مازالت الكتب الفردية والجماعية تصدر عن المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، رغم مغادرته هذه الحياة لأكثر من عشر سنوات؛ نظرا لما لقيه الباحثون والنقاد في إنتاجاته من استمرارية لفكره المنفتح على مجالات متعددة: فلسفية، سوسيولوجية، سيميولوجية… ولانخراطه في أشكال إبداعية مختلفة: الرواية، الشعر، المسرح… وأيضا لمساءلته، بشكل نادر، للوجود ولكينونة الإنسان العربي، انطلاقا من أسئلة تمس الثقافة العربية، بالحفر في محطاتها الأساس، وفي هوامشها؛ حيث المغيب، والمسكوت عنه، واللامرئي. فاشتغاله على الجسد العربي في تجلياته المتعالية، المسكون بالرغبات، وبحثه المستميت عن نقطة الانفلات، تجسد أفق التفكير عنده. فهو ما برح يسائل الذات في آخرها، والآخر في هذه الذات، مؤسسا لفكر مغاير، بتهديمه لكثير من المفاهيم، إسوة بالسلالة التي ينتمي إليها: فوكو، دريدا، بارت، بلانشو، هايدغر… لذلك فهذا الانشغال بالخطيبي، نابع من نصوصه المتعددة، ومن تداخل الأشكال والأجناس في كتاباته، ومن تفرده في القراءة.
في السياق ذاته، صدر هذه السنة (2020) كتاب جديد (بالفرنسية) عن هذا المفكر بعنوان: عبد الكبير الخطيبي: ذاك الذي يأتي من المستقبل، وهذا العنوان يحيلنا طبعا على أننا ما زلنا في حاجة إلى هذا المفكر، أو أننا لم نغص بما فيه الكفاية، للقبض على الإشكاليات التي وقف عندها، والأسئلة التي قارب بها الثقافة العربية. ولم نشتغل بعد باستراتيجياته، التي تبيد الزائف، وتنعش الفكر المغاير، الذي يجعل من الباحث ذاك النباش (محمد خيرالدين) الذي يحفر في اتجاه الجرح. لذلك فكثير من الدراسات ترى أن فكر الخطيبي لا ينتمي إلى الماضي، بل هو آت من المستقبل، وهو ما يعني أننا ما زلنا في أمس الحاجة إلى هذا الفكر. الكتاب هو مؤلف جماعي، بأقلام نخبة من الباحثين والنقاد المنشغلين بفكر الخطيبي، وهو من تنسيق الباحث المغربي عبد الغني فنان. ورغم أن الكتاب غير مبوب، فإننا نرى أنه يمكن تقسيمه إلى مجالات ثلاث: الفكري، الإبداعي، الفني.
نحو فكر مغاير:
يعتمد عبد السلام بنعبدالعالي في بحثه على تحديد علاقة الخطيبي بالتراث الفلسفي، ويستنتج أن “معظم الأفكار الفلسفية في كتابات الخطيبي لا تأتي نتيجة تحليل، أو كما يقول هو، بعد دريدا، نتيجة تفكيك المفاهيم وتقصي أصولها، وإنما نتائج لتحاليل قام بها غيره(…) وبالرغم من هذه السمة الظاهرية فنحن لا نستطيع أن ننكر أن الروح الفلسفية تظل ماثلة في كتابات الخطيبي لا كعناية بتارخ الفلسفة ولكن كسلوك على مستوى النظرية، كاستراتيجية (…) فعند الخطيبي دعوة إلى الفلسفة كاستراتيجية وبرنامج”. من هنا يقف عبد السلام بنعبد العالي عند أهم “المفاهيم” /المفاتيح لفكر الخطيبي، ليبرز استراتيجية هذا المفكر، وتعدد الخيوط التي تتشابك من خلالها أسئلته ومقارباته. ويعتبر النقد المزدوج نواة تحليلاته وأبحاثه الفكرية في القضايا العربية، وهو أساس هذا الفكر المغاير الذي لا يتكئ على أي نموذج، لأنه ينطلق من عدة تخصصات، ويتبع عدة طرق، لكتابة تتموقع بين السوسيولوجيا والسميولوجيا والفلسفة المعاصرة.. لأنه، كما قال في أحد أهم أبحاثه المغرب أفقا للفكر، “مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية”. من هنا يأخذ على عاتقه نقد الفكر الغربي أيضا، لكن من خلال رؤية المفكرين الغربيين المتنوريين. وحتى حين يتواجه كمفكر مع الثقافة العربية، فإنه ينطلق من محطاتها المتنورة، التي أسست لفكر صاعد من حروب ومعارك مع الميتافيزيقا. والخطيبي لا يميز بين ثقافة عالمة وثقافة شعبية، لأن ما يهمه هو الحفر في اتجاه “الاسم الشخصي”؛ أي الجسد “العربي” في تعدد مكوناته الثقافية، باحثا في انعطافاته على تلك الخدوش والجراحات، مقتفيا آثارها في اللامفكر فيه وفي الهوامش.
ويؤكد الباحث عبد الله ساعف على هذه التعددية التي تسكن فكر الخطيبي، وتخترق أبحاثه وإنجازاته، وبأنه يعمل في واجهات متعددة. إلا أن النقد المزدوج والفكر المغاير تعبر مجمل كتاباته، وتطبعها بحساسية خاصة. فبالإضافة إلى أبحاثه في الفكر والنقد الأدبي، وقراءاته السميائية للثقافة الشعبية، وإبداعاته في مجال الرواية والشعر، فإنه اشتغل على قراءة الفكر المغربي من خلال ما أنتجه من خطابات: النزعة التراثية، النزعة السلفية، النزعة العقلانية. وقد اشتغل ساعف من أجل موقعة الخطيبي، فيما هو سياسي، مبرزا مكانة السياسي في أعماله، منطلقا من أنه مفكر آت من السوسيولوجيا، كاشفا عن أن فكره واشتغالاته التحليلية، تمس الفرد فيما يعيشه في يومه، وتفكك خيوط المجتمع، لتجلية الاختيارات الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولا يقف الباحث عند هذا الحد، بل يحفر في انخراط الخطيبي في الحقل السياسي وما نتج عنه من أعمال، وكل ذلك عبر استراتيجية الهوية والاختلاف، والدفع بعيدا عن أي هوية عمياء، وعن أي اختلاف متوحش، وهو ما يؤكده الخطيبي في هذا الصدد حين يقول: “إن المغرب كأفق للفكر، لم يعرف بعد. فمن جهة، ينبغي أن ننصت إليه وهو يلهج بلغته الخاصة(بلغاته)، ومن جهة أخرى، فوحده الخارج إذا ما أعيد التفكير فيه، وزحزح عن مركزيته، وخلخل، وأبعد عن تحديداته المهيمنة، وحده هذا الخارج من شأنه أن يبعدنا عن الهوية العمياء والاختلاف المتوحش… وحينئذ سنتجه نحو فكر يتيم لا يخضع إلا لسيادة نفسه. هذا هو المعنى الآخر لما نقصد إليه بالتشبت بالفوارق، وتلك هي العلاقة التي نرتئيها مع فكر الاختلاف.”
الفن باعتباره مساءلة للكائن:
يعتبر عبد الكبير الخطيبي من المفكرين العرب القلائل الذين، من داخل تصوراتهم الفكرية، يسائلون الفن. ويتساءل الباحث موليم العروسي؛ من أين جاء هذا الاهتمام بالفن عند الخطيبي؟ وهو سؤال مشروع، لأنها مسألة نادرة في الثقافة العربية، بخصوص المفكر الذي يحلل أوضاع المجتمع، ويأخذ على عاتقه مستقبل أمة. فالخطيبي منسجم في عمله الفكري؛ مادام “مشروعه” يبحث في آثار الذاكرة الموشومة، وهو سليل مفكرين رحلوا أسئلتهم الفكرية إلى مجال الفن، بحثا عن مسارات أخرى تضيء عتمة الفكر. هكذا فمنذ كتابه جرح الاسم الشخصي/ (الإسم العربي الجريح) (1974) الذي تناول فيه سيميائيا العلامة والوشم والأثر، يضيف في (1976) بحثه الأساس في الفن التشكيلي حول أحمد الشرقاوي، فــــ “الأول يسائل الهوامش، اللامفكر فيه، المكبوت، والآخر تم تطويره في صيغة تأمل هايدغري، لمساءلة أعماق الكائن، جاعلا من صباغة الشرقاوي ذريعة لذلك”. هكذا تتعدد أبحاثه: الفن التشكيلي، الصورة الفوتوغرافية، الزربية، الخط العربي… متتبعا آثار الذاكرة في هذا الجسد المتعدد، الذي يحتاج إلى استراتيجيات مختلفة لا قتحام عزلته. إن الخطيبي يدرك جيدا، بإنصاته للدرس الهايدغري، بأنه في الفن يصاغ ما هو أهم في الفكر.
ويتابع الباحث حسن لغدش الحفر في علاقة عبد الكبير الخطيبي بالفن، وخصوصا الكاليغرافيا العربية الإسلامية، مؤكدا أن هذا الأخير بدأ الحديث عن الخط العربي منذ كتابه “جرح الاسم الشخصي”، وبعد ذلك من خلال القراءة التي أسهم بها مع طوني ماريني وإدمون عمران المالح عن أعمال أحمد الشرقاوي، ثم الكتاب المشترك مع محمد السجلماسي “فن الخط العربي” (1976). وسيركز الباحث في تحليله على هذا الأخير، وهو كتاب فني فاخر، رابطا إياه بسياق إنتاج الخط العربي وتطوراته في العالم العربي الإسلامي. وفي ثنايا هذه الدراسة يبدو أن الحديث عن الخطيبي ماهو إلا ذريعة لتناول إشكالات الكاليغرافيا العربية الإسلامية وتطورها والتصورات المنتجة حولها. من هنا يعمق البحث اشتغاله على الحدود التي وقف عندها الخطيبي وحدود أسئلته المطروحة.
وفي صميم موضوع الفن، والطريقة التي يتبعها عبد الكبير الخطيبي في علاقته بما تنتجه الثقافة العربية الإسلامية، من خلال أشكالها الرمزية، يرى الباحث رشيد بنلباح أن “أفكار الخطيبي وتحاليله لا تتحقق في خطاب علمي صرف ،مجرد وخطي. ففي بعض الأحيان، يتبنى الكاتب تأملا فلسفيا، وأحيانا يتموقع في المقاربة الأنثروبولوجية، خصوصا في نصوصه عن الجسد والوشم والصور الإسلامية”. فقراءته التأويلية تركز على أن تناقض الأرثودوكسية المعيارية والمعنوية، بل حتى تلك الخاصة بالرؤية؛ لأنه يبحث عن هدم بدهيات وقناعات المعنى العام. وفي الوقت ذاته، يسائل الإثنوغرافية الغربية التي فرضت المقاربة المسماة متعصبة في تحاليلها للمجتمع الإسلامي ولإنتاجاته. ولذلك فرؤية الخطيبي لعمله هذا استوجبت أن يمارس إبدالا هاما في طريقة التفكير، مما دفعه إلى تطوير بعض المفاهيم مثل “التقاليد في صيرورة”. هكذا يتجه هذا البحث نحو تأطير الطريقة التي تؤول بها الكاليغرافية التشخيصية القديمة المنمنمات ذات المواضيع الإسلامية.
خاتمة:
لقد ركزنا في هذه التقدمة على منحيين في عمل الخطيبي: الفكري، والبحث في الفني. لاستخلاص هذا الجانب المهم في أعماله، وإبراز كيف لمفكر إذا أراد الحفر عميقا في إشكالات ثقافته، أن لايرتكز فقط على النصوص المكتوبة، وعلى الثقافة العالمة، بل عليه أن يدخل في صميم عمله الجانب البصري / الفني والثقافة الشعبية، ومن له هذه القدرة؟ في كتاب الخطيبي: ذاك الذي يأتي من المستقبل دراسات كثيرة تناولت إضافة إلى ما انشغلنا به، إبداعاته الروائية والشعرية ونصوصه المفتوحة، والإشكالات التي خاض فيها صاحب الذاكرة الموشومة في سياق إنتاجاته مثل الفرنكوفونية، ومسألة الكتابة وتجلياتها في إبداعاته وأبحاثه، وما يخص مفهومه الأساس التحاب aimanceوكيفية اشتغاله على المستوى النظري والشعري والتراسلي.
إن تعدد المجالات التي يشتغل فيها عبد الكبير الخطيبي، تستدعي مقاربات مختلفة، ومتباينة، وتحفز الباحث على إنتاج كتابة أخرى، تسمح بطرح الأسئلة وتجديد الرؤية التأملية والفكرية للثقافة العربية الإسلامية، وللكائن في علاقته بإرثه الثقافي والرمزي، وأيضا لمساءلة الذات وهي تواجه إشكالات وجودية ما فتئت تتغير وتُبدل من مواقعها. فقراءة الخطيبي في تعدده تتيح للباحث الخوض في أهم الأسئلة التي تهم مستقبل الإنسان العربي، وتجعله ينخرط في تطوير تحليلاته، واستخلاص أجوبة ولو كانت مغايرة ومختلفة عما طرحه الخطيبي.
إبراهيم أولحيان