عبد الصادق شقارة فنان تطوان الأصيل (1)
جريدة الشمال – محمد القاضي ( عبد الصادق شقارة (1) )
الجمعة 24 نوفمبر 2017 – 16:13:56
يَـرى المـرحـوم الأستــاذ البــاحثُ “محمد المنـونـي”، أنَّ المــوسيقى الأندلُسيـة المغــربية تمتَد فـي مَرحلتِهـا الأولـى إلى العـصر المـرابطـي، حيـث بَدَأت تتدفَـق على المغـــرب، بعد توحيده مع الأندلس، فازدهرت في بعض المدن بسبب انتقال إمام التلاحين الأندلسي – وهو ابن باجة – إلى المغرب، واستقراره به عشرين سنة كوزير لمخدومه يحيى بن يوسف بن تاشفين، وقد توفي بمدينة فاس سنة 533 هـ. ومن المعروف أن ابن باجة هو منظم الألحان المعتمدة بالأندلس. وفي هذا يقول عنه ابن سعيد : “وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد” .
وإذا كان فن الموسيقى الأندلسية قد تعرض لشيئ من المقاومة أيام الموحدين، تأثرا بما قامت عليه الدولة من التدين ومقاومة المنكر، إلا أنها قاومت وصمدت في وجه التيار المحافظ، لتفرض وجودها بعد ذلك في حواضر المغرب الشهيرة كفاس ومراكش وسلا والرباط وتطوان وشفشاون وغيرها. وخصوصا بعد الهجرة النهائية للأندلسيين سنة 1610م. ومن الجدير بالذكر أن هذه الموسيقى تمغربت مع مرور الزمن، بما أدخل عليها المغاربة بعد هذه المرحلة، من تعديلات مختلفة في ألحانها وأشعارها وترتيبها. ويرى الباحث المغربي عبد العزيز بن عبد الجليل أن المغاربة شاركوا منذ البداية في تكوين هذا التراث، واستقلوا به بعد هجرة المسلمين من غرناطة ” هذا التراث الأندلسي هو تراث أندلسي مغاربي… والمعروف أن الغرناطيين عندما هاجروا، انتقل بعضهم إلى المشرق العربي، إلى مصر مثلا، ولكن أغلبيتهم نزلوا في المغرب بشفشاون على بعد كيلومترات من تطوان، وكان ما يدعوهم لأن ينزلوا في هذه المنطقة لأنه كانت بها إمارة بني رشيد، وانتقلوا بعد ذلك إلى مدينة تطوان، حيث ازدهرت المدرسة التطوانية، بالإضافة إلى ذلك نزلوا فاس، وبها انتقلت المدرسة الغرناطية مع المدرسة البلنسية القديمة، وامتزج الكل ليفرز هذا التصور للوضع الجديد من خلال الصورة الجديدة للموسيقى الأندلسية التي نعرفها الآن.”
تطوان مستودع الطرب الأندلسي:
شَكَّلت مدينةُ تطـوان (الواقعة شمال المغرب)، إحدى المراكز المهمة التي حافظت على التراث الموسيقي الأندلسي، وطورته عبر مراحل تاريخية مختلفة، فاشتهرت بطابعها وطبوعها. ويعتبر محمد بن الحسين الحايك التطواني أحد الرواد الكبار الذين لمع اسمهم في القرن الثالث عشر الهجري، والمشهور بـ “كناشه” “الجامع للنوبات الموسيقية الأندلسية”. وقد وجدت هذه الموسيقى في عصر ضاع أكثر من نصفها، ولم يحفظ منها كاملا سوى أحد عشر طبعا، والباقي، وهو أربعة عشر ضاع أكثره، ولهذا اقتصر في مجموعته على أحد عشر نوبة، وأضاف لجلها ما تبقى من الطبوع الأخرى كل ما يناسبه في النغمة، حيث صار أكثر النوبات مركبا من طبوع عديدة يجمعها اسم النوبة، وهو يضع فوق كل شغل أو زجل أو توشيح عدد ما فيها من الأدوار بالأرقام المغربية تفاديا من الزيادة أو النقصان، وقد صدرت هذه المجموعة بفصلين: الأول في حكم السماع، والثاني في منافعه وأحكامه .
وبهذا يكون الحايك قد جمع الآلة الأندلسية ودونها، وحفظها من الضياع، وصارت مجموعته عمدة الموسيقيين إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري، إضافة إلى القيمة الكبرى التي يحظى بها كناشه من الناحية الأدبية، لأنها مجموعة شعرية شيقة تشمل على باقات متنوعة من الموشحات الأندلسية والأزجال المغربية اللطيفة، بل تشكل ثروة أدبية أندلسية مغربية هامة. وكانت موضوع دراسة جامعية للمستعرب الإسباني (فرناندو بالديرما) حيث حصل على الدكتوراه من جامعة مدريد / اسبانيا تحت عنوان الفقيه الحايك والموسيقى الأندلسية.
كما لعبت الزوايا الصوفية بالمدينة دورا مهما في هذا المجال باعتبارها مراكز لتعليم الموسيقى وتربية الذوق الفني في أواسط المريدين. نذكر منها زاوية الفاسيين التي عرفت نشاطا دائبا، كان في بعض الأحيان يتجاوز نطاق الإنشاد الصوتي إلى نطاق العزف بالآلات، وكان من رجالها الأوائل المهدي بن الطاهر الفاسي التطواني؛ ثم الزاوية الريسونية التي تنسب إلى العالم الصوفي المصلح، والشخصية المعروفة في الأوساط التطوانية بلقب السيد – لوجاهته – (توفي سنة 1299هـ/1882م). وكان عارفا بالموسيقى “ماهرا في الإيقاع والألحان، واخترع عودا على شكل غريب وجعله وترا واحدا في أعلاه صفر، وكان إذا نقر فيه أبكى الحاضرين “.
وسماها البعض (السلاكة) أو (محسن النغم) ، تحولت مجالس عبد السلام بن ريسون إلى حلقات منتظمة لتعليم الموسيقى غناءا وعزفا، وتخرجت على يده نخبة من العازفين والمنشدين. ويذكر بعض الباحثين أنه أدخل على الموسيقى الأندلسية الأمداح النبوية. فقد استعاض عن قصائد الغزل والخمريات في الشعر الأندلسي بقصائد وقطع في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في كثير من موازين الآلة، ولا يزال ذلك متداولا في المغرب .
أما الزاوية الثالثة فهي زاوية الحراق، وقد بدأت عملها كمركز لتعليم الموسيقى الأندلسية على يد الشيخ إدريس الحراق في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقامت على أسس فنية متينة فكانت بحق مدرسة موسيقية مكتملة الخصائص والسمات، تخرج منها أرباب الصناعة الموسيقية الذين زخرت بهم تطوان وما تزال. ناهيك عن المرحوم محمد الآبار (1904/1959م) فقد كان آية في جمال الصوت وحلاوة النبرات وسعة العارضة؛ وكان عازفا بالآلات الموسيقية منها (الدربكة = الطبلة) والطر. وهو إلى ذلك ذو مقدرة فائقة على التلحين. إضافة إلى أنه كان أديبا وأستاذا ممتازا . ويحتفظ التاريخ بأسماء لعائلات تطوانية كانت مشهورة في هذا الميدان، تتوارثه أبا عن جد كعائلات ابن عبد اللطيف والشودري والنبخوت وابن ادريس والغازي. كما كانت في تطوان معامل صغيرة لصنع آلات الطرب كالعود والرباب والقانون . وعلى العموم فقد كانت مدينة تطوان كما يقول مؤرخها المرحوم الأستاذ محمد داوود: “ورحم الله زمانا كانت فيه تطوان ممتازة بين مدن المغرب بإجادة أهلها – رجالا ونساء – للموسيقى الأندلسية”
ومما امتازت به مدرسة تطوان في الطرب الأندلسي – وما زالت – هو أنها كانت سباقة إلى إدخال أساليب التجديد، سواء في مجال الأداء الصوتي أو الآلي. ويتجلى ذلك بوضوح في أن جوقها الأندلسي تبنى منذ أواخر القرن الثالث عشر الهجري آلة البيانو منذ أن لمع في العزف عليها الفنان السيد عبد الكريم بنونة، وأصبح هذا العمل تقليدا فنيا متوارثاما يزال قائما حتى اليوم، كما أصبحت هذه الآلة تحتل الصدارة بين الآلات الموسيقية الأخرى، بل إنها تقوم من جوق تطوان مقام الرباب من جوق فاس. وتماديا في سبيل التطوير والتجديد، لجأت مدرسة تطوان، قبل غيرها، إلى إدخال الأصوات النسائية ضمن المجموعة الصوتية، وبذلك أضفت على الألحان الأندلسية حلة من الروعة والبهاء، وفتحت إمكانيات تعبيرية جديدة في مجال الأداء الصوتي.
عبد الصادق شَقارة: بَـراعة في العَزفِ والغنــاء.
ولد عبد الصادق بن عبد السلام شقارة في مدينة تطوان سنة 1931م، تلقى تعليمه بالكتاب أولا، ثم بالمدرسة الابتدائية، وفي نفس الوقت كان ينهل من والديه المبادئ الأولى في الآلة والذكر والمديح. ثم في طفولته وشبابه أخذ يلازم زاوية أجداده: الزاوية الحراقية، وهي مدرسته الثانية بعد أبويه. “اجتذبتني شخصية أسطورية الشيخ سيدي عرفة الحراق، شيخ الزاوية، فأصبح منذ ذلك اليوم صديقي وأستاذي “
فكان هذا الأب الروحي المبرر هو الذي أهداه أول عود ليتمكن من العزف دون علم أبيه (وهو موسيقي كذلك) والذي كان يتمنى لابنه دراسة العلم بدلا من فن الموسيقى الذي استهواه منذ طفولته.
“كنت أغـادرُ الكتـاب (المسيد) فأتَـوجَّـه إلى دُكــان أبي، وبمجرد ذهابه إلى المسجد أو إلى السوق، كنت أغتنم الفرصة لألتمس بعطف وحنان آلات الموسيقى، وأراجع الكتب التي تعنى بفن الموسيقى، بعد ذلك كنت أتوجه إلى بيت الشيخ عرفة الحراق لإتمام تكويني “
لقد لعبت الزاوية الحراقية دورا مهما في حياته الفنية والروحية، فهي التي صقلت موهبته، وكونته تكوينا متينا في بحار المديح والآلة والكمان، وأودعته في ذاكرته ووجدانه كنوز وبحار الهمزية والبردة وديوان الحراق وأدعيته، وغير ذلك من البراويل والابتهالات وأشعار المدح في مختلف الدواوين، فما أن بلغ الرابعة عشرة من عمره حتى انضم إلى جوق شيخه عرفة الحراق الذي كان له دور في تربيته الصوفية، فقد لازمه في كل حركاته ورحلاته إلى أن توفي هذا الأخير.
فتحمل بعده زمام القيادة في مجالس الذكر والأمداح أيام الجمعة والمواسيم الدينية برحاب الزاوية التي نصبته عملاقا فيها، وأهلته ليكون علما كبيرا لا يضاهيه أحد من أقرانه في المغرب قاطبة في ميادين الإنشاد والبراعة في العزف على آلة الكمان.
وفي سنة 1947م التحق عبد الصادق شقارة بمعهد الموسيقى بتطوان طالبا، فأخذ ينهل ويحفظ الكثير من لب الآلة، بصنائعها وأدوارها وموازينها، على أيدي أعلام الآلة الكبار وهم الأساتذة: العياشي الوراكلي، والعربي الغازي وأحمد الدريدب، وأخيه عبد السلام أستاذه في الكمان، ومحمد بيصة، وأحمد البردعي، ومحمد ابن عياد، ومحمد العربي التمسماني وغيرهم.
لقد كان دور المعهد – بعد الزاوية- جليا في حياة هذا الفنان حيث أنشأه طالبا ومتفوقا نشيطا، وفي مرحلته العلمية جعله أستاذا بارزا وفنانا مبدعا كبيرا.
وهكذا انطلق في شبابه وكهولته باحثا ومنقبا عن نوادر أشعار المدح وصنائع وأدوار الآلة في تطوان وفاس وشفشاون والرباط وطنجة والعرائش وغيرها… فتعرف على عبد السلام علوش أستاذ الملحون الذي أخذ عنه أهم درس في هذا النوع من الموسيقى. وهو أن الوتيرة أهم من الكلمة. والتقى بالأستاذ العميد المرحوم محمد الفاسي المعروف بأبحاثه ودراساته القيمة في التراث الموسيقي الأندلسي. وتعرف على الفنانين الحاج مصطفى كديرة وأحمد الوكيلي بمدينة الرباط. كما ربط علاقة صداقة متينة مع الأستاذ الكبير محمد العربي التمسماني الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لجوق تطوان للطرب الأندلسي.
هوامش.
– أنظر مجلة البحث العلمي عدد مزدوج 14 و 15 سنة 1969 ص: 150 / دراسة : “تاريخ الموسيقى الأندلسية بالمغرب”.
– أنظر الحوار الذي أجراه معه عبد الحق بن رحمون لجريدة (الزمان) الملحق (ألف باء) عدد 1189 / 19 / 04/ 2002م ص: 9.
– أنظر مجلة البحث العلمي ص: 156. مرجع سابق.
– نفس المرجع . ص: 162.
– أنظر كتاب (مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية) عبد العزيز بن عبد الجليل / سلسلة عالم المعرفة / عدد: 65 مايو 1983 ص: 214.
– أنظر مجلة “الفنون المغربية” عدد: يناير – مارس 1975 ص: 123 (مقالة الطيب بنونة عن ابن الأبار – فنان).
– نفس المرجع ص: 123. وانظر كتاب (مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية) ص: 214.
– نفس المرجع ص: 123.
– تاريخ تطوان – المجلد الرابع ص: 407.
– أنظر كتاب (مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية” ص: 215-216. مرجع سابق.
– نقلا من كلمة الدكتور محمد اليملاحي الوزاني بمناسبة تكريمه من طرف “جمعية تطوان أسمير” 14-15 غشت 1996 – أنظر المطبوع الذي صدر بالمناسبة ص: 6.
– نفس المرجع ص: 6.
كما أن باقي المعلومات المتعلقة بشخصية عبد الصادق شقارة هي مقتبسة من نفس المطبوع…….