صيدُ الفجر
أنتمي، في الحقيقة، إلى نادي صيّادي الفجر.. ! هذا التوقيت الزمنيّ الساحر، الملهم الذي يمنح الإنسان طاقة تواكبه اليوم كلّه. وبعد تأملات الفجر وكراماته الروحية والجسديّة المذهلة، أرتّل حزبا قرآنيا، وأرفع كفيّ بالدعاء لخالق الكون وبارئه. ثم أفتح المصنّفات الدّينية، محاولة منّي لتدارك ما فاتني بسبب انشغالاتي المهنية والأدبية. فأقرأ في التفسير والسنة النبوية الشريفة، وفي سيرة الرسول الكريم. وبين يديّ هذه الأيام كتاب “الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري، والكتاب مختصر للسيرة النبوية الشريفة أحرز به الكاتب جائزة السيرة النبوية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية. وقبل النوم مباشرة أقرأ فصولا من حياة الصحابيّ” عبد الله بن المبارك”، ضمن سلسلة “أعلام المسلمين” الشهيرة، وهي آخر ما أقرأ ليلا.
وإذا كنت أخصّص معظم قراءاتي يوم الجمعة لعالم التصوّف تاريخا وسردا وشعرا؛ أطالع الآن”تاريخ التصوف الإسلامي” لعبد الرحمن بدوي، وأقرأ في الجزء الرّابع من (مثنوي) جلال الدين الرومي، وفي ديوان تاج العارفين (للقطب عبد القادر الجيلاني)، فإنني أخصّص يومي السبت والأحد للرياضة والفسح العائلية وجلسة المقهى مع بعض الأصدقاء، ولمعشوقتي الأخرى (السينما)، فأكتب سيناريوهات أصيلة أو معالجة من أعمال أدبية عالمية(اشتغل هذه الأيام على مغربة رائعة البؤساء لفكتور هيجو)، كما أقرأ في فنون السيناريو والتشريح الفيلميّ والإخراج السينمائي، والإطلالة على عدد من أعداد مجلّة دفاتر السينما لما تتضمّنه من معرفة سينمائية مهمّة لاستيعاب هذا الفنّ، والاضطلاع على بعض مدارسه الرّائدة. وأخصّص آخر ساعتين في الأسبوع لمشاهدة بعض الروائع السينمائية. وبذلك أستطيع كبح هذا العشق المتعدّد المشتعل للكلمة والصورة.
لماذا أقرأ ؟
قال تعالى في كتابه العزيز: ” ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” (البقرة_ 269 ) . عن ليث عن مجاهد قال: ليست بالنبوّة، ولكنه القرآن والعلم والفقه”. فالمقصود بالحكمة في هذه السورة الكريمة هو العلم النّافع. هذا العلم الذي يغني صاحبه عن التهافت طلبا لما فاض عن حاجته من ملذّات الحياة ونعمها المادية. وقد أثبت تاريخ المعرفة الإنسانية أن أكثر الناس زهدا في الحياة وملذّاتها، أشدّهم حبّا للعلم، وطلبا له، واكتفاء به؛ فالعالم الأصيل لا يحتاج في الحقيقة لأكثر من خلوة متحقّقة، وفراغ متّسع، وكتب ملهمة، ولقيمات يسدّ بها رمقه. ولا شكّ في أن تاريخ الفكر الإنساني يعرض لحيوات كثير من المفكرين الذين لم يلتفتوا إلى ما تزخر به الدنيا من منافع مادية، وكان همّهم الوحيد هو تحصيل العلم والمعرفة، والدفاع عن حقّ الإنسان في حياة كريمة آمنة مطمئنّة.. ولنا في تاريخ الفكر الإسلامي نماذج جديرة بالتقدير، كان لها دور طلائعيّ في بناء الحضارة الإسلامية، بعيدا عن أيّ ارتزاق أو تكسّب، وليس هنا مقام التفصيل .
وذات مرّة، سئل الأديب والمفكّر العربي الكبير عباس محمود العقاد “لماذا تقرأ؟” . أجاب” لأن حياة واحدة لا تكفيني”. وإجابة العقاد تختزن حقيقة على قدر كبير من الأهميّة بالنسبة لكلّ من رزقه الله القدرة على القراءة، بوجه عام، وبالنسبة للمشتغلين بحقلي القراءة والكتابة على وجه الخصوص؛ إن حياة الإنسان من القصر وقلّة الخبرات بحيث لا يفطن إلى مرورها السريع، فتجد الإنسان بلغ التسعين من عمره وهو لا يعرف شيئا البتّة عن أشياء لا عدّ لها ولا حصر.وهنا تكمن أهميّة القراءة التي تعمل عمل (آلة زمن) هربرت جورج ويلز. بحيث تنقل صاحبها عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة، وتجعله شاهدا على أكثر الأحداث خطرا وأهمية في تاريخ الإنسان، منذ أن نزل إلى سطح الأرض إلى أن صعد استكشافا للمكان الذي نزل منه…وبهذا تغتني حياة الإنسان وتزدهر بحيوات الآخرين وعوالمهم المختلفة. وقد تأمّلت، في أكثر من مرّة، شخصية القارئ، وانتهيت إلى أنها أشبه ما تكون بشخصية (مصّاص الدّماء) الأسطورية vampire؛ هذه الشخصية التي تستطيع أن تعيش آلاف السنين، من دون أن تفنى أو يتحلّل جسدها، إن هي تمكّنت من قتل فرائسها من البشر وامتصاص دمائهم. وكذلك فعل القارئ؛ كلّ كتاب يقرأه لكاتب عاش في فترة زمنية معيّنة بمنزل قطرات دم دافئة تمنحه حياة إضافية متجدّدة…!
ثمّ إنني قرأت يوما عن أحد الكتاب الغربيين، لعلّه إرنست همنغواي، قوله:” أن القراءة ليلا تمدّد النهار”. وقد أعجبتني هذه الملاحظة كثيرا، وآمنت بها لأنني استفدت منها كثيرا في شبابي الأول، حيث كنت أسهر كثيرا بالليل من أجل القراءة، ومن أجل أشياء أخرى..لكنني اليوم، وأنا أعيش شيخوختي، وفي ظلّ البرنامج المتوازن الذي أتّبعه، والذي يبدأ مع الفجر، وينتهي بعيد صلاة العشاء ، لا أستفيد من هذه النصيحة، وأسعى إلى تمديد اليوم عن طريق الاستيقاظ المبكّر؛ كما لو أنني أقلب الآية.. !
والحقّ أنه في اللحظة التي يتذمّر فيها الخلق من الضجر والملل وقلّة ما يمكن فعله، ويسعون في الأرض بحثا عن مقهى مزدحم، أو ملاهي مكتظّة، أو تواصلات إلكترونية وألعاب ومسلسلات بحلقاتها الألف…تجد مدمن القراءة مغتمّا بسبب قصر النهار، وسرعته، يتمنّى لو أن ساعات اليوم كانت أكثر من أربع وعشرين ساعة . وهذا يعني أن القارئ أكثر استفادة من ساعات نهاره، واستمتاعا بها، وسعادة..
كتاب أسقطني في عشق القراءة
أذكر أنني كنت مولعا منذ الفصل الرابع ابتدائي بقراءة القصص البوليسي، خاصة سلسلة قصص أرسين لوبان لموريس لوبلان. كان أبي، تغمّده الله برحمته، يأتيني ببعض أعداد منها، بالية، كلّما مرّ بمكتبة من مكتبات أصدقائه، أو نسيها أحد المسافرين على مكتبه في محطّة المسافرين. وعندما انتقلت إلى الفصل الإعدادي الأوّل بثانوية القاضي عياض العتيدة بتطوان، بدأت أزور مكتبتها الغنيّة تنقيبا عن قصص بوليسي كنت أدمنت عليه. إلى أن صادفت عنوانا أثار لعابي “الجريمة والعقاب“! دهشت لرؤية هذه القصة البوليسية التي لها مثل هذا الحجم الضّخم، وحسبت أنها تتضمّن مجموعة من السلاسل القصصية مضموم بعضها إلى بعض. لكن عندما التقطتها من الرفّ وبحثت عن فهرسها، لم أجد شيئا؛ اكتشفت أن الأمر يتعلّق بقصة طويلة واحدة لا غير. وكان هذا أوّل لقاء لي بلون أدبي جديد اسمه الرواية. لا أذكر أنني عبأت يومها باسم كاتب هذه الرواية الرّائع فيودودر دوستويفسكي، ولا بمترجمها الأوّل إلى اللغة العربية الماهر محمد فائز كم نقش (الكردي) ، لأنه ما أن التقطت عيناي السطر الأول من الرواية حتى ابتلعتني عوالم الشخصية الرئيسة راسكولينيكوف، وطوّحت بي في شوارع سان بترسبورغ القيصريّة، وبين متاهات راسكولينيكوف الفكرية وهواجسه النفسية المتوترة…كان هذا أوّل لقاء حقيقي لي بعالم الأدب، وأعترف أنني كنت محظوظا، فعلا، لدخول عالم الأدب الأصيل من بوابة دوستويفسكي؛ ظلّت طوابع هذا اللّقاء المبكّر منقوشة في ذاكرتي منذ ذلك الحين، موجّهة إياي إلى قراءة أعمال دوستويفسكي، بوجه خاص، وكلاسيكيات الأدب الروسي بشكل عام.
(يتبع)
د.عبد الواحد العلمي