قضاء وقدر العربي اليعقوبي ومحمد العربي العوامي يودعان ويغادران إلى دار البقاء في يوم واحد كانا فنانين أصيلين ملتزمين عاشقين لطنجة حتى النخاع
الجمعة 15 أبريـل 2016 – 12:53:55
في يوم واحد، خطفت يد النون رمزين من رموز النهضة الثقافية الحديثة بمدينة طنجة، اتحدا في خدمة الفن واختلفا في تعاطيهما مع أشكاله وأجناسه وتلوناته.
في يوم واحد، ودعا، وغادرا إلى دار البقاء، وووريا تراب طنجة، التي عشقاها حتى النخاع، مسقط الرأس، ومصدر الإلهام ، وظلا وفيين لها إلى الرمق الأخير. إنهما “العربيان”، العربي اليعقوبي والعربي العوامي اللذان طبعا الحركة الثقافية والفنية، ولعقود، بهذه المدينة، بحضور متواصل وإبداعات متميزة. العربي اليعقوبي، فلتة من فلتات الثقافة المغربية الحديثة، ولد لكي يكون كبيرا، عظيما، رائدا، معلما، عبقريا، متعدد المواهب في شتى الفنون بمختلف أوجهها وأشكالها وفروعها ، رجل مسرح، وسينما، وإخراج، وتنفيذ ، وكتابة سيناريوهات، وتصميم ملابس، وتزيين بصيت عالمي، ومهندس ديكور، ومستشارا لكبار المخرجين العالميين، الذين استفادوا من خبراته الواسعة في مختلف هذه المجالات، واطمأنوا إلى صواب آرائه حول طرق تنفيذ الأعمال المسرحية والسينمائية الكبرى. لقد كان، رحمه الله، موسوعة علمية في مجالات تخصصه، كاتبا ومؤلفا ومخرجا ومصمم ملابس مسرحية وسينمائية، ، قل نظيره بالمغرب بل وبإفريقيا والعالم العربي، ابتكارا وإنشاء وخبرة وذكاء وفطنة وقوة شخصية وإرادة. العربي اليعقوبي طبع فترة مشرقة من تاريخ المسرح والسينما بالمغرب وترك بصماته الواضحة والبارزة على العديد من الإنتاجات السينمائية العالمية، أضفى عليها من خبرته وعبقريته ما جعل اسمه يقفز إلى المرتبات الأولى المتميزة بين كبار الفنانين العالميين المرموقين.
إنه العربي اليعقوبي ! أبرز الوجوه المسرحية والسينمائية المغربية وواحد من أشهر من أنجبتهم مدينة طنجة الغنية بأدبائها ومثقفيها ومبدعيها . نشأ طفلا وحيدا مدللا، في أسرة محافظة ميسورة، وكان حريصا على أن يجمع حوله ثلة من أترابه في حارة التسولي، بين وادي أحرضان ودار البارود، يشاركهم لعبه العديدة التي كانت تهدى له من أسرته، فكان يظهر تارة بلباس “شيريف المريكان” بقبعته المتميزة، ومسدس من كل جانب، وتارة بلباس زعيم قبائل الهنود الحمر، بقبعة الريش المتعدد الألوان، والنبل بيده وتارة أخرى بلباس شيخ من شيوخ العرب بعقاله والصقر الذي لا يفارق كتفه، ومع كل زي يلبسه، يتقمص “شخصية” صاحبه ويحاول تقليد لغته. ذلك كان مسرحه الأول، وأولئك كانوا جمهوره الصغير، قبل أن يواجه جمهورا بحجم العالم ومسرحا بفضاء الكون !… إنه العربي اليعقوبي الذي انتقل إلى جوار ربه زوال الثلاثاء خامس أبريل الجاري، إثر وعكة صحية سببها تبعات السن الذي لا يرحم، والإرهاق الذي لا يلطف ولا يرأف، بعد سنوات عمر طويل، قضاهـا راهبا في معبد “ديونيزوس” ، إله المسرح عند الإغريق، خادما خاشعا متفانيا خلال ما يربو عن نصف قرن، ومنذ أن ارتبط بفرقة المعمورة، التي كانت النواة الأولى لمسرح مغربي حديث، يستمد وجوده من الخبرة الفرنسية العتيدة، ومن التجارب المسرحية العفوية المغربية: البساط، والحلقة، وسلطان الطلبة، وغيرها من أشكال الفرجة، التي تزخر بها ثقافتنا الشعبية ، إلا أن يد “العابثين” عبثت، وبقوة، بهذه التجربة الفتية الواعدة، في ظروف نفضل عدم الرجوع إليها.
في المعمورة، وبجانب الفنان الفرنسي المبدع أندري فوازان، كان الشاب العربي اليعقوبي ، مع ثلة من رواد المسرح المغربي الحديث، شعلة من ذكاء وحركة وابتكار…يكتب نثرا وشعرا، يلحن ويغني ويصنع ديكورات المسرحيات المبرمجة، ويقلد، ويمثل…ذاك كان همه الكبير !… فرقة المعمورة، التي صنعت للمسرح المغربي، مبكرا، شهرة عالمية، إثر مشاركتها الناجحة في مهرجان مسرح الأمم، بباريس، سنة واحدة بعد الاستقلال، بمسرحيتين، واحدة مغربية من تأليف جماعي “الشطاب” والثانية من ربيرتوار الشاعر الفرنسي الخالد، موليير”عمايل جحا أو Les fourberies de Scapin » كان الفنان العربي اليعقوبي من أبرز صانعي هذا النجاح، إلى جانب أحمد الطيب العلج، وفاطمة الركراكي، والسعيد عفيفي، والطيب الصديقي، وعائد موهوب، وغيرهم، هذه الفرقة العتيدة، شهدت نهاية كارثية، بالرغم من الإعجاب الكبير الذي كانت تحظى به لدى الراحل الحسن الثاني رحمه الله، وتم توزيع روادها على بعض أقسام الشبيبة والرياضة، وتكلف العربي اليعقوبي بإنشاء وتنشيط دور الشباب بالمغرب.
العربي اليعقوبي كان حاضرا في كل محطة من محطات المسرح المغربي الحديث منذ خطواته الأولى، كما أنه قام بدور هام في تنشيط مسرح الهواة، بطنجة مؤلفا ومخرجا وممثلا بارعا تتلمذ على يده العديد من عشاق المسرح بالمغرب. إنه الفنان الأصيل العربي اليعقوبي الذي مات وفي حلقه غصة، ظلم ذوي القربى، “الأشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند”. ذلك أنه بعد “تفجير فرقة المعمورة” والتحاقه بالشبيبة والرياضة، استجاب لدعوة من المخرج العالمي السوري الراحل مصطفى العقاد، للمشاركة في فيلم “الرسالة” الأمر الذي تسبب في فصله نهائيا عن وظيفته، بقرار من مسؤول كبير، بالوزارة، كان “طنجاويا” للأسف الشديد. المؤلم أنه بالرغم من تدخل نصف سكان طنجة، لدى المسؤول المذكور فإنه رفض التراجع عن قراره، ووجد العربي اليعقوبي نفسه، بين يوم وليلة، في مقهى “باليما”، بدون عمل ولا راتب.
ولكن العربي اليعقوبي الذي كان نجمه قد بدأ يسطع، في مجال السينما العالمية، كممثل ومصمم أزياء وكخبير في اختيار مواقع التصوير، سرعان ما تلقى عروضا للعمل في أفلام عالمية، “عطيل” لأورسون ويلز، و “لورانس العرب” ل دافيد لين، والرغبات الأخيرة للمسيح للأمريكي مارتين سيكورسيزس، و “الفرس الأسود” للأمريكي كارول بير، والرسالة وعمر المختار لمصطفى العقاد وغيرها كثير. كما شارك في العديد من الانتاجات السينمائية لمنخرجين ومنتجين إسبان وإيطاليين وفرنسيين وغيرهم، استعانوا بخبرته واستفادوا من تجاربه ومؤهلاته الواسعة. مغربيا، أدى العديد من الأدوار في أفلام سينمائية أبرزت قدراته الهائلة كممثل بارع منها “وشمة” لحميد بناني، وعبد الرحمن التازي، “السفر الكبير” و ”البحث عن زوج امرتني”، و “بادس”، والجيلالي فرحاتي، “شاطئ الأطفال الضائعين” وفريدة بليزيد “كيد النساء” ومومن السحيمي “العايل” وعود الورد للحسن زينون وغيرهم.
العربي اليعقوبي قضى السنوات الأخيرة من عمره بشقته بشارع الحاج محمد التازي، في نوع من العزلة، وفي ضائقة مادية خانقة، حيث أن فصله عن وظيفته بالطريقة الظالمة والمستبدة التي تمت عليها حرمته من “تقاعد” كان يمكن أن يستغله ، على الأقل، في شراء الدواء لأمراض السن والتقدم في العمر، إلى أن تداركته سنة 2014، عناية جلالة الملك الذي تفضل فأمر له بصلة مستمرة إلى أن لقي ربه.
وسبق لجريدة طنجة، أن قادت مبادرة تكريم الفنان الراحل العربي اليعقوبي منذ بضع سنوات، أعطته شحنة من القوة لمواجهة ظروفه الصعبة. كثيرون سوف يذكرون الراحل العربي اليعقوبي ، فنانا أصيلا كاملا، عبقريا، أسدى الخير الكثير لبلاده، في مجال الثقافة والفن، على المستوى الوطني والعالمي، كما سيذكرون عفته وكفافه وعفافه وشجاعته في مواجهة قساوة الحياة في صبر وأناة وترفع عن الشكوى وبشعور سام بالنخوة و الكرامة ، بعيدا عن التملق الذي يطبع علاقات “ناس هذا الزمان” !!!…. هذا هو العربي اليعقوبي الذي قال عنه جلالة الملك وهو يعزي في فقدانه، إنه كان فنانا مبدعا متألقا سواء كممثل أو مصمم أزياء مسرحية وسينمائية، ذاع صيته وطنيا وعربيا ودوليا. رحم الله العربي اليعقوبي لله ما أعطى ولله ما أخذ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.