخا ، حيا ، حين تتلاشى كافة الموجودات ، وتصر تلك الذوات على الغدر والخيانة ، وتأبى إلا أن تنصب فخاخها في الطريق ، تبتغي ترسيخ كل أشكال النمطية والتكرار والتماثل ، فيما القراءة تمنحني القدرة للخروج والتحرر من تلك القيود وكشف تلك الفخاخ الغادرة . فلولى القراءة ما كان للحياة فضاءاتها وأزمنتها وأناسها وعلاقاتها من طعم ولا متعة . بدون قراءة تستحيل الحياة وتضيق بي الأرض بما رحبت.
- تنبغي الإشارة هنا إلى أنه بفعل العولمة ونتائجها والرقمنة وفخاخها ، لم تعد للقراءة اليوم ذلك الدور الذي كان لها في السابق ، فقد أصبح كل افتراضيا ، ، عابرا وسريعا ومخيفا. هيمنت الصورة واستبدت بالقراء الواقعيين والمفترضين ، وحولت معظمهم إلى أداة طيًعة ، تتحكم فيها وتوجهها أنَا تشاء. ونظرا لأن القراءة فعل تأمل ، وتدبر ، وصبر على الفهم والتفسير ، لم يعد لها مكان في عصر الرقمنة أو الهيمنة ، إلا لدى فئة قليلة من المحصنين ضد داء فقدان مناعة القراءة ، ممن يرابطون على جبهات التلقي الصبور للإبداع والفكر وسائر أنماط الإنتاج الرمزي .
القراءة أيضا تمرين دائم ، شاق ، لكنه ممتع ، يختبر ذكاء القارئ وسعة مخيلته في إضفاء صفات خاصة وتأويلات متميزة على ما يقرأه ، بحيث يعيش فيه تجارب متعددة ، يعيد من خلالها صياغة العالم ، ليمنحه في كل تجربة قراءة أبعادا ودلالات جديدة . وهي بهذا تشكل نوعا من الكتابة المتخلَقة ، استنادا إلى ما تنتجه الذاكرة وما يمنحه الرصيد المعرفي واللغوي والثقافي والتخييلي للقارئ ، في صلته بما هو معطى أو قائم في النص أو الخطاب موضوع القراءة . حيث تلتقي تجربة المؤلف ، الكاتب بتجربة القارئ المؤول ، فينتج عن ذلك عمل جديد ، يغدو فيه القارئ منتجا ، بعد أن يتوارى منتج العمل الأول . وهكذا تستمر عملية تبادل المواقع والأدوار ، كلما تجددت القراءات ، استمر فعلها وتأثيرها حيا ومنتجا.
القراءة أداة سحرية ، عجيبة ، متعددة الأهداف ، إنها مفتاح يمكنك من ولوج عوالم مختلفة وأداة متفردة ، لا نظير لها في قاموس الأدوات أو الوسائط . إنها الروح أو الترياق الذي يمكنك من طعم الحياة وكشف أسرار الخلق ، ومعرفة الظاهر والغابر من الطبائع والأفعال ، هي التي تمكنك من نزع الأقنعة عن الوجوه ، لتراها على حقيقتها وقد تعرت وانكشفت . هي التي تغدق عليك بالسائر من الحكم والبليغ من الأقوال والأمثال . إنها ملتقى الحالات والعلاقات ، والملهمة للأنفس الحائرة ، والذوات المتعبة والأصوات الحالمة ، الباحثة عن ملاذ آمن أو زمن ضائع أو رجاء مفتقد أو حاجة مخلصة . القراءة حين تبلغ قمتها ، تصير نقطة البداية .
سيكون من الكذب الصريح ، القول بأن فعل القراءة فعل كشاف للغير فقط ، متستر عن حقيقة الذات . مرد ذلك إلى أن القراءة في حقيقتها فعل مزدوج بل متعدد الأبعاد ، فهي من جهة فعل تحرير من قيود التشابه والتماثل ، حيث الاختلاف هو الحاضر، المهيمن ، وهي أيضا كشف عن مستوى حضور الذات وتجلية لطريقة تفكيرها واختياراتها وطبائعها وتصرفاتها وتأويلها لكيفية حضور الآخرين في مخيلتها وذاكرتها ونوع ومستوى ودرجات هذا الحضور ، سواء أكان هذا الحضور واقعيا أم رمزيا ، قويا أم خافتا ، دائما ومستمرا أم طارئا وعابرا .القراءة أخيرا فعل تحرر وتنوير ، إنها مواجهة مستمرة لقوى القهر وعلامات القبح وجميع أشكال التسلط.
– متى وكيف تقرأ ؟
سبق أن ذكرت أن القراءة بالنسبة لي فعل وجود وتحرر من قيود الزمن وضيق المكان . وبالتالي ، لا يمكن أن يمر علي وقت ، إلا وقد انزويت في قلب مكتبتي ، لأشرع في قراءة كتاب فكري جديد اقتنيته ، أو عمل روائي أو شعري ،سبق أن حددته سلفا ، لمدة قد تختلف حسب حالتي الجسدية والنفسية. غير أنني ، أحيانا ، أجعل من القراءة مطية لتجاوز ما قد يعترضني من أحاسيس قلق، ناتج عن تصرف مشين ، أو سلوك معيب ، أو غدر حبيب .
ما إن أختلي إلى مكتبتي ، حتى أغيب فيها عن الأنظار ، وأخلد لساعات طويلة في عالمها الفسيح ، لأعيش مع حكم المتنبي أو فرادة لغة أحمد المجاطي ، أو عجائبية قصص أحمد بزفور، أو أسيح في دروب حارات نجيب محفوظ أو أغوص في كتاب فكري عميق لطه عبد الرحمان أو محمد عابد الجابري.
أما عن طقوسي في القراءة ، فهي غالبا ما تكون في مكتبتي التي تشغل حيزا فسيحا في مكان بجوار حديقة البيت التي تزينت بأوراق شجر الزيتون ، حيث الصمت التام ، إلا من أصوات بعض الطيور. حيث يطيب لي في الصباح أن أقرأ وأبحث في الأعمال الفكرية التي تتطلب تركيزا وقدرا كبيرا من الدقة في الفهم والاستيعاب . وإلا فإن معظم قراءاتي الحرة للأعمال الأدبية شعرا وسردا ، تتم ليلا بعد أن أكون قد انتهيت من إلقاء محاضراتي في الكلية ، أو قمت بفحص رسالة أو أطروحة علمية أو أنجزت دراسة أو بحثا في موضوع فكري او سياسي جذبني ، وأود أن يخرج للناس في كتاب أو ضمن أعمال جماعية أو في مجلة متخصصة. ورغم اهتمامي الكبير بالدراسات والأبحاث والمناهج النقدية الحديثة والراهنة التي أحاضر فيها بالجامعة ، إلا أنني أجد متعة خاصة في قراءاتي للمنجز الأدبي والنقدي القديم شعرا ونثرا . ولعل ذلك ما يؤكد ، من جهة تلك الصلة الراسخة التي تصلني بالبدايات والجذور والأصول ، رغم أنني متابع وقارئ لمعظم ما يكتب في الأعمال اللأدبية والنقدية الحديثة والراهنة ، ويؤكد من جهة أخرى هذا العشق المتواصل للبدايات ، وكأنها تمارس علي سحرا خاصا وعجيبا ، يجسد ما يشبه تلك المنابع الصافية لنهر ، ما انفك يتدفق عبر مر اللأزمنة وتعاقب الأيام والأحداث ، دون أن يفقد عذوبته ونقائه.
هكذا وبين سحر ونقاء البدايات ورغبتي المتواصلة في مواكبة كل جديد من الأبحاث والنظريات ، أجدني أقرأ وأبحث في واجهتين ومسارين ، بقدر ما يبدوان في الظاهر مختلفين ومتباعدين ، بقدر ما أتأكد عند نهاية كل قراءة أو مقاربة أو دراسة أنهما متكاملان.
ذلك أن فهم النظريات الحديثة والراهنة ، لا يتم بمعزل عن فهم واستيعاب التراث أو المنجز الأدبي والنقدي الإنساني .
– هل للتدريس والتأطير في الجامعة تأثير على عملية القراءة ؟
الجامعة هي الفضاء الذي أنزًل فيه تلك القراءات والأبحاث التي أنجزها . ذلك أنها تتيح مجالا لتلاقح الأفكار والتصورات والرؤى ، سواء مع الزملاء الأساتذة الذين يبحثون في مشاريع علمية تقترب من مجال اهتمامي ، أم من خلال تلك الندوات العلمية واللقاءات التي نقوم بها في إطار مختبرات البحث أو الفرق العلمية ، التي تشتغل في حقول معرفية متعددة ، لكنها تتقاطع مع ما أبحث فيه ، فيحصل بذلك نوع من التكامل ، لتغتني بذلك تجربة كل باحث ، مما ينعكس إيجابا على نوعية البحث وإشعاع الجامعة ، بما يجسد ذلك التنافس العلمي المطلوب.
أما لقائي مع طلبتي داخل الجامعة ، فيمثل لي في كل مرة حدثا مهما ، وفرصة ملائمة لتبادل الأفكار والرؤى ، حيث أسعى وأصر على أن تكون محاضراتي عبارة عن حوار مفتوح وتفاعل مستمر ونقاش عميق لما أقدمه إليهم ، لا على أساس أنه الحقيقة او الصواب ، وإنما لأنه إمكانية معرفية أو أدبية أو نقدية أنجزها أصحابها في سياق ما ووفق شروط معينة واجتهدوا فيها ، وهي اليوم أمامنا ، لنعمل فيها نظرنا وفكرنا ونقترح ما يبدو لنا أنها إضافة أو تكملة أو تعديل ، وهذا في استحضار دائم لنسبية الأفكار والاجتهادات والإنجازات ، بعيدا عن فكرة المطلق أو اليقين.
وعلى هذا المنوال ، أقترح ويقترحون وأناقش ويناقشون ، لنخلص في النهاية إلى إنجاز علمي أو فكري أو تصوري ، يكون الجميع قد شارك فيه وساهم بقسط ما في صياغته وإبداعه. لتحصل بذلك المتعة المطلوبة والإفادة المرغوبة ، ونستبعد بالمقابل ما قد يعتري المحاضرة من نقص أو ما قد يشعر به الطالب من ملل. لذلك لاشيء يعادل سعادتي وأنا في حضرة طلبتي ، نستمد من بعضنا البعض تلك المحبة التي تقوي إصرارنا على البحث وتشحذ هممنا لمزيد من العطاء.
– حدثنا عن مشروعك العلمي ؟
يهتم مشروعي العلمي بالبحث في تكامل العلوم الإنسانية وتلاقح المعارف ، بما يخدم موضوع التنمية الشاملة . إضافة إلى تحليل ودراسة معيقات الفكر النقدي الحر ، والبحث في شروط ومقومات الثقافة المتنورة في أبعادها المختلفة ، مع الحرص على اقتراح وتقديم البدائل الممكنة ، سواء تعلق الأمر بالفكر أم النقد أم اللغة أم الأدب أم الثقافة. هذا انطلاقا من وضع مجموعة من المفاهيم الأساسية التي لها علاقة بالمؤسسات والديمقراطية والحرية موضع سؤال ونقاش ونقد منهجي ومعرفي ، بهدف كشف طبيعتها وخصائصها ومقاصدها وتأثيرها في الإنسان والمجتمع ، سواء في بعدها الرمزي أم المعرفي أم الأدبي أم النقدي أم القانوني والسياسي .
إضافة إلى ذلك أهتم في مشروعي العلمي بإبراز دور الثقافة والفكر والأدب والنقد في تنمية الإنسان والمجتمع ، وخلق الانسجام بين مختلف مكوناته . وهذا ما حاولت العمل عليه في جميع أعمالي ،أي الانفتاح على روافد وحقول معرفية وعلمية متنوعة ، لأثبت من خلالها دور التكامل المعرفي في خدمة الإنسان والمجتمع.
أما الخيط الناظم للروافد المعرفية التي وجهت أعمالي وحددت مشروعي العلمي ، فتتمثل في موضوع ” التنمية ” بمفهومها الواسع ، أي علاقة الأدب والنقد والفكر والثقافة والقانون وعلم السياسة بالتنمية. والذي يقرأ مجموع أعمالي ، منذ كتابي الأول : ” الخطاب الجاهلي رؤية جديدة ” (2005) ، سيلاحظ أنني أسعى إلى استثمار قراءاتي للمنجز الشعري والسردي العربي القديم والحديث ، في مقاربة وتحليل نماذج متميزة ، لكن من منظور منهجي وتصوري تكاملي ، مفتوح ، يهدف إلى تعديل أو نقد تلك التصورات والأحكام النمطية عن تلك الخطابات ، وذلك بما يساهم في تنمية الوعي بشعرية تلك الأعمال . مرورا بكتبي الأخرى ، التي منها ” الخطاب الشعري بين الإنجاز والتلقي” (2007) الذي أظهرت فيه أوجه العلاقة بين مجموعة من الإنجازات الشعرية العربية وطرق تلقيها وما ينتج عن ذلك من تحولات . إلى كتاب ” تحليل الخطاب وقفات نقدية في مؤلفات مغربية “(2007)، الذي خصصته لدراسة مؤلفات مغربية مختارة ، تتمحور حول قضايا ومفاهيم هامة تتعلق بسلطة التأويل وتأصيل التأليف والانسجام والنسقية في الخطاب والتصور التكاملي للسرد العربي وسيميائيات الخطاب الروائي وشعرية الفضاء في الخطاب الشعري الجاهلي . إلى كتاب ” مناهج الدراسات الأدبية الحديثة من التاريخ إلى الحجاج ” (2010) الذي درست فيه مختلف التحولات التي عرفتها المناهج الأدبية والنقدية ، عبر مسارها الطويل من النظريات وطرق التحليل والنقد ، وانتهاء بالمقاربة الحجاجية التي غدت رائجة في سياق التنافس بين المناهج الأكثر حضورا في القرن الواحد والعشرين. إلى كتاب ” أزمة النخب العربية ، الثقافة والتنمية ” (2012) ، الذي أعتبره العمل الأقرب إلى قلبي وفكري ، لأنني تناولت فيه مجموعة من القضايا الهامة التي استأثرت باهتمام المفكرين والباحثين في الشأن الثقافي والسياسي ، إلى كتاب ” اللغة والفكر (2014) الذي ضم دراسات نقدية لعدة أعمال متميزة ، اهتمت بقضايا هامة ، منها اللغة والخطاب والحجاج والديمقراطية والحداثة والتحديث والدين والدولة والإسلام والغرب. إلى كتاب ” الحياة السياسية في المغرب المعاصر” (2016) ، الذي خصصته لدراسة وتحليل مكونات الحكومة والمعارضة في المغرب ، ونوع وخصائص وأهداف الخطاب الذي يتبناه كل منهما . وصولا إلى كتاب ” النخب العربية والإسلامية وقضايا الديمقراطية ، المثقف ، الديمقراطية ، السلطة (2017) ، الذي تناولت فيه بالدراسة والتحليل أدوار المثقف في علاقته بالديمقراطية والسلطة والمجتمع.
د. عبد الواحد العلمي