عبد الصادق شقارة، فنـّان تطـوان الأصيل .. 2/2
جريدة الشمال – محمد القاضي ( عبد الصادق شقارة (2) )
الثلاثـاء 05 شتنبر 2017 – 16:13:14
في سنة 1957 وبعد الاستقلال مباشرة أنشأ عبد الصادق شقارة جوق المعهد الموسيقي بتطوان وصادف ذلك افتتاح مسرح محمد الخامس بالرباط، وبحضور جلالة المغفور له محمد الخامس صفق الجمهور لأول أغنية شعبية تطوانية وهي (الحبيبة وجرحتني) التي عرفت نجاحا كبيرا بالمغرب. كما شارك في عدد كبير من الحفلات الموسيقية في سائر مدن المغرب وخارجه (اسبانيا، فرنسا، انجلترا…)
بعد ذلك لحن مجموعة من الأغاني الشمالية (الجبلية) وطورها بأسلوبه الموسيقي الرائع حتى كون منها ثروة كبيرة مهمة وسجلها على الاسطوانات والأشرطة، ولقيت إقبالا عظيما، واهتماما كبيرا من لدن المولعين والمهتمين مثل: (الحرامية) (مولاي عبد السلام) و (النار كدات في كلبي) (الخد حمار = أحمر يا السامعين) و(أنا مزاوك) و (بنت بلادي) التي تظل إبداعا استثنائيا بكل المقاييس، فهي المحطة الأساسية في مشواره الفني التي خلدته إلى اليوم، وقد كتب عنها الباحث والأديب محمد العربي المساري ما يلي: “تمثل تلك المقطوعة بالفعل شيئا متميزا تحفل به الذاكرة الغنائية المغربية، نظرا للحيز الذي تحتله في الربيرطوار الوطني وباعتبارها من الأمثلة الدالة على التراث المشترك فيما بين عدوتي المغرب والأندلس. فقد تغنى جيل بكامله بالأغنية المذكورة وبقيت مثالا للنكهة الشمالية التي يمتزج فيها الجبلي بالأندلسي بالريفي، وانتشرت كذلك في الأندلس. “
وقد سجلها سنة 1979م بالإذاعة المغربية، وهي من كلمات الزجال عبد الرحمن العلمي، تقول كلماتها:
يا بنت بلادي
سلبُوني عيْنيْك
والزين اللِي فيك
قلبي تايبغيك
يا بنت بلادي
شعرها مطلوق
طويل ومغلوق
قلبي عليها محروق
يا بنت بلادي
صغيرة ومزيانة
قارية وفنانة
هكذا حبيت أنا
يا بنت بلادي
العرض و الجود
قابطة الحدود
والورد في الخدود
يا بنت بلادي
وبعد انتشارها، استهواها الجمهور المغربي، وأصبحت تردد في حفلات الأعراس، فاخترقت الحدود إلى الضفة الأندلسية. وتجاوب معها الجمهور الاسباني الاندلسي كذلك، فغناها شقارة برفقة الفنان الأندلسي (ريكي مورينطي) سنة 1982 بغرناطة، وحدث أن أبياتا أنشأها (خوسي إيريديا) أضيفت إلى المقطوعة، وبدا أن الكلمات التي أضيفت بالاسبانية كانت تركب المتن الشعري والموسيقي بسلاسة، فتم آداؤها بالعربية والاسبانية. فتحقق بذلك التمازج بين الموسيقى الشعبية التطوانية والفلامنكو الاسباني. فلقبت بأغنية (الضفتين).
فأصبح واحدا من المبدعين في مجال الطرب الشعبي، ولاسيما العيطة الجبلية (شمال المغرب)، فقد طوره بشكل كبير “بدأت منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي أبحث في هذا الجانب، فوجدت مجموعة من الأشكال الغنائية الجبلية التي يمكن أن تصاغ في قوالب موسيقية معينة، لاسيما قطعة (الحبيبة وجرحتني) . لم يكن إسهامنا يتضمن إضافات كثيرة ولا تغييرات جذرية حتى تبقى لتلك القطع الغنائية شعبيتها المعهودة. وكنا نكتفي في الغالب بإعادة التوزيع الموسيقي. والملاحظ أن القطع الغنائية التي كانت متداولة في المدن الشمالية كانت جلها مشمولة بطابع أندلسي. ومن ثم كان دورنا هو الحفاظ هلى هذين الوجهين من أوجه تراثنا الموسيقي والتعريف بهذا في ذاك والعكس بالعكس. “
وفي سنة 1961م ساهم في تسجيل النوبات الإحدى عشر للموسيقى الأندلسية، وبدأ في السهرات والحفلات وفي تسجيل الآلة والإنشاد والتقاسيم والبراول والأغاني التراثية التطوانية، وأغانيه التي يلحنها باستديوهات الإذاعة والتلفزة المغربية والاسبانية. كما شارك في المهرجان الإسلامي بلندن سنة 1975 بحضور الملكة إليزابيت الثانية .
“وفي إنجلترا عملت مع أحد كبار الموسيقيين وهو المسيقار (مايكل نيومان) وهو أحد أحسن العازفين على البيانو في الموسيقى التصويرية للأفلام السينمائية. وعملنا عدة تسجيلات مشتركة تمكن فيها هذا الموسيقار من إدخال طابع سمفوني على الطرب الأندلسي. “
وفي سنة 1992م ، وعلى هامش المعرض الدولي بإشبيليا (اسبانيا) انبهر أكثر من عشرة آلاف متفرج بسحر وجمال هذا التمازج الفني المغربي الإنجليزي، وفي نفس السنة وشح صدره ولي العهد محمد بن الحسن بوسام العرش من درجة فارس، الذي منحه المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني لأساتذة الموسيقى الأندلسية الذين ساهموا في التسجيل الكامل لموسيقى (الآلة) على أسطوانة (لايرز)، وشكل هذا الحدث الهام تتويج مسيرته الفنية.
وكان يرى أن موسيقى (الآلة) أو على الأصح الطرب الأندلسي المغربي “هو كل لا يتجزأ. وهو ملك للمغاربة جميعا، ولا توجد فوارق جوهرية بين الطبوع التطوانية أو الفاسية أو الشاونية أو ما إلى ذلك. كل ما هناك أنه ثمة طرقا مختلفة شيئا ما في النطق إضافة إلى بعض الخصائص القليلة التي تجدها في أقاليم الشمال دون أن تكون في باقي أنحاء المغرب، والعكس صحيح. ولكن بعد الاستقلال مباشرة تم توحيد أنساق النوبات فلم تعد بينها فوارق حقيقية بين هذه المنطقة أو تلك. “
ورغم تقاعده عن عمله الرسمي في المعهد الموسيقي، استمر في نشاطه المعهود بمساعدته لهواة الآلة الشباب، فكان يزودهم بصنائع الآلة وأدوارها وموازينها، وأحيانا يدربهم على غنائها وعزفها. كما واصل نشاطه الفني مع مجموعة موسيقية إسبانية وجوقه في اسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وانجلترا وغيرها.
كان عبد الصادق شقارة فنانا أصيلا، منح سحر الطرب غناء وعزفا، فتفنن في طريقة جذب الجماهير إليه ليبهرهم ويستولي على شعورهم، ويسحر عواطفهم، كل ذلك منبعه، هو تمكنه من المقامات الموسيقية وسلاليمها وموازينها، والبحور الشعرية الزجلية وموازينها وقوافيها. كما أودعه الله، سبحانه وتعالى ملكة عظيمة وبراعة نادرة في إنشاد المواويل، وبراعة في الإلقاء بعذوبة ذوقية تطوانية أصيلة تسحر العواطف والوجدان، وتجعل المستمع يعيش في عالم الجمال والخيال. لقد غادرنا بعدما أطربنا بمئات من الأغاني والقطع الموسيقية الجميلة، وخلد اسمه وفنه على صفحات العباقرة والمبدعين الكبار، وفقدت تطوان ابنها البار الذي هام في حبها وعشقها. وامتد فيها مساره الفني لخمسة عقود إلى أن توفي بها يوم 31 أكتوبر من سنة 1998م.
رحم الله الفنان الكبير عبد الصادق شقارة.
هوامش.
– أنظر صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) عدد: 15-16 / 2007 ص: 13.
– حوارا معه في صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) عدد: 16/6/1996م ص: 9.
– نفس المرجع.
– نفس المرجع..….