عبد الغني حسني كاتب مهتم بالشعر الحديث ونقده. يعمل أستاذا للأدب والنقد بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور (جامعة محمد الأول). حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء سنة 2003 عن أطروحة حول “الرؤية الشعرية عند نزار قباني” تحت إشراف الدكتور والشاعر محمد علي الرباوي، ثم على شهادة التبريز في اللغة العربية من المدرسة العليا للأساتذة بالرباط سنة 2007. صدر له كتابان هما: “حداثة التواصل” (دار الكتب العلمية ببيروت 2014)، و”الإيقاع وحدود الانزياح في الشعر العربي المعاصر” (مكتبة سلمى الثقافية تطوان 2016)، إضافة إلى مشاركته في كتب جماعية أخرى، وإلى عدد من المقالات والدراسات المنشورة بمجلات وجرائد وملاحق ثقافية وطنية وعربية.
وسيكون حديثنا معه حول تجربته في الكتابة النقدية والقراءة وعلاقتهما بعمله وبحثه الأكاديمي.
حدثنا عن اهتماماتك وعن تجربتك في الكتابة النقدية.
سأبدأ بالحديث عن كتابي الأول “حداثة التواصل”. فهذا الكتاب في أصله أطروحة تقدمت بها لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث. ولكونه أطروحة كان عليه أن يقدم تصورا نظريا مختلفا للممارسة الشعرية الحديثة. فهذه طبيعة الأطاريح الجامعية التي يجب أن تقدم تصورات مغايرة لما هو رائج في الساحة النقدية. هذا التصور النظري يتمثل في أن الحداثة في الشعر (والشعر جزء من ثقافة الإنسان العربي) يجب أن تكون ذات بعد تواصلي يُنشئ علاقة تفاعل مع القارئ، حتى تؤدي وظيفتها في تحديث الفكر والمجتمع. وذلك لا يتأتى لها إلا إن كانت قامة على ما هو مشترك ثقافيا وفنيا بين المبدع والمتلقي، مع احتفاظ المبدع بمسافة بينه وبين ثقافة القارئ، تجعل منه رائدا للتغيير وليس مجرد مستجيب لما “يطلبه الجمهور”. لكن هذا التصور النظري لم يكن من الممكن بناؤه دون الاستناد إلى منجز شعري يؤيده. فكان خير نموذج لهذا المنجز هو شعر نزار قباني (شاعر الجمهور العربي) الذي حقق مفهوم الحداثة الفنية في شعره دون أن يؤدي به ذلك إلى إنشاء قطيعة مع القارئ العربي بمختلف فئاته ومستوياته الثقافية. أو يمكنك القول بأنه حقق نجاحا ورواجا منقطعي النظير دون أن يسقطه ذلك في الابتذال أو ينفي عنه صفة الحداثة الشعرية.
هذا هو التصور الذي ينطلق منه الكتاب. لكنك تعلم طبعا أن قيمة البحث الأكاديمي تتمثل أساسا فيما يطرحه من أسئلة وما يفتحه من آفاق، فضلا عما يصل إليه من نتائج. ومن هنا يمكن القول بأن هذا الكتاب كان بداية لرحلة جديدة في البحث، حيث استثمرت نتائجه في مساءلة تجربة شعرية أخرى لا تقل أهمية عن تجربة نزار قباني هي تجربة الشاعر أدونيس. وتنطلق هذه المساءلة من التصور النظري نفسه حول علاقة الحداثة بالمتلقي. ومن هنا جاء كتاب “الإيقاع وحدود الانزياح في الشعر العربي المعاصر” ليقدم قراءة مختلفة للإيقاع الشعري في القصيدة المعاصرة من خلال شعر أدونيس الذي يمكن النظر إليه بوصفه نموذجا للخرق والتمرد على قواعد الكتابة، مستقرئا في ذلك مجمل ما أنتجه هذا الشاعر طوال مسيرته الإبداعية، فكان هذا عملا شاقا لاضطراري إلى إنجاز قراءة إيقاعية لآلاف من الصفحات التي تتكون منها أعماله الكاملة بأجزائها الثلاثة و”الكتاب” بأجزائه الثلاثة أيضا، إضافة إلى عدد من الدواوين التي لا تضمها الأعمال الكاملة.
غير أن هذا العمل، على مشقته التي لا تقل عما واجهني في كتابي الأول الذي انطلق من استقراء شعر نزار قباني كله (ستة مجلدات ضخمة)، جعلني أكتسب معرفة بالشعر العربي الحديث من خلال الاطلاع على نصوصه لا من خلال ما كُتب عنه، فقرأت أعمال الشعراء الكبار مشرقا ومغربا، وكان من الطبيعي أن يثير ذلك عددا من القضايا المتعلقة بالممارسة الشعرية العربية الحديثة التي عالجتُ بعضها في دراسات منشورة أو في طريقها للنشر. يضاف إلى ما سبق اهتمام مُوازٍ بالشعر المغربي الحديث الذي يعد جزءا من الشعر العربي، فتناولت بالدراسة عددا من التجارب الشعرية المغربية للوقوف على مدى مساهمتها، ومساهمة الثقافة المغربية من منطلق خصوصيتها، في تحديث الثقافة العربية.
من منطلق اهتمامك بالإيقاع الشعري، ما موقفك من قصيدة النثر؟
لو تأملت أيها الصديق العزيز هذه التجارب الشعرية التي أشرت إلى أنها شكلت موضوعا لاهتمامي، فإن بإمكانك أن تلاحظ اهتمامي بالإيقاع الشعري عند كل من نزار قباني وأدونيس. كما أن بإمكانك أن تلاحظ أن مجمل الشعراء الذين اهتممت بدراستهم مشرقا ومغربا قد مارسوا كتابة القصيدة الموزونة، مع أن بعضهم قد مزج بينها وبين قصيدة النثر، أمثال أدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد بنميمون…
ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أمرين: أولهما أن قصيدة النثر جزء من مشهدنا الشعري الحديث والمعاصر. وهذا أمر لا ينكره إلا جاحد أو أعمى. وثانيهما أن حضور قصيدة النثر لم يُزح القصيدة الموزونة عن مكانتها في الشعر الحديث والمعاصر. فإذا أضفنا إلى الأسماء التي ذكرتها لك سابقا أسماء أخرى كالبياتي ويوسف الخال وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وفدوى طوقان وأحمد حجازي… فإنه يمكن القول بأن الشعراء الكبار الذين قادوا مسيرة الشعر العربي المعاصر قد آثروا كتابة الشعر الموزون على الشعر المنثور. وأولئك الذين كتبوا قصيدة النثر وبرعوا فيها (أمثال نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش…) لم يفعلوا ذلك إلا بعدما أتقنوا كتابة الشعر الموزون. وقد كان أدونيس، الذي يعد رمزا للتمرد على القوالب والقوانين، من أكبر المدافعين عن الشعر الموزون. ويمكنك تعميم هذه النتيجة على الشعر المغربي المعاصر أيضا. وهذا أمر أدعو الشعراء الشباب خاصة إلى تأمله والوقوف عنده، كما أدعوهم إلى إغناء ثقافتهم الشعرية بقراءتهم العميقة للشعر العربي الحديث مشرقا ومغربا، قبل أن يحددوا اختياراتهم في الكتابة، وحتى بعد أن يفعلوا ذلك.
أعود الآن إلى سؤالك. هل تريد موقفا شخصيا “ذوقيا” من قصيدة النثر؟
قلت قبل قليل إن هذه القصيدة صارت جزءا لا يمكن إلغاؤه من مشهدنا الثقافي المعاصر. وإذا كان المتعصبون لقصيدة النثر يحتجون بأن الإيقاع أكبر من الوزن وبأنه يمكن تحقيق إيقاع شعري دون الحاجة إلى أوزان الخليل، فإني أقول: لا بأس. من كان بإمكانه أن يكتب قصيدة “موقَّعَة” مع الاستغناء عن الوزن فليفعل. ولكنني أظن أن الوزن عنصر جوهري في إيقاع القصيدة المعاصرة، وأن الاستغناء عنه يُفْقرها إيقاعيا لأنه يُفقدها الأساس الذي تنتظم ضمنه كل العناصر الإيقاعية الأخرى. وهنا يحضرني قول الناقد الفرنسي جون كوهن في كتابه “بنية اللغة الشعرية”: “يمكن للشعر أن يستغني عن النظم. ولكن لماذا يستغني عنه؟ إن الفن الكامل هو الذي يستغل كل أدواته” واصفا القصيدة النثرية بأنها “شعر أبتر”.
هل يعد عملك في التدريس عائقا أمام استمرار تجربتك في الكتابة؟
حينما يكون عملك ذا علاقة باهتماماتك فإن ذلك لا يشكل عائقا أمام تطوير تجربتك واستمرارها. وفيما يخصني فإن التدريس في الجامعة يمثل فرصة لمواكبة البحث الأكاديمي ومستجداته، وفرصة للالتقاء بطلبة وباحثين وأدباء يحفزونني على تعميق معارفي وشحذ مهاراتي وإغناء تجربتي. لهذا فإن كل لحظة أقضيها في التدريس وفي التواصل مع الطلبة والباحثين تعد فرصة لتطوير تجربتي في النقد والتدريس أيضا. وأنا أستحضر مقولة أحاول العمل بها ما أمكنني ذلك وهي: “أن المدرّس الذي يعيد الدرس نفسه مرتين بالطريقة نفسها مدرس فاشل”. بمعنى أن العمل يجب أن يكن تطويرا مستمرا للتجربة، تطوير لا يتوقف أبدا. وقل هذا عن البحث: فكل محاضرة هي عندي درس جديد أتلقاه وأستفيد منه مثلما قد يستفيد منه الطلبة، وربما أكثر. هكذا أنظر إلى علاقة العمل بالكتابة.
وما قلته عن الكتابة يمكن قوله عن القراءة أيضا: فالتدريس يتطلب مني عدم التوقف عن القراءة وعن المواكبة المستمرة لما يستجد على الساحتين الأدبية والنقدية. وكثيرا ما أجد من طلبتي النجباء من يدلني على بعض هذه المستجدات أو على آراء أو كتب يكون قد فاتني الاطلاع عليها. لهذا قلت لك بأن التدريس يمثل لي فرصة عظيمة لممارسة حياة ثانية، وربما حيوات متعددة، هي القراءة.
ماذا تقرأ؟ ولمن تقرأ؟
يرتبط هذا السؤال بالسؤال السابق حول علاقة العمل بالكتابة والقراءة: فلا شك في أن طبيعة العمل والتخصص الأكاديمي لهما دور في تحديد مجالات القراءة. وعندما يكون لديك مشروع علمي فإنه يحدد لك نسبة كبيرة مما تقرؤه. ولهذا فإن تخصصي في الشعر الحديث واشتغالي بتدريس الأدب الحديث (شعرا وسردا) وتدريس النقد الحديث يجعل معظم قراءاتي تدور حول هذه المجالات. لكنك تعلم أن مجالات المعرفة ينفتح بعضها على بعض. لذلك فإن مقولة التخصص الدقيق تتطلب مني كذلك الانفتاح على تخصصات أخرى، سواء أكانت أدبية أم نقدية أم كانت من خارج مجال الأدب كالفكر والفلسفة والتاريخ.
أين تقرأ؟ وأين تكتب؟ ومتى؟
أنت تعلم أن الكتابة النقدية تختلف عن الكتابة الإبداعية. فلكل مبدع طقوسه الخاصة في الكتابة: بعضهم يفضل الانزواء في المكتب في أوقات محددة، وبعضهم لا يحضره الإبداع إلا في مقهى يكون بينه وبينه ألفة خاصة، كما أن بعضهم الآخر لا تأتيه ربة الإبداع إلا وهو غائب عن وعيه أو وسط أجواء خاصة، أو يكتب وهو ماشٍ أو مستلقٍ… فقد كان نجيب محفوظ مثلا لا يكتب إلا في النهار في مقهاه الشعبي المفضل، وكان نزار قباني يفضل الكتابة وهو مستلقٍ، وكان الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز لا يكتب إلا وهو يدخن خلال النهار… وذلك لأن المبدع يكتب معتمدا على ذاكرته وحدها، فلا تسعفه إلا إن اتخذ الوضع الذي يوفر له قدرا من التركيز في الوقت الذي اعتاد فيه أن يكون مستعدا لذلك. أما الكتابة النقدية، كما القراءة أيضا، فتحتاج إلى أمرين: التركيز وتوافر المراجع. ولذلك فإن أفضل مكان لي لممارسة ذلك هو مكتبي في البيت، حيث المراجع قريبة من متناول يدي ويمكنني الانتقال من مرجع إلى آخر، كما يمكنني تدوين الملاحظات والفوائد التي أجنيها من القراءة. هكذا عن مجمل ما أقرؤه أو أكتبه. لكن ذلك لا ينفي استغلال أماكن أخرى لبعض القراءات الأدبية خاصة التي لا تحتاج إلى الشرطين اللذين ذكرتهما سابقا. فالمقهى مثلا هو عندي مكان صالح لهذا النوع من القراءة، وكذلك الشاطئ أو الحافلة… لكن ليس لكل ما أقرؤه. والكتابة أيضا قد يكون لها نصيب في هذه الأماكن، إلا أنها لا تأتي إلا أفكارا أسجلها ثم أعود لمراجعتها وتنظيمها عندما تتوافر الشروط لذلك. أما متى؟ فغالبا ما يكون ذلك خلال النهار حيث يكون العقل نشيطا، وخاصة بعد تناول قهوتي المسائية. ويبقى الليل عندي، غالبا، مخصصا للاستراحة من تعب النهار.
د. عبد الواحد العلمي