خلال العقد الأول من القرن العشرين (مداخلة الدكتور عبد العزيز السعود) .. سعيد بالمشاركة في تقديم كتاب ألكسندر جولي «الحرف والصنائع بتطوان في العقد الأول من القرن العشرين» والذي قام بترجمته ونقله إلى اللغة العربية الأستاذ الباحث جمال الدين العمارتي في شكل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة بجامعة عبد الملك السعدي. وقد سعدت أيضا لأنه منحني فرصة ثانية لإعادة قراءة هذه المنوغرافية بعد أن كنت اطلعت عليها في الثمانينيات من القرن الماضي واستفدت منها أيما استفادة في بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ من جامعة محمد الخامس. ويتميز العمل الذي قام به المترجم المذكور بأنه جيد اعتمد فيه على لغة سلسة وسهلة وواضحة بالرغم من المجهود الذي بذله في ترجمة عديد من المصطلحات والمفردات التقنية والفنية والوقوف على نطقها السليم رغم أن المؤلف نفسه اجتهد كثيرا في كشف أسرارها بالوقوف عند جذور الكلمات الفنية واشتقاقاتها في العربية ومقارنتها بالبربرية أو بالفرنسية. وقد ذيل المترجم العمل بمعاجم للصنائع التطوانية وبكشاف لمعجم الصنائع وكشاف للأشكال والرسوم وآخر للأماكن والأعلام.
ونعود إلى صاحب المنوغرافية جولي الذي قدم في سن مبكر إلى شمال أفريقيا حيث رافق العالم الجيولوجي والمستكشف «جورج برطلومي فلامان» في بعثة سنة 1889 إلى تيدكلت والتي انتهت باحتلال منطقة عين صالح وكما كان عضوا في البعثة العلمية إلى المغرب ما بين سنتي 1904 و1906. واشتغل مدرسا للغة العربية في قسنطينة وفي الجزائر وعين وكيلا لوزارة التعليم العمومي بها. ونشر دراسات حول جغرافية الجزائر وتونس في مجلة «الجمعية الجغرافية للجزائر» وكتب مونوغرافية شاملة عن مدينة تطوان تاريخا وجغرافية نشرها في أعداد من مجلة «الأرشيفات المغربية»، وكما نشر عدة أبحاث تاريخية وسوسيولوجية وألسنية في «المجلة الأفريقية» مما يشهد على سعة معارفه وتنوعها.
لقد تحدث جولي بشكل مسهب عن الصنائع والحرف التي كانت موجودة في تطوان في مطلع القرن العشرين وخصص حيزا هاما لحرفة الدباغة التي كانت تعد في السابق من أهم الحرف في المغرب وأكثرها انتشارا في الحواضر بالخصوص، وقد تشكلت حنطة الدباغة من يد عاملة تميزت ببنية قوية وبانخراطها في أكثر الطرق الصوفية شعبية وهي الطريقة العيساوية بيد أن هذا الجانب السوسيوتقافي لم يتناوله المؤلف لكنه قدم وصفا دقيقا وشاملا للحرفة بمختلف مراحلها وتنوع أدواتها وتحدث عن الصنعة المرتبطة بها ارتباطا وثيقا وهي الخرازة ونعتها بالبلاغجية وهي كلمة دخيلة على المجتمع التطواني وربما استعملها الجزائريون المستوطنون بتطوان أو أنه حملها معه من الجزائر حيث لم يزل التأثير العثماني، ولهذا نراه يعمد في غالب الأحيان إلى المقارنة بين أسماء الأدوات في الجزائر وفي تطوان، وقد ذكر بأن تلمسان هي من حيث العادات والتقاليد مغربية أكثر منها جزائرية.
وقد وفق المؤلف كثيرا في التوصل إلى أصل الكلمة التقنية واشتقاقها في العربية بسبب معرفته باللغة العربية إلا أنه لم يوفق في نظرنا أحيانا مثلا عند بحثه عن اشتقاق لفظ «البقاوق أو البقيقات» فقال إنه مشتق من جذر «بق» والبقاق هي أوعية قديمة والفعل هو بق [بالفتح مع التشديد على القاف] ويعني كثر وطلع، يقال: بق البيت وأبق أي كثر بقه والبق حيوان عدسي مفرطح. وفسر التكميد بالضرب بقوة وأضاف في الهامش كمد يعني لين وأزال اللمعان لكن المعنى الأصح هو الدق.
وعرب المترجم عبارة L’industrie de la terre cuite بصناعة الطين المشوي، والفعل شوى يشوي شيا فيقال شوى اللحم أي عرضه للنار فنضج، والشوي ما يشوى من اللحم وأقترح استعمال كلمة نضيج على صيغة فعيل بدل المشوي.
ويقدم لنا المؤلف بخصوص صناعة الخزف صورة قاتمة عن ورشات الفخارين الذين يتخذون من المغارات التي هي في الأصل حفر في الصخور الكلسية غرب المدينة، ويعطينا صورة مفصلة عن الأدوات المستعملة وعن شكل الأفران وأفادنا بمعلومة تاريخية عن أحباس مقلع الطين بالطويلع على مسجد المعمورة. وذكر كلمة تبرية وهي أداة خزفية والصحيح أنه ينطق بها طبيرية في تطوان. وذكر لفظ فنطوزة وفناطز أو فنطوزات ووصفها بأنها أوعية عنقها ضيق وقصير وبطنها عريض وقاعدتها مستوية ولم يعرف أصل الكلمة. أقول إن أصلها إسباني Ventosa وتعني كأس الحجامة ويستعمل لفظ فنطز في الدارجة استعمالات عدة. ومع ذلك فإن المؤلف تمكن من معرفة أصل بعض الكلمات من الإسبانية معتمدا في ذلك على «معجم أصول اللغة الإسبانية العام» لإتشيغاراي. وقد ذكر المترجم في نقله القطع المزججة وكنت أحبذ استعمال كلمة المزلجة لأنها أجزاء من الزليج وقد أفاض المؤلف في الهامش في اشتقاق كلمة الزليج.
وأما صناعة المعادن فعدها كثيرا ومن أهمها صناعة السلاح والمقصود المكاحل وتتضمن ثلاث حرف منفصلة: صناعة الجعاب وحرفيوها هم الجعايبية وقد ذكر أنها انتقلت إلى المغاربة عن طريق أسير برتغالي!! وقدم لنا تفصيلا وافيا عنها فذكر أسماء أجزائها وبين أنها شهدت في الفترة التي زار فيها المدينة تدهورا تاما وأن عدد العاملين في تقهقر كبير. ثم صناعة الزناد والقائمون بها هم الزنايدية وعدها حرفة مكسبة وتناولها بأقل تفصيل. وأما صناعة السرير والسرايرية فتحدث عنها ضمن صناعات الخشب والعظام وعدها أيضا حرفة مدرة للربح وتتطلب بعض المهارة. ثم تطرق إلى الحدادة وعدد أدواتها ومصنوعاتها فذكر منعلو الدواب وسماهم بياطرة!! والمهارزية أو مذيبو النحاس وهم من يهود الملاح، والصفارون أو القزادرية وهي حرفة حملها معهم الجزائريون المهاجرون وقد ذكر اسم شخص من قسنطينة ورد ذكره أيضا في رواية الزاوية للتهامي الوزاني واسمه صالح القسنطيني. ثم السمكرية أو جوالقية وحرفة الصاغة وجل متعاطيها من اليهود.
صناعة النسيج والملبوسات ومنها صناعة غزل الصوف وحل الحرير وغالبية المتعاطين لحرفة الحرير من الجزائريين المستقرين في تطوان وأشهرهم عائلات ابن زكري وابن صيام والحرار. ويدخل ضمن هذه الصناعة صنع الأزرار أو الأعقاد والبريم أو الضفيرة والأحزمة ومنها الكرازي التي كانت تصدر خارج تطوان والتكة وهي حزام صغير يمرر عبر ثنية السروال العربي تصنعه الجزائريات وقد كنا نسمع أهلنا يذكرون السروال دالتكة. فضلا عن المجدول والحمالة.
والحياكة وتتم داخل الدراز الذي هو ورشة الحائك ويستعمل فيها المنوال أو المرمة. ويذكر جولي أن هذه الحرفة أمست عشوائية وأن العمل فيها غير منتظم ونشاطها ضعيف نتيجة لارتفاع أسعار المواد الأولية من صوف وقطن.
وتحدث عن صناعة الحصير وعن الحصارين ومن أشهرهم عائلة الحسيسن التي كان أفرادها يصدرون الحصر إلى الجزائر ووهران وقال إن الأب الذي أمضى فترة من شبابه بمدينة الجزائر ربما هو من أدخل هذه الصنعة إليها.
حرفة الطرز على الجلد والقماش. وذكر بأن الجزائريين هم من اشتهر بطرز الجلد بالذهب والفضة وأورد اسم أحدهم آنذاك وهو محمد بن الفاضل.
وتناول في كتابه أيضا صناعات أخرى كثيرة كصناعة الخشب والعظام وعددها وتحدث عن عمال المباني وعددهم وعن مهن التغذية وصنائعها متحدثا عن المطاحن والأفران والمطاعم وعن صناعة المشروبات الغازية والكحولية فقال عن هذه الأخيرة وتصنع كثير من العائلات الأهلية المسلمة بتطوان الخمور خاصة النبيذ المغلي الذي يدعى «صامت بوغلية» وأنه كانت توجد بتطوان في الماضي معصرة عمومية في ملكية الأحباس، وأن النبيذ هو الوحيد الذي نجده في كل المنازل المسلمة والمسيحية واليهودية.
وتحدث عن حرف البحر وصنائعه وذكر أنه يشتغل فيها بحارة ريفيون وإسبان والذين يزاولون أيضا مهنة الصيد، وكما عدد أسماء الأسماك والقشريات والثدييات البحرية عند أهالي تطوان. وختم بمهن وصنائع صغيرة عديدة.وتحدث في الخاتمة عن حال الصناعة التطوانية فقال إنها تعيش أوج انحطاطها وقد بدأ اندحارها الناتج عن المنافسة الأوربية وعن التحولات الاقتصادية الناجمة عن استقرار الأوربيين التدريجي والمتزايد في المغرب. وقد كانت منتجات تطوان تصل إلى الرباط وفاس والصويرة والأندلس والمشرق فصارت اليوم لا تصدر على الساحل الغربي سوى بنادق نادرة ذات طلقة واحدة واختفت أيضا الأسواق المعدة خصيصا لبيع الحرير والقطن وأصبح تصدير البلاغي الذي كان يمتد في السابق إلى القاهرة شبه منعدم وأضحت الأحزمة التي كانت تصنعها 500 ورشة غير رائجة. فهل يمكن ألا نعبر عن إحساس صادق بالأسى أمام اندثار صنائع كانت منتجاتها في الغالب مطبوعة بطابع فني أصيل؟.
د. عبد العزيز السعود