كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “المغرب بأصوات متعددة” أسامة الزكاري
الخميس 04 غشـت 2016 – 17:49:01
صدرَ كتاب “المغرب بأصوات متعددة” لمحمد العربي المساري ضمن إصدارات “سلسلة شراع” (العدد الثاني، أبريل 1996)، وذلك في ما مجموعه 199 من الصفحات ذات الحجم الصغير. والكتاب – في جوهره – تجميع لفصول متباينة اهتم فيها صاحبها بمقاربة انشغالات النخبة السياسية لمرحلة نهاية القرن 20، راصدا – في ذلك – المرجعيات الكبرى التي صنعت “الأمة المغربية“، والتقلبات التي أثرت في المسار التطوري العام الذي أفرز مقومات الذات المغربية، هوية وتاريخا وثقافة. إنها علاقة الثابت بالمتحول في نظم الدولة والمجتمع وفي عقليات الناس وفي أداء النخب المؤثرة. ويمكن القول إن المساري قد عكس – بحسه الوطني المرهف وبتحليله العميق وبرؤاه الاستشرافية وبثقافته الواسعة -، تطلعات المثقف المتفاعل والمؤثر في محيطه، وكذا آمال المناضل الغيور الذي يجعل من التأصيل لمقومات الهوية المغربية ومن الدفاع عنها، هدفا ساميا في أدائه اليومي وفي اجتهاداته النظرية.
وإذا كان الكتاب يتناول قضايا عامّة في تطور الدولة المغربية من قبيل تراث الحركة الوطنية لمرحلة الاستعمار والعلاقة مع المشرق العربي وخصوصيات التدبير المعاصر للحقل السياسي المغربي، فإن السمة العامة التي هيمنت على الكتاب ظلت تختزل خصوصيات التطور الذي ساهمت به منطقة الشمال في التأثير على المسارات الكبرى للتاريخ المغربي المعاصر.
وفي نفس السياق كذلك، اهتم المؤلف بتشريح تغيرات العلاقات المغربية الإسبانية منذ القرون الماضية وحتى يومنا هذا. ولا غرابة في ذلك، مادام المؤلف يظل أحد أبرز العارفين بواقع منطقة الشمال، في عمقه التاريخي وفي إفرازاته الراهنة، كما أنه يظل أحد أبرز المتخصصين في رصد خبايا العلاقات المغربية الإسبانية، وفي تبدلات إيقاعها، وفي أسس مكوناتها الداخلية والخارجية. إنها اهتمامات متشعبة، عكست وعي نخب منطقة الشمال بـإكـراهــات الـرّاهـن، أداتهــا في ذلك معـرفـة عميقـة بخُصـوصيـات التطَـوُر التــّاريخي للمنطقة ولمحيطها الـوَطَنـي والخــارجي، وسلاحها في هذه المعرفة خبرة المناضل السياسي والوطني الغيور.
تتــوزع مضامين كتاب “المغرب بأصوات متعددة” بين ثمان مواد انسجمت مع المنطلقات العامة للكتابة لدى المثقف والإعلامي والديبلوماسي والمناضل محمد العربي المساري. في هذا الإطار، توقفت الكلمة التقديمية لتحديد الاتجاهات العامة التي كان يسير نحوها المغرب خلال مرحلة نهاية القرن 20. أما في المادة الثانية، والمعنونة بنفس عنوان الكتاب، فقد أعاد فيها المؤلف نشر سلسلة ردود كان قد خص بها جريدة “الأنباء” التي كانت تصدر بالبرازيل خلال فترة تقلد المؤلف لمسؤولية تسيير سفارة المغرب بهذه الدولة. وقد توزعت هذه الردود بين قضايا متعددة، اهتمت أهمها بالكشف عن خصوصيات الاستمرارية التاريخية للدولة المغربية، وبوضعية اليهود المغاربة باعتبارهم أقلية سكنت المغرب قديما، وبحقيقة مسألة عروبة البربر.
وفي المادة الثالثة للكتاب، استحضر المؤلف أبعاد حدث سنة 1930 ودوره في تبلور ظاهرة الحركة الوطنية المغربية، بمرجعياتها السلفية وبأبعادها المغاربية والعربية والإسلامية، وبرؤاها تجاه الغرب، وبعلاقاتها مع مؤسسة الملك، وبآفاق برنامجها السياسي، وبجوهر تعدديتها الخلاقة. أما في المادة الرابعة، فقد فصل المؤلف الحديث عن إشكالية الاستقلال والوحدة في عمل الحركة الوطنية بالشمال، وفي المادة الخامسة، عاد المؤلف للتأمل في راهن منطقة الشمال بخصوصياتها الجغرافية وبحمولاتها التاريخية. وفي نفس السياق كذلك، رصد المؤلف في المادة السادسة من الكتاب، تطور أشكال تعاطي السلطات الاستعمارية الإسبانية مع المشهد السياسي بالمنطقة الخليفية، حيث ميز – في ذلك – بين تدرج هذه الأشكال بين آليات الاحتواء، ثم التعددية المدبرة، فالحزب الإداري الموالي. وفي المادة السابعة، اهتم المؤلف بالكشف عن أوجه العلاقة بين التضامن الأخوي الذي جمع مصر بالمغرب خلال عهد الاستعمار، وبين استقلالية القرار السياسي والديبلوماسي الذي طبع أداء الحركة الوطنية التحررية خلال خمسينيات القرن 20، بما ارتبط بهذه الاستقلالية من تبعات مست في العمق بتناغم المواقف المصرية مع المواقف المغربية خلال هذه المرحلة.
وفي آخر مواد الكتاب، تم إدراج مادة توثيقية هامة حول سيرة المناضل والإعلامي والديبلوماسي محمد العربي المساري، ساهم بها الناقد البرازيلي سيرجيو ريبيرو روزا سنة 1991.
وعموما، أمكن القول إن كتاب “المغرب بأصوات متعددة” قد عكس أوجه الاشتغال الفكري والديبلوماسي التي ولع بها المرحوم المساري طيلة مسيرته الطويلة. كما أن هذا العمل يظل مرآة أصيلة عكست تطلعات نخب منطقة الشمال وآفاق وعيها بمختلف العوامل الداخلية والخارجية التي أوصلت المنطقة إلى مآلها الراهن. إنها رؤية من الداخل لمشاريع النهوض بالمنطقة، وفق فهم عميق بتعقيدات الأمس وبإكراهات اليوم وبمستلزمات الغد.