روايتها الجديدة “كجثة في رواية بوليسية” تسلك الخط الفاصل بين حلم ويقظة
في مكان مغلق، يلتبس على القارئ بدايةً إن كان غرفة عناية صحية أو حجرة تحقيق، يقع حدث واحد على مدار أكثر من 120 صفحة في الرواية الجديدة للكاتبة المغربية عائشة البصري “كجثة في رواية بوليسية” الصادرة حديثاً عن الدار المصرية – اللبنانية. الحدث الوحيد هو التحقيق مع جثة من أجل إنجاز تقرير عن فترة غامضة من حياتها قبل إرسالها إلى مكانها الأخير. الرواية هي حوار مطول تتخلله مقاطع سردية واستعادات على لسان الجثة نفسها.
تطرح الرواية تيمة الموت، إذ تضع الموت على كرسي المساءلة، إلى درجة يلتبس فيها لدى القارئ مفهوم الحياة والموت، ويطرح مع الكاتبة السؤال نفسه: مَن الحي ومَن الميت داخل هذه الرواية التي تحضر فيها بشكل متواز مع الحوار أجواء كورونا، وما يعانيه العالم اليوم جراء هذا الوباء؟
في هذا الحوار نفتح مع عائشة البصري نافذة على عالمها الروائي، ونلج معها إلى غرفة التحقيق. هي الكاتبة المعروفة التي تزاوج في كتابتها بين الرواية والشعر، إذ أصدرت في السرد: “ليالي الحرير”، “حفيدات غريتا غاربو”، “بنات الكرز”، “الحياة من دوني”. وأصدرت في الشعر: “مساءات”، “أرق الملائكة”، “شرفة مطفأة”، “ليلة سريعة العطب”، “خلوة الطير”، “السابحات في العطش”، “حوريات البحر”…
كتبت عائشة روايتها الجديدة أثناء فترة الحجر الصحي في المنزل. واستوحت أحداثها من مسببات هذا الحجر ونتائجه. سألتها، إن كان الأمر يتعلق بأدب طارئ، وإن كانت فكرة كتابة عمل أدبي مكتمل عن أزمة لم تنته بعد مغامرة. لكنها نفت ذلك، إذ لا تظن الكاتبة أن الأمر يتعلق بكتابة طارئة. وتقول: “صحيح أن جائحة كورونا شكلت حدثاً طارئاً واستثنائياً في حياتنا العربية وفي العالم، لكن الآداب والكتابات حول الجوائح والكوارث والأوبئة والمجاعات والحروب ليست طارئة بل لها تاريخ”. تشرح الكاتبة فكرتها: “نحن نعرف في الرواية الأوروبية عدداً من الأعمال الروائية الشهيرة، وقد حول بعضها إلى أفلام سينمائية. وخلال هذه الجائحة بالذات لاحظنا كيف تذكر الجميع تقريباً رواية “الطاعون” لألبير كامو التي أعدت قراءتها بدوري خلال فترة الحجر الصحي التي عشناها جميعاً في الشهور الأولى. وكما نعرف هناك أعمال روائية عربية اشتغلت على الجوائح والأوبئة كلياً أو جزئياً لنجيب محفوظ وأندريه شديد وجمال الغيطاني وهاني الراهب وأمير تاج السر. وأنت تعرف جيداً أن عدداً من مؤرخي بغداد ومصر كتبوا عن الأوبئة والمجاعات”.
الكتابة مغامرة
ترى عائشة أن فعل الكتابة مغامرة في حد ذاته. “لكن أستطيع أن أقول، إنها تجربة مختلفة في سياق مساري الروائي ككل. ليس من عادتي أن أكتب عن موضوع آني، أجد أنه من التسرع الكتابة عن ظاهرة لم تتضج بعد أو حالة في طور التكوين، كما أنه لم يسبق لي أن اشتغلت في هذا الحيز الزمني الضيق، فغالباً ما تأخذ مني الرواية سنتين أو أكثر. لأول مرة أحس أن الرواية اكتملت في داخلي بهذه السرعة. قد يكون تأثير الجو العام، الخوف المرعب من العدوى، قد يكون السباق مع الموت. فبشكل من الأشكال “كجثة في رواية بوليسية” رواية يقترن فيها مصير الراوية ومصير الشخصية الرئيسة، في سباق مع الزمن وصراع ضد الموت”.
تضيف البصري: “رغم أن اللحظة مستمرة ولم تكتمل والوباء باق بيننا، فالكتابات في هذا الموضوع تنشر تباعاً، لقد دخل الكتّاب معركة مواجهة كورونا منذ الأيام الأولى للجائحة. كثير من الأدباء في العالم الذين عاشوا هول الفيروس والحجر الصحي قبلنا، إما بدؤوا كتبهم في الموضوع أو أنهوها به. مثل كتاب “عدوى” للروائي الإيطالي باولو جيوردانو، فقد صدر في إيطاليا في شهر مارس (آذار)، ثم عن دار النشر الفرنسية المشهورة “لوسوي” في مايو (أيار)، بعد أن ترجم للغة الفرنسية في وقت قياسي. كما أن الكاتب المغربي الطاهر بن جلون قد نشر في بداية شهر أبريل (نيسان) “رسالة إلى الصديق البعيد” في موقع “فرانس أنتير”، يتحدث فيها عن معاناة صديق له مع وباء كورونا. دار النشر الفرنسية غاليمار نشرت مجموعة مقالات لكتاب عالميين يتحدثون عن الحجر المنزلي. بل عرفت الساحة الثقافية نقاشاً (مقالات) بين الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين والفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي حول التعاطي مع أزمة كورونا كحالة استثناء. الأكيد أن جل هذه المقالات التي نشرت إن لم نقل كلها، هي نواة مشاريع كتب وإبداعات ستصدر لاحقاً. ستكتظ دور النشر بهذه الكتب، لأن حالة الطوارئ الصحية وفرت الوقت للكتابة، والمادة الخام للإبداع، مادة مرعبة لكنها محفزة وغنية”.
لا أحد من الكتاب سينجو من كورونا، هذا ما تؤكده عائشة، وتعلل ذلك “لأن من سينجو من الإصابة بالفيروس، لن ينجو من التأثير النفسي لأجواء لحظة زمنية تتأرجح بين الموت والحياة. كل سيكتب في الجنس الذي يكتب فيه، شعراً، رواية، قصة، تشكيلاً فنياً”.
ورشة الكتابة
كانت البصري تشتغل على رواية أخرى شرعت في كتابتها منذ سنتين، ثم فجأة توقفت عن هذا المشروع، وانتقلت لكتابة رواية عن هذه اللحظة الراهنة. عن أسباب أومحفزات هذا الانتقال تقول: “في ورشة الكتابة- وربما بالنسبة لكثير من الروائيين- نفتح العديد من الملفات. على مكتبي الآن ثلاثة مشاريع روائية هناك ما بدأت الكتابة فيه حتى قبل “الحياة من دوني”، هناك مشروع رواية ما زلت أجمع مادتها الأولية، وهناك أفكار جنينية غير واضحة. ولا أعرف أي من هذه الروايات ستصل إلى الناشر أولاً. نشتغل على كثير من الأفكار ونترك كل فكرة تستغرق زمنها الخاص، فعندما تنضج فكرة في الرأس- كما يقول فيكتور هيغو- لا أحد يستطيع أن يوقفها”.
تضيف عائشة: “هكذا ومنذ الأسبوع الأول للحجر المنزلي، أوقفت كتابة رواية كانت على مشارف النهاية لأدخل رواية جديدة تدور أحداثها في زمن كورونا. تحت تأثير أجواء الموت والعزلة والأخبار التي تصلنا كل يوم عبر القنوات الفضائية، ضبابية المستقبل وحتى الشك في الغد، الخوف من شيء غامض، فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، عدم اليقين في المستقبل، فقدان الإيمان بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، بالأنظمة الدولية، وحتى بالعلم. لم أستطع تجاهل ما يحدث في العالم ومقاومة الكتابة عن التداعيات النفسية للجائحة علي وعلى الآخرين. فجأة وجدتني أقود شخصية روائية إلى عالم الموت والصراع مع وباء كورونا. فتحت باب الموت على مصراعيه ودخلت، دون سابق نية، عوالم رواية جديدة. كان يكفي أن توفر لي الجائحة الشرارة الأولى ليتكفل الخيال بالباقي”.
في روايتها الجديدة تشير الشخصية الرئيسة، وهي كاتبة، إلى هذه الرواية التي توقفت عائشة عن كتابتها. بل إن قارئ العمل يجد كثيراً من عائشة البصري في هذه الشخصية: تفاصيل مرضها، السفر، التحول من كتابة الشعر إلى الرواية. سألتها عن تقاطع ذات الروائية مع شخصياتها، وكيف يتسلل الروائي إلى روايته، من يفتح له هذا الباب، وعلى ما يراهن كاتب الرواية حين يضع شخصيته فيها. فتوقعت الكاتبة أن القراء سيربطون بين شخصية الرواية المتخيلة وما عاشته خلال محنة صحية. كانت تنتظر استحضار الروائية الكاتبة أثناء القراءة خصوصاً عند القراء القريبين. وهذا ما حدث في روايتها الأولى “ليالي الحرير”. فالساردة كانت كاتبة واستثمرت كذلك اللحظة نفسها التي عاشتها شخصياً، وهي لحظة التأرجح بين عالمين: عالم الموت وعالم الحياة، كما استثمرت معلومات طبية اكتسبتها من التجربة نفسها عن الأمراض والأدوية والتحاليل المخبرية، وقد أصبح لديها مع السنوات، تخصص في المجال.
تستطرد عائشة: “لكن– صدقني- القراءات تختلف بين شخص وآخر، بين بلد وآخر. في مصر مثلاً حيث نشرت كل كتبي السردية، وفي إسبانيا عندما صدرت الترجمة الإسبانية للرواية كانت القراءة محايدة ولم ينتبه القراء ولا النقاد إلى أي تقاطع”. تضيف الكاتبة المغربية: “في نفس السياق أريد أن ألفت الانتباه إلى أن “كجثة في رواية بوليسية” قد تكون الجزء الثاني أو الليلة الثانية من “ليالي الحرير”. فبعد عشر سنوات تعود الساردة إلى نفق الموت “البرزخ”، الذي دخلته بموتها الإكلينيكي في الرواية السابقة. هذه المرة تدخله من باب الموت الوبائي في زمن كورونا. على المستوى العام، فعندما تتسلل الذات الكاتبة إلى النص لا تطلب الإذن من أحد حتى من الكاتب نفسه”. تواصل عائشة حديثها: “أنت شاعر وتعرف أن كيمياء الكتابة لها أسرارها التي لا يحيط بها الكاتب كلها. لا أستطيع أن أجيبك جواباً شافياً، فأنا أيضاً لا أعرف. الكتابة لها وعيها ولا وعيها أيضاً. ولا أظن أن هناك نصاً أدبياً سرداً أو شعراً، يمكنه أن ينجو من الذات الكاتبة. دائماً نعثر على أنفسنا بصيغة أو بأخرى في النصوص التي نكتبها. حتى بعض الكتاب الذين شكلوا نماذج كونية لاستقلال ذات الكاتب عن كتاباتهم، مثل كافكا وبيكيت عثر عليهما في مواقع متعددة من كتاباتهم. حتى حين يقرر كاتب أو كاتبة ألا يسمح بعبور ذاته إلى النص الذي يكتبه، لن يستطيع أن يمنع نفسه من الحضور في المعجم الذي يستعمله وفي الجمل التي يركبها بإيقاعه وأنفاسه، وكذلك في الشكل وفي البناء. لكن يبقى المتخيل هو الأساس مهما اقتربنا أو ابتعدنا عن ذواتنا كروائيين. دائماً أمازح محاوري حين أسأل عن شخصية روائية تشبهني وأجيب “أنا التي أشبهها فنحن نختار شخصيات تشبهنا حتى في العته والجنون. كما يحدث أن نعجب بشخصية من شخصياتنا الروائية ونتمنى لو كنا هي”.
رمز الغرفة
يلاحظ قارئ الرواية الجديدة تفاوتاً زمنياً في أحداثها. ففي الوقت الذي يظل الزمن راكداً داخل غرفة التحقيق تتوالى الأحداث خارج الغرفة متسارعة، من الظهور الأول لكورونا إلى انتشار الوباء، وإلى اللحظة الراهنة. سألت كيف تدبر عائشة البصري الزمن الروائي، فأكدت أن هذا السؤال موجود داخل الرواية وتطرحه الساردة في الفصل الأخير حين تتساءل عن المقياس الزمني الذي يخضع له عالم الغرفة، عن التفاوت بين زمنها وزمن المقرر الذي ظهر عليه تقدم السن في ساعات قليلة. تشرح عائشة فكرتها: “خارج الرواية، الكتابة الأدبية بصفة عامة وبالخصوص الكتابة السردية هي لعبة. لعبة على مستوى الشخصيات لعبة الأحداث، لعبة على مستوى الأمكنة، ولعبة أيضاً على مستوى الأزمنة. وبالنسبة إلي في هذه الرواية يمكننا القول، إن هناك أكثر من زمن: داخل الغرفة، كما هو واضح جداً هناك زمن محدد لا يتجاوز ليلة واحدة. خارج الغرفة هناك زمن ممتد يصل إلى ثلاثة أشهر، وهذا ليس أمراً جديداً في الكتابة الروائية، فأنت تعرف الزمن في رواية “أوليس” لجيمس جويس محدود جداً، وفي الوقت نفسه ممتد جداً عبر تقنية المونولوغ المهيمن في الرواية كلها. وكذلك الزمن في رواية بروست “بحثاً عن الزمن الضائع” الذي يمتد طويلاً عبر الذاكرة ويكاد يكون مكثفاً في لحظة اليقظة. رواية “رجل في الظلام” لبول أوستير وهي رواية كذلك تدور في غرفة. وكذلك بعض أعمال غارسيا ماركيز. ويمكن أن نعطي كثيراً من الأمثلة عن اللعب بالزمن في الرواية الفرنسية الجديدة وفي روايات أميركا اللاتينية، ولدى عدد من الروائيين العرب الجدد”.
فضلاً عن هذا التفاوت الزمني، يكتشف القارئ أننا أمام محاكمة لجثة، وأن ثمة حديثاً عن موت أول وموت ثان. فهل نحن أمام رواية سوريالية، فبدا لها أن الواقع الذي نعيشه في العالم العربي، وفي العالم المعاصر هو واقع سوريالي بامتياز، أحياناً لا يقصد الكاتب(ة) أن يكتب رواية سوريالية أو فانتازية، وفجأة يجد نفسه يجري خلف شخصياته التي تقوده إلى واقعها الذي لا يخلو من مظاهر وتعبيرات سريالية أو فانتاستيكية أو ما شابه ذاك. ولذلك فالقراء والنقاد قد يعثرون على أبعاد في النص لم يتقصدها الكاتب. وتضيف: “في كل الأحوال أنا شخصياً يعجبني مثل هذا اللعب في عوالم من هذا القبيل. فالسرد في روايتي “الحياة من دوني” يقوده رماد امرأة من داخل جرة. وفي “ليالي الحرير” الشخصيات كلها ميتة حتى الساردة لا تعرف هل هي حية أو ميتة، وفصل كامل من الرواية نفسها تدور أحداثه في مقبرة مونبارناس وبين شخصيات ميتة. حضور الموت في أعمالي الروائية يكاد يكون سوريالياً أكثر منه تعبيراً عن قلق وجودي. كما تستهويني الفضاءات الغرائبية وتعجبني الكتابة داخل الخط الفاصل، ذلك المابين الملتبس: بين الحلم واليقظة في “ليالي الحرير”، بين الجنون والعقل في “حفيدات غريتا غاربو”، بين الموت والحياة في “الحياة من دوني”، وبين ميتتين في هذه الرواية. أما شخصياتي فهي تلك الأشباح التي تتجول بين هذه العوالم”.
إلتزام جديد
هل ما زالت الكتابة تواظب على كونها رسالةً ورمزاً لنضال ما، تقول عائشة: “من المؤكد أن مفهوم الالتزام بوصفه انحيازاً نضالياً إلى القضايا السياسية والاجتماعية بما هي أفعال وخطابات، لم تعد له السطوة التي كانت له. لقد فقد كثيراً من بريقه الآسر السابق في الحقول الفكرية والنقدية والأدبية والإعلامية في الغرب، وفي العالم العربي. ومع ذلك لا أستطيع القول إن ما يكتب الآن ليس “كتابة بيضاء” تماماً بمفهوم رولان بارت- إذا سمح السياق- لأن الكتابة فعل متضامن. في الوقت نفسهلا ينبغي أن يكون الأدب مسترخصاً في خدمة قضية معينة، بل ينبغي أن تكون القضية النبيلة في خدمة النص النبيل. بهذا التوافق، تصبح الكتابة قادرة على تحقيق جوهرها المتضامن، كفعل وكعون على الفعل وكالتزام إنساني”.
“هناك دائماً رسالة إنذار مضمنة في رواياتي وقصائدي كذلك”، تقول عائشة وتضيف: “وما أردت أن أوصله من خلال هذه الرواية، إضافةً إلى نقل أجواء جائحة كوفيد 19 كلحظة مفصلية يعيشها العالم والموت بكورونا، هو أن الوعي القوي بواقع الحيف والتمييز الجنسي يؤدي إلى شرخ مؤلم في شخصية المرأة ينعكس في التباعد بين ما تعتقده المرأة وتؤمن به وبين ما تعيشه، تباعد بين العقل كمولد للأفكار والجسد الذي من مهامه تطبيق هذه الأفكار ولا يستطيع. إذ يقف عاجزاً أمام قمع المجتمع والدين والسياسة، عاجزاً أمام نصوص اجتماعية قمعية ونصوص دينية زجرية وقواعد سياسية وضعها الرجال كخطوط حمراء كي لا تتجاوزها المرأة”. وتختم عائشة: “هذا ما حاولت التعبير عنه في الرواية حين فصلت بين الجسد والروح وتركت السرد لجثة تكاد تكون ملغية الحواس وأتمنى أن أكون قد وفقت. فما أطمح له هو أن تكون كتاباتي حصاة صغيرة لتحريك البرك الراكدة في مجتمعي وهي كثيرة”.
عبدالرحيم الخصار